فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورابعها: نقل عن ابن عباس ومقاتل بن حيان نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيًا وخلف بن مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودًا فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، وأما في حق سائر الناس فذكروا وجهين: الأول: كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وقراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فلما نزل قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة}.
[النساء: 29] أي بيعًا فعند ذلك امتنع الناس أن يأكل بعضهم من طعام بعض فنزلت هذه الآية الثاني: قال قتادة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا، قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج، لأنه ليس ثم رب البيت.
فأنزل الله تعالى هذه الرخصة.
المسألة الثانية:
قال الزجاج الحرج في اللغة الضيق ومعناه في الدين الإثم.
المسألة الثالثة:
أنه سبحانه أباح الأكل للناس من هذه المواضع وظاهر الآية يدل على أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان، واختلف العلماء فيه فنقل عن قتادة أن الأكل مباح ولكن لا يجمل، وجمهور العلماء أنكروا ذلك ثم اختلفوا على وجوه: الأول: كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ لك بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه» ومما يدل على هذا النسخ قوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه} [الأحزاب: 53] وكان في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من لهن الآباء والأخوة والأخوات، فعم بالنهي عن ذهول بيوتهن إلا بعد الإذن في الدخول وفي الأكل، فإن قيل إنما أذن تعالى في هذا لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا من بيوتهم حضروا أو غابوا، فجاز أن يرخص في ذلك، قلنا لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى لأن غيرهم كهم في ذلك الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين، وذلك لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] ثم إنه سبحانه أباح في هذه الآية ما حظره هناك، قال ويدل عليه أن في هذه السورة أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك، بل أمر أن يسلموا على أنفسهم، والحاصل أن المقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة، لا إثبات الإباحة في جميع الأقات الثالث: أنه لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك، فيجوز أن يقال خصهم الله بالذكر، لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا فيها، فلا حاجة إلى القول بالنسخ.
المسألة الرابعة:
أن الله تعالى ذكر أحد عشر موضعًا في هذه الآية أولها: قوله: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} وفيه سؤال وهو أن يقال أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه في بيته؟ وجوابه المراد في بيوت أزواجكم وعيالكم أضافه إليهم، لأن بيت المرأة كبيت الزوج، وهذا قول الفراء.
وقال ابن قتيبة: أراد بيوت أولادهم فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء لأن الولد كسب والده وماله كماله، قال عليه السلام: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» والدليل على هذا أنه سبحانه وتعالى عدد الأقارب ولم يذكر الأولاد لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى وثانيها: بيوت الآباء وثالثها: بيوت الأمهات ورابعها: بيوت الإخوان وخامسها: بيوت الأخوات وسادسها: بيوت الأعمام وسابعها: بيوت العمات وثامنها: بيوت الأخوال وتاسعها: بيوت الخالات وعاشرها: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ} وقرئ {مفتاحه} وفيه وجوه: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته، وملك المفاتح كونها في يده وفي حفظه الثاني: قال الضحاك: يريد الزمنى الذين كانوا يحرسون للغزاة الثالث: المراد بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه قال الفضل المفاتح واحدها مفتح بفتح الميم، وواحد المفاتيح مفتح بالكسر الحادي عشر: قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} والمعنى أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون واحدًا وجمعًا، وكذلك الخليط والقطين والعدو ويحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد أخرجوا سلالًا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورًا وضحك وقال هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الصديق أكثر من الوالدين، لأن أهل الجنة لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل بالأصدقاء، فقالوا مالنا من شافعين ولا صديق حميم، وحكي أن أخًا للربيع بن خيثم في الله دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل، فلما عاد أخبرته بذلك، فلسروره بذلك قال إن صدقت فأنت حرة.
المسألة الخامسة:
احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله تعالى بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم، فلا يكون ماله محرزًا منهم، فإن قيل فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه، قلنا من أراد سرقة ماله لا يكون صديقًا له.
أما قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} فقال أكثر المفسرين: نزلت الآية في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئًا، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه، هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال عكرمة وأبو صالح رحمهما الله: كانت الأنصار إذا نزل بواحد منهم ضيف لم يأكل إلا وضيفه معه، فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين ومتفرقين.
وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعامًا عزلوا للأعمى طعامًا على حدة، وكذلك للزمن والمريض، فبين الله لهم أن ذلك غير واجب، وقال آخرون: كانوا يأكلون فرادى خوفًا من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذي، فبين الله تعالى أنه غير واجب وقوله: {جَمِيعًا} نصب على الحال {وأشتاتًا} جمع شت وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت قاله المفضل وقيل الشت مصدر بمعنى التفرق ثم يوصف به ويجمع.
أما قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} فالمعنى أنه تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] قال ابن عباس: فإن لم يكن أحد فعلى نفسه ليقل السلام علينا من قبل ربنا، وإذا دخل المسجد فليقل السلام على رسول الله وعلينا من ربنا.
قال قتادة: وحدثنا أن الملائكة ترد عليه.
قال القفال: وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل السلام على من اتبع الهدى وقوله: {تَحِيَّةً} نصب على المصدر، كأنه قال: فحيوا تحية من عند الله، أي مما أمركم الله به.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: من قال السلام عليكم معناه اسم الله عليكم وقوله: {مباركة طَيّبَةً} قال الضحاك: معنى البركة فيه تضعيف الثواب وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك ثابت لما فيه من الأجر والثواب وأنه إذا أطاع الله فيه أكثر خيره وأجزل أجره {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي يفصل الله شرائعه لكم {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لتفهموا عن الله أمره ونهيه، وروى حميد عن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لم فعلته ولا قال لي في شيء تركته لم تركته، وكنت واقفًا على رأس النبي صلى الله عليه وسلم أصب الماء على يديه فرفع رأسه إلي وقال: «ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بهن؟» قلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله بلى، فقال: «من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك، وإذا دخلت بيتًا فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين». اهـ.

.قال الجصاص:

وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ وَسَبَبِ نُزُولِهِ، فَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَإِنَّ الطَّعَامَ مِنْ أَفْضَلِ أَمْوَالِنَا وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ؛ فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ.
فَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ زَمْنَى وَعُمْيَانٌ وَعُرْجَانٌ وَأُولُو حَاجَةٍ يَسْتَتْبِعُهُمْ رِجَالٌ إلَى بُيُوتِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ طَعَامًا ذَهَبُوا بِهِمْ إلَى بُيُوتِ آبَائِهِمْ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَكَرِهَ الْمُسْتَتْبِعُونَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الْآيَةَ، وَأُحِلَّ لَهُمْ الطَّعَامُ حَيْثُ وَجَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ.
فَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَانِي.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْت لِلزُّهْرِيِّ: مَا بَالُ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ ذُكِرُوا هَهُنَا؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَسَلَّمُوا إلَيْهِمْ الْمَفَاتِيحَ وَقَالُوا: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْهَا، فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ.
فَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ.
وَرُوِيَ فِيهِ تَأْوِيلٌ رَابِعٌ، وَهُوَ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: كَانُوا يَمْتَنِعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ الْأَعْمَى وَالْمَرِيضِ وَالْأَعْرَجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنَالُ مَا يَنَالُ الصَّحِيحُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا التَّأْوِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي مُؤَاكَلَةِ الْأَعْمَى وَإِنَّمَا أَزَالَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فِي الْأَكْلِ، فَهَذَا فِي الْأَعْمَى إذَا أَكَلَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُ مِقْسَمٍ مُحْتَمَلًا عَلَى بُعْدٍ فِي الْكَلَامِ، وَتَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَلَمْ يَكُنْ هَذَا تِجَارَةً وَامْتَنَعُوا مِنْ الْأَكْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إبَاحَةَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ فَهُوَ سَائِغٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ الْعَادَةُ عِنْدَهُمْ بَذْلَ الطَّعَامِ لِأَقْرِبَائِهِمْ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَكَانَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِهِ كَالنُّطْقِ بِهِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْأَعْمَى وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ إذَا اسْتَتْبَعُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ اتَّبَعُوهُمْ وَبُيُوتِ آبَائِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى الطَّعَامِ، وَقَدْ كَانَتْ الضِّيَافَةُ وَاجِبَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِأَمْثَالِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُسْتَحَقًّا مِنْ مَالِهِمْ لِهَؤُلَاءِ؛ فَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ بِغَيْرِ إذْنٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إنْ أَكَلْت مِنْ بَيْتِ صَدِيقِك بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا بَأْسَ، لِقَوْلِهِ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ}.
وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ، فَرَأَى سُفْرَةً مُعَلَّقَةً فَأَخَذَهَا وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَبَكَى الْحَسَنُ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ: ذَكَرْت بِمَا صَنَعَ هَذَا إخْوَانًا لِي مَضَوْا؛ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْبَسِطُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَأْذِنُونَ.
وَهَذَا أَيْضًا عَلَى مَا كَانَتْ الْعَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِهِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي هُمْ سُكَّانُهَا وَهُمْ عِيَالُ غَيْرِهِمْ فِيهَا، مِثْلُ أَهْلِ الرَّجُلِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ وَمَنْ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَنْزِلُهُ فَيَأْكُلُ مِنْ بَيْتِهِ؛ وَنَسَبَهَا إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ سُكَّانُهَا وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِ غَيْرِهِمْ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِبَاحَةَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ إذْ كَانَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَابْتِدَاؤُهُ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ؛ وَقَالَ اللَّهُ: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} فَأَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِبَذْلِ الطَّعَامِ لِأَمْثَالِهِمْ وَفَقْدِ التَّمَانُعِ فِي أَمْثَالِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَكْلَ فِي بُيُوتِ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} قَدْ أَفَادَهُ؛ لِأَنَّ مَالَ الرَّجُلِ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَقَالَ: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ»، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ عَنْ ذِكْرِ بُيُوتِ الْأَوْلَادِ؛ إذْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً إلَى الْآبَاءِ.