فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله تعالى: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مّن قَبْلِ صلاة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} يعني ثلاث أوقات، لأنه تعالى فسرهن بالأوقات، وإنما قيل ثلاث مرات للأوقات لأنه أراد مرة في كل وقت من هذه الأوقات، لأنه يكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة، ثم بين الأوقات فقال: {مّن قَبْلِ صلاة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء} يعني الغالب في هذه الأوقات الثلاثة أن يكون الإنسان متجردًا عن الثياب مكشوف العورة.
المسألة الثانية:
قوله: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} قرأ أهل الكوفة: {ثلاث} بالنصب على البدل من قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} وكأنه قال في أوقات ثلاث عورات لكم، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه وقراءة الباقين بالرفع أي: هي ثلاث عورات فارتفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، قال القفال فكأن المعنى ثلاث انكشافات والمراد وقت الانكشاف.
المسألة الثالثة:
العورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان والأعور المختل العين، فسمى الله تعالى كل واحدة من تلك الأحوال عورة، لأن الناس يختل حفظهم وتسترهم فيها.
المسألة الرابعة:
الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين: أحدهما: بقوله تعالى: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} والثاني: بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة وبين ما عداها بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة، وأنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات.
المسألة الخامسة:
من الناس من قال إن قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] فهذا يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال، وصار ذلك منسوخًا بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة، ومن الناس من قال الآية الأولى أريد بها المكلف لأنه خطاب لمن آمن، وما ذكره الله تعالى في هذه الآية فهو فيمن ليس بمكلف فقيل فيه إن في بعض الأحوال لا يدخل إلا بإذن، وفي بعضها بغير إذن.
فلا وجه لحمل ذلك على النسخ، لأن ما تناولته الآية الأولى من المخاطبين لم تتناوله الآية الثانية أصلًا، فإن قيل بتقدير أن يكون قوله تعالى: {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} يدخل فيه من قد بلغ فالنسخ لازم، قلنا لا يجب ذلك أيضًا، لأن قوله: {يا أَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لا يدخل إلا من يملك البيوت لحق هذه الإضافة، وإذا صح ذلك لم يدخل تحت العبيد والإماء، فلا يجب النسخ أيضًا على هذا القول، فأما إن حمل الكلام على صغار المماليك فالقول فيه أبين.
المسألة السادسة:
قال أبو حنيفة رحمه الله: لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ.
وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس ولا أرى أحدًا يعمل بهن، قال عطاء حفظت اثنتين ونسيت واحدة، وقرأ هذه الآية وقوله: {يا أَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] وذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة قوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} [النساء: 8] الآية.
أما قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} ففيه سؤالات:
السؤال الأول: أتقولون في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} أنه يقتضي الإباحة على كل حال؟ الجواب: قد بينا أن ذلك هو في الصغار خاصة، فمباح لهم الدخول للخدمة بغير الإذن في غير الأوقات الثلاثة، ومباح لنا تمكينهم من ذلك والدخول عليهم أيضًا.
السؤال الثاني: فهل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة لهم؟ الجواب: لا وإنما أباح الله تعالى ذلك من حيث كانت العادة أن لا تكشف العورة في غير تلك الأوقات، فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم إليها فذلك يحرم عليها، فإن كان الخادم ممن يتناوله التكليف فيحرم عليه الدخول أيضًا إذا ظن أن هناك كشف عورة، فإن قيل أليس من الناس من جوز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته؟ قلنا من جوز ذلك أخرج الشعر من أن يكون عورة لحق الملك، كما يخرج من أن يكون عورة لحق الرحم، إذ العورة تنقسم ففيه ما يكون عورة على كل حال.
وفيه ما يختلف حاله بالإضافة فيكون عورة مع الأجنبي غير عورة غيره على ما تقدم ذكره.
السؤال الثالث: أتقولون هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم؟ الجواب: نعم وفي قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} دلالة عى أن هذا الحكم يختص بالصغار دون البالغين على ما تقدم ذكره وقد نص تعالى على ذلك من بعد فقال: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} والمراد من تجدد منه البلوغ يجب أن يكون بمنزلة من تقدم بلوغه في وجوب الاستئذان، فهذا معنى قوله: {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} وقد يجوز أن يظن ظان أن من خدم في حال الصغر، فإذا بلغ يجوز له أن لا يستأذن ويفارق حاله حال من لم يخدم ولم يملك، فبين تعالى أنه كما حظر على البالغين الدخول إلا بالاستئذان فكذلك على هؤلاء إذا بلغوا وإن تقدمت لهم خدمة أو ثبت فيهم ملك لهن.
السؤال الرابع: الأمر بالاستئذان هل هو مختص بالمملوك ومن لم يبلغ الحلم أو يتناول الكل من ذوي الرحم؟ والأجنبي أيضًا لو كان المملوك من ذوي الرحم هل يجب عليه الاستئذان؟ الجواب: أما الصورة الأولى فنعم، إما لعموم قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] أو بالقياس على المملوك، ومن لم يبلغ الحلم بطريق الأولى، وأما الصورة الثانية فيجب عليه الاستئذان لعموم الآية.
السؤال الخامس: ما محل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ}؟ الجواب: إذا رفعت {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} كان ذلك في محل الرفع على الوصف، والمعنى هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل، وكان كلامًا مقررًا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
السؤال السادس: ما معنى قوله: {طَوافُونَ عَلَيْكُمْ}؟ الجواب: قال الفراء والزجاج إنه كلام مستأنف كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم، والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد، وأصله من الطواف، والمعنى يطوف بعضكم على بعض بغير إذن.
السؤال السابع: بم ارتفع {بَعْضُكُمْ}؟ الجواب: بالابتداء وخبره {على بَعْضٍ} على معنى طائف على بعض، وإنما حذف لأن {طَوفُونَ} يدل عليه. اهـ.

.قال الجصاص:

باب اسْتِئْذَانِ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} الْآيَةَ.
رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسُفْيَانَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَا: هُوَ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً وَالرِّجَالُ يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ، قَالَ: لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُطْلَقُ فِيهِنَّ الَّذِينَ إذَا انْفَرَدْنَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: اللَّائِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَجُوزُ إذَا عُبِّرَ بِلَفْظِ الْمَمَالِيكِ، كَمَا أَنَّ النِّسَاءَ إذَا عُبِّرَ عَنْهُنَّ بِالْأَشْخَاصِ؛ وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تُذْكَرَ الْإِنَاثُ إذَا عُبِّرَ عَنْهُنَّ بِلَفْظِ الْمَمَالِيكِ دُونَ النِّسَاءِ وَدُونَ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ يَتْبَعَانِ اللَّفْظِ كَمَا تَقُولُ: ثَلَاثُ مَلَاحِفَ فَإِذَا عَبَّرْت بِالْأُزُرِ ذَكَّرْت فَقُلْت: ثَلَاثَةُ أُزُرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْمَمَالِيكِ وَلَيْسَ الْعَبِيدُ؛ لِأَنَّ الْعَبِيدَ مَأْمُورُونَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِالْأَمْرِ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الْإِمَاءِ دُونَهُمْ؛ إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، فَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ السَّرْحِ وَالصَّبَّاحُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ عَبْدَةَ وَهَذَا حَدِيثُهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْته يَقُولُ: لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ آيَةَ الْإِذْنِ، وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَرَى هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الْآيَةَ، إلَى قَوْلِهِ: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ}؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ: إنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سِتْرٌ وَلَا حِجَابٌ فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عَبَّاسٍ هَذَا، وَهُوَ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو: فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَابَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِسَبَبٍ، فَلَمَّا زَالَ السَّبَبُ زَالَ الْحُكْمُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْآيَةَ مَنْسُوخَةً، وَأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَوْ عَادَ لَعَادَ الْحُكْمُ وَقَالَ الشُّعَبِيُّ أَيْضًا إنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
وَهَذَا نَحْوُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمِيرَاثِ بِالْمُوَالَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَوْجَبَ التَّوَارُثَ بِالنَّسَبِ جَعَلَ ذَوِي الْأَنْسَابِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَمَتَى فُقِدَ النَّسَبُ عَادَ مِيرَاثُ الْمُعَاقَدَةِ وَالْوَلَاءِ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ}: أَبْنَاؤُهُمْ الَّذِينَ عَقَلُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى آبَائِهِمْ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ يَقِيلُونَ وَيَخْلُونَ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهِيَ الْعَتَمَةُ فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ اسْتَأْذَنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، إخْوَانُهُمْ إذَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً لَا يَدْخُلُونَ عَلَى آبَائِهِمْ إلَّا بِإِذْنٍ سَاعَةَ يَدْخُلُونَ أَيُّ سَاعَةٍ كَانَتْ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: عَبِيدُكُمْ {وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} قَالَ: مِنْ أَحْرَارِكُمْ؛ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ.
وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْبَالِغَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْبَالِغِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى مَوْلَاتِهِ، فَكَيْفَ يُجْمَعُ إلَى الصِّبْيَانِ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ قَالَ: فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَبِيدَ الصِّغَارَ وَالْإِمَاءَ وَصِغَارَنَا الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشُّعَبِيُّ: هَذَا مِمَّا تَهَاوَنَ بِهِ النَّاسُ وَمَا نُسِخَتْ.
وَقَالَ أَبُو قلابة: لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ}.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: يَسْتَأْذِنُ عِنْدَ كُلِّ عَوْرَةٍ، ثُمَّ هُوَ طَوَّافٌ بَعْدَهَا؛ يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَأْذِنُ عِنْدَ أَوْقَاتِ الْخَلْوَةِ وَالتَّفَضُّلِ فِي الثِّيَابِ وَطَرْحِهَا وَهُوَ طَوَّافٌ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهَا أَوْقَاتُ السَّتْرِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْخَادِمُ وَالْغُلَامُ وَالصَّبِيُّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الدُّخُولِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ.
فصل:
قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حَدَّ الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً؛ إذْ لَمْ يَحْتَلِمْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَهَا وَبَيْنَ مَنْ قَصُرَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ».