فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه: {لَكُمْ} متعلق بمحذوف وقع صفة له أي هن ثلاث عورات كائنة لكم، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان إذا اختل حاله والأعور المختل العين، وعورة الإنسان سوأته وأصلها كما قال الراغب: من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة، وضميرهن المحذوف للأوقات الثلاثة، والكلام على حذف مضاف أي هن ثلاث أوقات يختل فيها التستر عادة، وقدر أبو البقاء المضاف قبل {ثلاث} فقال: أي هي أوقات ثلاث عورات أولًا حذف فيه، وإطلاق العورات على الأوقات المذكورة المشتملة عليها للمبالغة كأنها نفس العورات، والجملة استئناف مسوق لبيان علة طلب الاستئذان في تلك الأوقات.
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي {ثلاث} بالنصب على أنه بدل من {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} وجوز أبو البقاء كونه بدلًا من الأوقات المذكورة، وكونه منصوبًا بإضمار أعني.
وقرأ الأعمش {عورات} بفتح الواو وهي لغة هذيل بن مدركة وبني تميم {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ} أي على الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم {جُنَاحٌ} أي في الدخول بغير استئذان {بَعْدَهُنَّ} أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منهن، وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل كل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفية حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذ الرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان وقوع الفعل المكلف كذا في إرشاد العقل السليم، وظاهره أنه لا حرج في الدخول بغير استئذان في الوقت المتخلل بين ما بعد صلاة العشاء وما قبل صلاة الفجر بالمعنى السابق للبعدية والقبلية، ومقتضى ما قدمنا ثبوت الحرج في ذلك فيكون كالمستثنى مما ذكر.
وكان الظاهر أن يقال: ليس عليهم جناح بعدهن وعدم التعرض لنفي أن يكون على المخاطبين جناح لأن المأمورين ظاهرًا فيما تقدم بالاستئذان في العورات الثلاث هم المماليك والمراهقون الأحرار لا غير، وإن اعتبر المأمورون في الحقيقة فيما مر كان الظاهر هاهنا أن يقال: ليس عليكم جناح بعدهن مقتصرًا عليه، ولعل اختيار ما في النظم الجليل لرعاية المبالغة في الإذن بترك الاستئذان فيما عدا تلك الثلاث حيث نفى الجناح عن المأمورين به فيها ظاهرًا وحقيقة.
والظاهر أن المراد بالجناح الإثم الشرعي، واستشكل بأنه يفهم من الآية ثبوت ذلك للمخاطبين إذا دخل المماليك والذين لم يبلغوا الحلم منهم عليهم من غير استئذان في تلك العورات مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وثبوته للمماليك والصغار كذلك مع أن الصغار غير مكلفين فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي.
وأجيب بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم ولا عبرة به عندنا، وعلى القول باعتباره يمكن أن يكون ثبوته للمخاطبين حينئذٍ لتركهم تعليمهم والتمكين من الدخول عليهم ويبقى إشكال ثبوته للصغار ولا مدفع له إلا بالتزام القول بأن التكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ وهو خلاف ما عليه جمهور الأئمة.
ويرد على القول بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم بحث لا يخفى.
والتزم في الجواب كون المراد بالجناح الإثم العرفي الذي مرجعه ترك الأولى وإلا خلق من حيث المروءة والأدب وجواز ثبوت ذلك للمكلف وغير المكلف مما لا كلام فيه فكأن المعنى ليس عليكم أيها المؤمنون جناح في دخولهم عليكم بعدهن لترككم تعليمهم وتمكينكم إياهم منه المفضي إلى الوقوف على ما تأبى المروءة والغيرة الوقوف عليه ولا عليهم جناح في ذلك لإخلالهم بالأدب المفضي إلى الوقوف على ما تكره ذوو الطباع السليمة الوقوف عليه وينفعون منه.
ولا يأبى ذلك تقدم الأمر السابق ولا ما في الإرشاد من بيان نكتة إيراد العورات الثلاث بعنوان البعدية بما سمعت فتدبر فإنه دقيق.
وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: {كَرِيمٌ يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] منسوخ بهذه الآية حيث دلت على جواز الدخول بدون استئذان بعد الأوقات الثلاث ودل ذلك على خلافه ومن ذهب إليه قال: إنها في الصبيان ومماليك المدخول عليه وآية الاستئذان في الأحرار البالغين ومماليك الغير في حكمهم فلا منافاة ليلتزم النسخ.
ثم اعلم أن نفي الجناح بعدهن على من ذكر ليس على عمومه فإنه متى تحقق أو ظن كون أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين من الأحرار عليها كانكشاف عورة أحدهم ومعاشرته لزوجته أو أمته إلى غير ذلك لا ينبغي الدخول عليهم بدون استئذان سواء كان ذلك في إحدى العورات الثلاث أو في غيرها والأمر بالاستئذان فيها ونفي الجناح بعدها بناءً على العادة الغالبة من كون أهل البيت في الأوقات الثلاث المذكورة على حال يقتضي الاستئذان وكونهم على حال لا يقتضيه في غيرها.
هذا وفي الآية توجيه آخر ذكره أبو حيان وظاهر صنيعه اختياره وعليه اقتصر أبو البقاء وهو أن التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهم فيهن فحذف الفاعل وحرف الجر فبقي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر فصار بعدهن، وعليه تقل مؤنة الكلام في الآية إلا أنه خلاف الظاهر جدًا.
والجمهور على ما سمعت أولًا في معناها، والظاهر أن الجملة على القراءتين السابقتين في ثلاث مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها، وفي الكشاف أنها إذا رفع {ثلاث} كانت في محل رفع على الوصف.
والمعنى هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وإذا نصب لم يكن لها محل وكانت كلامًا مقررًا للاستئذان في تلك الأحوال خاصة، وقال في ذلك صاحب التقريب: إن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه فإذا وصف به {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} نصبًا وهو بدل من ثلاث مرات كان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان.
ويدفعه وجوه مستفادة من علم المعاني:
أحدها: اشتراط تقدم علم السامع بالوصف وهو منتف إذ لم يعلم إلا من هذا.
والثاني: جعل الحكم المقصود وصفًا للظرف فيصير غير مقصود.
والثالث: أن الأمر بالاستئذان في المرات الثلاث حاصل وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف فيضيع الوصف.
وأما إذا وصف المرفوع فيزول الدوافع لأنه ابتداء تعليم أي هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وصفة للخبر المقصود ولم يتقيد أمر الاستئذان به فليتأمل فإنه دقيق جليل انتهى، وتعقب بأن الوجهين الأخيرين ساقطان لا طائل تحتهما والأول هو الوجه.
فإن قيل: هو مشترك الإلزام قيل: قد تقدم في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} ما يرشد إلى العلم بذلك وليست الجملة الأخيرة من أجزائه كما هي كذلك على فرض جعلها صفة للبدل ولا يحتاج مع هذا إلى حديث أن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه بل قيل هو في نفسه ليس بشيء فقد قال الطيبي: إن المقصود الأولى الاستئذان في الأوقات المخصوصة ورفع الحرج في غيرها تابع له لقول المحدث رضي الله تعالى عنه لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزلت الآية.
وفي الكشف أنه جىء به أي بالكلام الدال على رفع الحرج أعني {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} الخ على رفع {ثلاث} مؤكدًا للسالف على طريق الطرد والعكس وكذلك إذا نصب وجعل استئنافًا وأما إذا جعل وصفًا فيفوت هذا المعنى.
وهذا أيضًا من الدوافع انتهى فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى: {طَوفُونَ عَلَيْكُمْ} خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون والجملة استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة.
وفيه دليل على تعليل الأحكام الشرعية وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاث وغيرها بأنها عورات.
وقوله عز وجل: {بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} جوز أن يكون مبتدأ وخبرًا ومتعلق الجار كون خاص حذف لدلالة ما قبله عليه أي بعضكم طائف على بعض، وجوز أن يكون معمولًا لفعل محذوف أي يطوف بعضكم على بعض، وقال ابن عطية: {بَعْضُكُمْ} بدل من {طَوفُونَ} وتعقبه في البحر بأنه إن أراد أنه بدل من {طَوفُونَ} نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم بعضكم على بعض وهو معنى لا يصح وإن أراد أنه بدل من الضمير فيه فلا يصح أيضًا إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقديرهم لأنه يصير التقدير هم يطوف بعضكم على بعض وإن جعل التقدير أنتم يطوف عليكم بعضكم على بعض فيدفعه أن {عَلَيْكُمْ} يدل على أنهم هم المطوف عليهم وأنتم طوافون يدل على أنهم طائفون فيتعارضان، وقيل: يقدر أنتم طوافون ويراد بأنتم المخاطبون والغيب من المماليك والصبيان وهو كما ترى، وجوز أبو البقاء كون الجملة بدلًا من التي قبلها وكونها مبينة مؤكدة، ولا يخفى عليك ما تضمنته من جبر قلوب المماليك بجعلهم بعضًا من المخاطبين وبذلك يقوى أمر العلية.
وقرأ ابن أبي علبة: {طوافين} بالنصب على الحال من ضمير عليهم {قَالَ كذلك} إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعد على ما مر تفصيله في تفسير قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وفي غيره أيضًا أي مثل ذلك التبيين {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} الدالة على ما فيه نفعكم وصلاحكم أي ينزلها مبينة واضحة الدلالة لا أنه سبحانه يبينها بعد أن لم تكن كذلك، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة، وقيل: يبين علل الأحكام.
وتعقب بأنه ليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر ههنا.
{والله عَلِيمٌ} مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم {حَكِيمٌ} في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاحكم معاشًا ومعادًا. اهـ.

.قال القاسمي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: من العبيد والجواري: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي: هي ثلاث عورات لكم. إشارة إلى علة وجوب الاستئذان بأنهن أوقات يختلّ فيها التستّر عادة، ويكون النوم فيها مع الأهل غالبًا. فالهجوم على أهل البيت في هذه الأحوال، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الإباء والكراهة: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} أي: ليس عليكم جناح في ترك نهيهم عن الدخول بلا إذن. ولا عليهم جناح من الدخول بدونه، بعد هذه الأوقات، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته. وذلك لأنهم طوافون عليكم، فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: بعضكم طائف على بعض طوافًا كثيرًا. أو بعضكم يطوف على بعض.
قال الزمخشري: يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام. فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدّى إلى الحرج {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يشرع ما فيه الحكمة وصلاح الحال وانتظام الشأن.
تنبيه:
في الآية إقرارُ ما جرت به العادة من أن النوم وقته بعد العشاء وقبل الفجر ووقت الظهيرة. وقد يستدل بها على أن كشف العورة في الخلوة جائز. كذا في الإكليل. وقال الرازي: الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين: أحدهما بقوله تعالى: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة، وبين ما عداها، بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة، وإنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
استئناف انتقالي إلى غرض من أحكام المخالطة والمعاشرة.
وهو عود إلى الغرض الذي ابتدئت به السورة وقُطع عند قوله: {وموعظة للمتقين} [النور: 34] كما تقدم.
وقد ذكر في هذه الآية شرع الاستئذان لأتباع العائلة ومن هو شديد الاختلاط إذا أراد دخول بيت، فهو من متممات ما ذكر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا} [النور: 27] وهو بمفهوم الزمان يقتضي تخصيص عموم قوله: {لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم} الآيات لأن ذلك عام في الأعيان والأوقات فكان قوله: {الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم} إلى قوله: {ومن بعد صلاة العشاء} تشريعًا لاستئذانهم في هذه الأوقات وهو يقتضي عدم استئذانهم في غير تلك الأوقات الثلاثة، فصار المفهوم مخصصًا لعموم النهي في قوله: {لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا}.