فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
اختلف المفسرون في الحرج الذي رفع عن الأعمى، والأعرج، والمريض.
وذهب أكثرهم إلى القول بأن هذا الحكم نزل في شأن أولئك الزمنى، وأصحاب العاهات، الذين كانوا يقومون على شئون المسلمين الذاهبين إلى الغزو، حيث يخلّفونهم وراءهم، ويدعون إليهم التصرف في شئونهم.. ويضعون في أيديهم ما يملكون، من مال أو متاع إلى أن يعودوا من الغزو.
وهذا الرأى يعارضه ما جاء في قوله تعالى في هذه الآية: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ» فهؤلاء الزمنى والمرضى، يدخلون في عموم هذا الحكم، سواء كانوا ممن في أيديهم مفاتيح المجاهدين، أو كانوا أصدقاء لهم.
والذي نذهب إليه، ونرجو- إن شاء اللّه أن يكون صحيحا- هو أن الآية الكريمة دعوة إلى البر والتوادّ بين المسلمين عامة، وبين الأهل والأقارب خاصة.. وأنه إذا كان للمسلم أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج أو يخزى، إذا هو أصاب طعامه عند أحد من أقاربه هؤلاء، الذين ذكرهم اللّه سبحانه في تلك الآية، من الآباء والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام والعمات والأخوال والخالات- فهؤلاء جميعا أبناء أسرة واحدة، قد قضوا فترة من حياتهم معا، يظلهم سقف واحد، وتجمعهم معيشة واحدة.. فإذا التمس أحدهم طعاما، ولم يجده في بيته، كان له أن يلتمسه عند أي من الأقارب، وأن ينال منه شبعه، بإذن أو بغير إذن.
هكذا التكافل بين الأقارب وذوى الأرحام.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، كانت دستورا يحكم العلاقة بين الأقارب، وذوى الأرحام، من رجال ونساء، في اختلاط بعضهم ببعض، كما أنها تحكم العلاقة بين المسلمين عامة- من رجال ونساء- في دخول البيوت، بعد الاستئذان، والإذن من أصحابها.
ولما كان هذا الاختلاط بين الأقارب، وهذا لتزاور بين المسلمين عامة، يضع المخالطين والزائرين في أحوال يشهدون فيها طعاما بين يدى أهل البيت الذي دخلوا إليه مستأذنين- فقد كان من تمام الحكمة أن تبين الشريعة ما يقضى به الموقف إزاء هذا الطعام الممدود، وهل من حرج على من يحضره أن يتناول منه، إذا دعى إليه؟ إن الذي دخل البيت هنا لم يكن يقصد الطعام الذي حضرة.. وربّما يقع في شعور أهل المنزل أنه جاء يطلب الطعام، ويرصد وقته، وقد يكون الزائر جائعا فعلا، ونفسه تشتهى هذا الطعام، ولكنه يتحرج أن ينال منه.
إن هناك مشاعر كثيرة مختلطة تشتمل على أهل الدار وعلى زائرهم.
فكان ما جاءت به الآية الكريمة هنا، ما يصحح هذه المشاعر، ويقيمها على ميزان حكيم عادل كما سنرى.
فقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ} هو رفع للحرج عن هذه الأصناف التي ذكرتها الآية، من أن يستطعموا، ويطعموا من تلك البيوت التي يطرقونها ولا حرج عليهم في هذا.
أما الأعمى، والأعرج، والمريض.. فإنهم حين يقعون تحت داعية الحاجة إلى الطعام، ويعجزهم حالهم عن أن ينالوا من كسب أيديهم، فإنهم في هذه الحال أبناء الأسرة الإسلامية كلها، وإن لهم على المجتمع حقّ الإطعام، كما للابن على أبيه أن يدخل بيته، وينال من الطعام ما يسد جوعته.
ولكى يتقرر هذا المعنى في نفوس المسلمين، ولكى يصبح هذا الأمر حقّا، للأعمى والأعرج والمريض، على المجتمع الإسلامى، يطالب كل منهم به، ويستأدبه من أي مسلم قادر على الوفاء به، دون أن يكون في ذلك جرح لكرامته، أو منّة وفضل عليه من أحد- نقول لكى يتقرر هذا، فقد قدّمهم القرآن على الأهل والأقارب، إذا كانوا على الصحة والسلامة، وكانوا أقدر على أن يجدوا حيلة لدفع غائلة الجوع عنهم، بخلاف هؤلاء العجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
فجاءت الآية برفع الحرج عن هؤلاء العجزة أولا، ثم دخل معهم هؤلاء الذين جاءت بهم الآية، من الأقارب، وذوى الأرحام.. ثانيا.
وهذا الذي ذهبنا إليه، هو الذي يتفق مع روح تلك الشريعة السمحاء، التي قامت على التآخى بين الناس، والتكافل بين المسلمين جميعا.
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ليلة الضّيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه».. ويقول- صلوات اللّه وسلامه عليه: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته، من زرعه وماله».
وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول اللّه تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا.. فما ترى في ذلك؟ فقال- صلوات اللّه وسلامه عليه..: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم».
والذي ينظر في الآية الكريمة يجد أن مساقها يشير إشارة واضحة إلى أن المقصود برفع الحرج فيها، إنما هو عن أولئك العجزة.. من الأعمى، والأعرج والمريض، وأن من دخل بعدهم في هذا الحكم من الأهل والأقارب، إنما جاء ليدعم هذه القضية، قضية العجزة، وليدلّ على أنهم أولى في هذا المقام من الأهل والأقارب، وأنه إنما رفع الحرج عن الأقارب، تبعا لهؤلاء.
ففى قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ} ما يشعر بأن شيئا ما من الحرج مع هذا الإذن، وأن الإسلام قد تجاوز عنه، تخفيفا ورحمة، إذ كان المقام مقام رحمة عامة تنال البعيد، ولا يحرم منها القريب.
ولهذا جاء التصريح نصا برفع الحرج، عن الأعمى، وعن الأعرج، وعن المريض.. هكذا. {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} وكل واحد منهم قد نصّ على رفع الحرج عنه.. زيادة في التقرير، والتوكيد.. وإلّا كان من مقتضى النظم أن يجىء رفع الحرج.. مرة واحدة عن جميع المتعاطفين.. هكذا: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
ثم إنه حين جاء ذكر الأقارب، لم يجىء رفع الحرج عنهم نصّا مصرّحا به، بل جاء بالحمل على الحكم الذي كان للمعطوف عليهم، وهم هؤلاء العجزة!.. ولكأن المعنى هو: حتى ولا على أنفسكم حرج.
وفى قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ}.
إشارة إلى صنفين آخرين من الناس، ليس عليهم حرج في أن يأكلوا مما ليس لهم.
والصنف الأول، هم الذين في أيديهم مفاتيح غيرهم، كالوكلاء، والأوصياء، وغيرهم، ممن يتولّون شئون غيرهم، وحفظ أموالهم وأمتعتهم، فهؤلاء لهم أن يأكلوا مما تحت أيديهم، بالمعروف، من غير إسراف، وذلك إذا كانوا في حاجة إلى هذا الذي يأكلونه.. كما يقول سبحانه: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (6: النساء).. أما الصنف الآخر، فهم الأصدقاء، إذ أن لهم على أصدقائهم هذا الحق الذي يجعل لهم مما في أيدى أصدقائهم شيئا، أقلّه هو لقمة الطعام عند الحاجة.. لأن الصداقة، لا تكون صدقا إلا إذا وصلت بين الصديقين بحبل المودّة والإخاء.
هذا، ويلاحظ في الآية الكريمة أمران:
أولهما: أنها لم تذكر الأبناء، بالنسبة للآباء، على حين ذكرت الآباء، وفتحت بيوتهم للأبناء.. وذلك لأن الأبناء لا يتحرّجون أبدا من أن يطعموا مما يجدون في بيوت آبائهم.. وكيف وقد أنبتتهم هذه البيوت، وغذتهم منذ الولادة إلى أن صاروا رجالا.. فهل تنكرهم هذه البيوت بعد هذا؟ وهل يجد أحد منهم وحشة في دخولها، وتناول طعامه منها؟ ذلك ما لا يكون! أما الآباء فإنهم إذ تلجئهم الحاجة إلى بيوت أبنائهم، فإنهم يغشون بيوتا لم يكن لهم بها عهد.. إنها بيوت مستحدثة، أحدثها أبناؤهم، بعد أن كبروا، واستقلوا بحياتهم.
ومن هنا تكون الوحشة، ويكون الحرج.. وقد جاء القرآن الكريم برفع هذا الحرج.
ومن جهة أخرى، فإن الآباء، لا يمكن أن يضيقوا أبدا بأبنائهم إذا دخلوا عليهم، وطعموا من طعامهم، في أي وقت، وعلى أي حال، بل إن ذلك هو مبعث السعادة والرضا إلى قلوب الآباء، بخلاف كثير من الأبناء، فإن فيهم العاقّ الذي لا يرعى حقوق الأبوة، والذي قد يضيق بدخول أبيه عليه، والأكل مما عنده.. ولهذا جاء الأمر بفتح هذه الأبواب.. أبواب الأبناء.
للآباء!.
وثانيهما: أن هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآية في ذكر هذه الأصناف، هو ترتيب تنازلى في رفع الحرج، حسب درجة القرابة.. كما هو واضح في الآية.
الآباء أولا، فالأمهات، فالإخوة، فالأخوات، فالأعمام، فالعمات، فالأخوال، فالخالات.
بقي بعد هذا، أن نسأل عن تأويل قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} فهل هناك حرج في أن يأكل الإنسان من بيته، حتى يدخل هذا في عموم الحكم القاضي برفع الحرج؟ إن أكل الإنسان من بيته هو الأصل الأصيل في هذا الباب، فكيف يجىء حكم برفع حرج عن أمر لا حرج فيه أصلا؟.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن بيت الإنسان، وما فيه من مال، ومتاع، وطعام، وإن كان ملكا خالصا له، يتصرف فيه بما يشاء، وكيف يشاء- إلا أن ذلك ليس على إطلاقه في مفهوم الشريعة الإسلامية.
فالشريعة مع تسليمها بحق الإنسان بالتصرف فيما يملك، وبالتسلط على ما في يده من مال ومتاع- لا تعزل المسلم عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا تعزل المجتمع عنه فهو- أيّا كان- خلية في هذا المجتمع، وعضو من أعضاء هذا الجسد الكبير.. وأن ما يملكه الإنسان ليس ملكا خالصا له، وإنما تتعلق بهذا الملك حقوق للّه، وللوالدين والأقربين، والفقراء والمساكين، وابن السبيل، والمجاهدين في سبيل اللّه.
هذا ما ينبغى أن يقيم عليه المسلم، شعوره في كل ما يملك.. إن له في هذا الملك شركاء، منظورين، وغير منظورين.
وإذن فلا يغلق بابه على ما فيه من طعام، ولا يمسك يديه عما معه من مال، وإنه لن يكون على شريعة الإسلام إذا خلت نفسه من هذا الشعور، أو ضنّ بما تعلق من حقوق فيما بين يديه من فضل اللّه.
وعلى هذا نجد ما جاءت به الآية الكريمة من رفع الحرج عن أصحاب البيوت أن يأكلوا من بيوتهم، هو إلفات حكيم لأصحاب البيوت إلى أنهم ليسوا هم وحدهم أصحابها، والمستأثرين بما فيها، وأن هناك أصحاب حقوق يشاركونهم فيما في هذه البيوت، فإذا جاء أحد أصحاب الحقوق يطرق أبوابهم، فليفتحوا له، وليؤدوا إليه حقه! وألا إن الطارقين لكثيرون.. يأتون إليهم من قريب وبعيد.