فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
في كتاب الزهراوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الطوائف كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذارًا من استقذارهم إياهم وخوفًا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت.
وقيل: كانوا يدخلون على الرجال لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو إلى بعض من سماهم الله تعالى في الآية الكريمة فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: ذهب بنا إلى بيت غيره ولعل أهله كارهون لذلك.
وكذا كانوا يتحرجون من الأكل من أموال الذين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو وخلفوا هؤلاء الضعفاء في بيوتهم ودفعوا إليهم مفاتيحها وأذنوا لهم أن يأكلوا مما فيها مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس منهم.
وكان غير هؤلاء أيضًا يتحرجون من الأكل في بيوت غيرم، فعن عكرمة كانت الأنصار في أنفسها قزازة لا تأكل من البيوت الذي ذكر الله تعالى، وقال السدي: كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج لأجل أنه ليس ثم رب البيت، والحرج لغة كما قال الزجاج الضيق من الحرجة وهو الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه، وقال الراغب: هو في الأصل مجتمع الشيء ثم أطلق على الضيق وعلى الإثم، والمعنى على الرواية الأولى ليس على هؤلاء حرج في أكلهم مع الأصحاء، ويقدر على سائر الروايات ما يناسب ذلك مما لا يخفى، و{على} معناها في جميع ذلك، وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} [النساء: 29] تحرج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار لمكان جولان يد الأعمى وانبساط جلسة الأعرج وعدم خلو المريض من رائحة تؤذى أو جرح ينض أو أنف يذن فنزلت.
ومن ذهب إلى هذا جعل {على} بمعنى في أي ليس في مؤاكلة الأعمى حرج وهكذا وإلا لكان حق التركيب ليس عليكم أن تأكلوا مع الأعمى حرج وكذا يقال فيما بعد وفيه بعد لا يخفى، وقيل: لا حاجة إلى أن يقدر محذوف بعد قوله تعالى: {حَرَجٌ} حسبما أشير إليه إليه إذ المعنى ليس على الطوائف المعدودة {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} حرج {أَن تَأْكُلُواْ} أنتم وهم معكم {مِن بُيُوتِكُمْ} الخ، وإلى كون المعنى كذلك ذهب مولانا شيخ الإسلام ثم قال: وتعميم الخطاب للطوائف المذكورة أيضًا يأباه ما قبله وما بعده فإن الخطاب فيهما لغير أولئك الطوائف حتمًا ولعل ما تقدم أولى، وأما تعميم الخطاب فلا أقول به أصلًا؛ وعن ابن زيد والحسن وذهب إليه الجبائي وقال أبو حيان: هو القول الظاهر أن الحرج المنفي عن أهل العذر هو الحرج في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه والحرج المنفي عمن بعدهم الحرج في الأكل من البيوت المذكورة، قال صاحب الكشاف: والكلام عليه صحيح لالتقاء الطائفتين في أن كلًا منفي عنه الحرج، ومثاله أن يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر وهو تحقيق لأمر العطف وذلك أنه لما كان فيه غرابة لبعد الجامع بادىء النظر أزاله بأن الغرض لما كان بيان الحكم كفاء الحوادث والحادثتان وإن تباينتا كل التباين إذا تقارنتا في الوقوقع والاحتياج إلى الباين قرب الجامع بينهما ولا كذلك إذا كان الكلام في غير معرض الافتاء والبيان، وليس هذا القول منه بناء على أن الاكتفاء في تصور ما كانف في الجامعية كما ظن، وبهذا يظهر الجواب عما اعترض به على هذه الرواية من أن الكلام عليها لا يلائم ما قبله ولاما بعده لأن ملاءمته لما بعده قد عرفت وجهها، وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة إذ لم يعطف عليه، وربما يقال في وجه ذكر نفي الحرج عن أهل العذر بترك الجهاد ومايشبهه مما رخص لهم فيه أثناء بيان الاستئذان ونحوه: إن نفي الحرج عنهم بذلك مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه صلى الله عليه وسلم لترك ذلك فلهم القعود عن الجهاد ونحوه من غير استئنذان ولا إذن كما أن للمماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهل البيت، ومثل هذا يكفي وجهًا في توسيط جملة أثناء جمل ظاهرة التناسب، ويرد عليه شيء عسى أن يدفع بالتأمل، وإنما لم يذكر الحرج في قوله تعالى: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} بأن يقال: ولا على أنفسكم حرج اكتفاء بذكره فيما مر والأواخر محل الحذف، ولم يكتف بحرج واحد بأن يقال: ليس على الأعمى والأعرج والمريض وأنفسكم حرج أن تأكلوا دفعًا لتوهم خلاف المراد، وقيل: حذف الحرج آخرًا للإشارة إلى مغايرته للمذكور ولا تقدح في دلالته عليه لاسيما إذا قلنا: إن الدال غير منحصر فيه وهو كما ترى، ومعنى {على أَنفُسِكُمْ} كما في الكشاف عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين، وفيه كما في الكشف إشارة إلى فائدة إقحام النفس وأن الحاصل ليس على الضعفاء المطعمين ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ومن مثل حالهم وهم الأصدقاء حرج.
وقيل: إن فائدة إقحامها الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن وهو وجه حسن دقيق لا يلزمه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ظاهرًا، وكان منشأه كثرة إقحام النفس في ذوي الشأن، ومن ذلك قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54] ولم يقل سبحانه كتب ربكم عليه الرحمة، وقوله عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي» دون أن يقول جل وعلا: إني حرمت الظلم على إلى غير ذلك مما يعرفه المتتبع المنصف، وما قيل من أنّ فائدة الإقحام الإشارة إلى أن التجنب عن الأكل المذكور لا يخلو عن رعاية حظ النفس مع خفائه لا يلائم إلا بعض الروايات السابقة في سبب النزول، ونحو ما قيل من أنها أقحمت للإشارة إلى أن نفي الحرج عن المخاطبين في الأكل من البيوت المذكورة لذواتهم بخلاف نفي الحرج عن أهل الأعذار في الأكل منها فإنه لكونهم مع المخاطبين وذهابهم بهم إليها، والتعرض لنفي الحرج عنهم في أكلهم من بيوتهم مع ظهور انتفاء ذلك لإظهار التسوية بينه وبين قرنائه كما في قوله تعالى: {تُكَلّمُ الناس في المهد وَكَهْلًا} [آل عمران: 46] لكن ذلك فيما نحن فيه من أول الأمر، ولم يتعرض لبيوت أولادهم لظهور أنها كبيوتهم، وذكر جمع أنها داخلة في بيوت المخاطبني، فقد روى أبو داود وابن ماجه «أنت ومالك لأبيك» وفي حديث رواه الشيخان وغيرهما: «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» وقال بعضهم: المراد ببيوت المخاطبين بيوت أولادهم وأضافها إليه لمزيد اختصاصها بهم كما يشهد به الشرع والعرف، وقيل: المعنى أن تأكلوا من بيوتكم من مال أولادكم وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ومن جملة عيالكم وهو كما ترى {أَوْ بُيُوتِ ءابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم} وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم، والكسائي وطلحة بكسر الهمزة وفتح الميم {أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ} أي أو مما تحت أيديكم وتصرفكم من بستان أو ماشية وكالة أو حفظًا وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس.
فقد روى عنه غير واحد أنه قال: ذاك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته فلا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر.
وقال السدي: هو الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه.
وقال ابن جرير: هو الزمن يسلم إليه مفتاح البيت ويؤذن له بالتصرف فيه، وقيل: ولي اليتيم الذي له التصرف بماله فإنه يباح له الأكل منه بالمعروف.
وملك المفتاح على جميع ذلك كناية عن كونه الشيء تحت يد الشخص وتصرفه.
والعطف على ما أشرنا إليه على ما بعد {مِنْ} وعن قتادة أن المراد بما ملكتم مفاتحه العبيد فالعطف على ما بعد {بُيُوتِ} والتقدير أو بيوت الذين ملكتم مفاتحهم، وكان ملك المفتاح لما شاع كناية لم ينظر فيه إلى أن المتصرف مما يتوصل إليه بالمفتاح أولًا ومثله كثير، أو هو ترشيح لجري العبيد مجرى الجماد من الأموال المشعر به استعمال ما فيهم، ولا يخفى عليك بعد هذا القول وأنه يندرج بيوت العبيد في قوله تعالى: {بُيُوتِكُمْ} لأن العبد لا ملك له، وإرادة المعتوقين منهم بقرينة {مَلَكْتُم} بلفظ الماضي مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وقرأ ابن جبير {مَلَكْتُم} بضم الميم وكسر اللام مشددة {ومفاتيحه} بياء بعد التاء جمع مفتاح.
وقرأ قتادة وهرون عن أبي عمرو {مفتاحه} بالإفراد وهو آلة الفتح وكذا المفتح كما في القاموس، وقال الراغب: المفتح والمفتاح ما يفتح به وجمعه مفاتيح ومفاتح.
وفي بعض الكتب أن جمع مفتح مفاتح وجمع مفتاح مفاتيح {مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أو بيوت صديقكم وهو من يصدق في مودتكم وتصدق في مودته يقع على الواحد والجمع، والمراد به هنا الجمع، وقيل: المفرد، وسر التعبير به دون أصدقائكم الإشارة إلى قلة الأصدقاء حتى قيل:
صاد الصديق وكاف الكيمياء معا ** لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا

ونقل عن هشام بن عبد الملك أنه قال: نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه، وقيل: إنه إشارة إلى أن شأن الصداقة رفع الإثنينية.
ورفع الحرج في الأكل من بيت الصديق لأنه أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من ذوي القرابة؛ روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصديق أكبر من الوالدين إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات فقالوا: {فَمَا لَنَا مِن شافعين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 101].
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ، وقيل لأفلاطون: من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي، وقد كان السلف ينبسطون بأكل أصدقائهم من بيوتهم ولو كانوا غيبًا.
يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالًا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورًا وضحك وقال: هكذا وجدناهم هذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورًا بذلك، وهذا شيء قد كان.
إذا الناس ناس والزمان زمان

وأما اليوم فقد طوى فيما أعلم بساطه واضمحل والأمر لله تعالى فسطاطه وعفت آثاره وأفلت أقماره وصار الصديق اسمًا للعدو الذي يخفى عداوته وينتظر لك حرب الزمان وغاءته فآه ثم آه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ** عدوًا له ما من صداقته بد

ثم إن نفي الحرج في الأكل المذكور ومشروط بما إذا علم رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، ولا يرد أنه إذا وجد الرضا جاز الأكل من مال الأجنبي والعدو أيضًا فلا يكون للتخصيص وجه لأن تخصيص هؤلاء لاعتياد التبسط بنيهم فلا مفهوم له، وقال أبو موسلم: هذا في الأقارب الكفرة أباح سبحانه في هذه الآية ما حضره في قوله سبحانه: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] وليس بشيء، وقيل: كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسه منه» وقوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» وقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] الآية، وقوله عز وجل: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه} [الأحزاب: 53] فإنهم إذا منعوا من منزله صلى الله عليه وسلم إلا بالشرط المذكور هو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس وأقلهم حجابًا فغيره صلى الله عليه وسلم يعلم بالطريق الأولى.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى القول بالنسخ بناء على ما قلنا أولًا، واحتج بالآية بعض أئمة الحنفية على أنه لا قطع بسرقة مال المحارم مطلقًا لا فرق في ذلك بين الوالدين والمولودين وبين غيرهم لأنها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم فلا يكون مالهم محرزًا ومجرد احتمال إرادة الظاهر وعدم النسخ كاف في الشهبة المدرئة للحد، وبحث فيه بأن درء الحدود بالشبهات ليس على إطلاقه عندهم كما يعلم من أصولهم، وأورد عليه أيضًا أنه يستلزم أن لا تقطع يد من سرق من الصديق، وأجيب عن هذا بأن الصديق متى قصد سرقة مال صديقه انقلب عدوًا، وتعقب بأن الشرع ناظر إلى الظاهر لا إلى السرائر، وقرئ {صَدِيقِكُمْ} بكسر الصاد اتباعًا لحركة الدال حكى ذلك حميد الخزاز {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ} أي مجتمعين وهو نصب على الحال من فاعل {لاَ تَأْكُلُواْ} وهو في الأصل بمعنى كل ولا يفيد الاجتماع خلافًا للفراء، ودل عليه هنا لمقابلته بقوله تعالى: {أَوْ أَشْتَاتًا} فإنه عطف عليه داخل في حكمه وهو جمع شت على أنه صفة كالحق يقال: أمر شت أي متفرق أو على أنه في الأصل مصدر وصف به مبالغة.