فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلا يضيقوا بهم، ولا يضجروا.. إنها حقوق يجب أن يؤدوها لهم، وأن يبرئوا ذمتهم منها، إن كانوا مؤمنين باللّه، مطيعين لما يأمر به اللّه.. وهنا يرفع الحرج عما يملكون، في أن ينتفعوا به، ويطلقوا أيديهم للتصرف فيه، بعد أن أدّوا ما عليهم من حقوق.. وإلا فإن الحرج قائم.. حتى تؤدى هذه الحقوق.
هكذا الملكية في شريعة الإسلام.. ملكية تتعلق بها حقوق، وتقوم عليها التزامات، ولن تصبح ملكا خالصا لمالكيها، حتى يؤدوا ما عليها من حقوق، ويفوا بما عليها من التزامات.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا} أي ليس عليكم أيها المسلمون حرج في أن يأكل الواحد منكم وحده أو في جماعة.
حسب الظروف والأحوال.. وذلك أنه كان من عادة العرب ألّا يأكل الإنسان إلا إذا التمس من يأكل معه، ويشاركه فيما يأكل.. وفى هذا يقول شاعرهم:
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسى له أكيلا ** فإنى لست آكله وحدي

فلما جاء الإسلام، ودعا إلى التكافل بين المسلمين، أمسك المسلمون بهذه العادة، وجعلوها أمرا ملزما، وخاصة بعد أن سمعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لهم: «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول اللّه؟ قال: من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده».
ولا شك في أن مقصد الرسول الكريم بمن أكل وحده، هو ذلك الشره الشحيح الذي يؤثر نفسه بما بين يديه من طعام، دون أن يلتفت إلى من حوله من زوج، وولد، وخادم.. فإنه قلّ أن يأكل الإنسان وحده إلا إذا كان على تلك الصفة.. أما في غير تلك الحال، فإنه لا بأس من أن يأكل الإنسان وحده، ولهذا جاء القرآن برفع الحرج.
قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
المراد بالبيوت هنا، هي تلك البيوت التي أشارت إليها الآية، والتي أذن بدخولها للأصناف الذين ذكروا فيها.
فهذه البيوت، لها حرمتها، ولأهلها الذين هم فيها علاقة مودة وقربى بمن يدخلون عليهم فيها.. ومن أجل هذا كان التسليم على أهلها، وصلا لهذه المودة، واستدعاء لهذه القرابة، التي تجمع المسلمين جميعا.
وفى قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} إشارة إلى أن الذي يدخل هذه البيوت، هو بعض ممن فيها. وأنه وقد دخلها- سواء أكان قريبا، أو صديقا، أو غير قريب أو صديق- فقد صار من أهلها، وصار أهلها منه.. وهكذا يصبح بيت كل مسلم بيتا لكل مسلم! وفى قوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً} هو مفعول مطلق لقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا} الذي ضمّن معنى: فَحَيُّوا أي فحيوا أنفسكم تحية من عند اللّه مباركة طيبة، هي تحية الإسلام.. أي السلام عليكم ففى هذه التحية البركة، والطّيب، لما تشيع في النفوس من أمان وسلام، ومودة وإخاء.
هذا ويجوز أن يكون {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} منصوبا بفعل محذوف، تقديره، فسلموا على أنفسكم، وتقبلوا تحية من عند اللّه مباركة طيبة.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.. وفى جعل فاصلة الآية: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} إشارة إلى أن في هذه الآية معانى دقيقة تحتاج إلى روية وتعقل، لإدراك مراميها البعيدة، وأسرارها العظيمة.
وحسب المرء أن يدبر عقله، إلى تلك الرعاية التي أوجبها الإسلام على المسلمين في حق أصحاب العاهات، والمرضى، الذين هم الأعضاء الضعيفة في المجتمع، تلك الأعضاء التي ينبغى أن تكون موضع رعاية، وعناية، كما يرعى الإنسان بعض أعضائه، إذا أصابها مكروه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
اختلف في أن قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} الخ منفصل عن قوله: {ولا على أنفسكم} وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت، أي فيكون من تمام آية الاستيذان، أو هو متصل بما بعده في غرض واحد.
فقال بالأول الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان.
قال ابن عطية: إنه ظاهر الآية.
وهو الذي نختاره تفاديًا من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة، ولأن في قوله: {أن تأكلوا من بيوتكم} إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض، فتكون هذه الآية نفيًا للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم.
فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو.
ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجِبهِ.
ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجًا وإتمامًا لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى.
وقال بالثاني جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عدّ هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية.
والجملة: على كلا الوجهين مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.
{وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}.
مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان لغرض الطعام فيها أو كان للزيارة ونحوها لاشتراك الكل في رفع الحرج، وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور فاقتران الجميع في الحكم هو الرخصة للجميع في الأكل، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا البيوت للأكل لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب وكان التكسب زمانئذٍ بعمل الأبدان فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم.
هذا أظهر الوجوه في توجيه عد هؤلاء الثلاثة مع من عطف عليهم.
وقد ذكر المفسرون وجوهًا أخر أنهاها أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن إلى ثمانية ليس منها واحد ينثلج له الصدر.
ولا نطيل بها.
وأعيد حرف {لا} مع المعطوف على المنفي قبله تأكيدًا لمعنى النفي وهو استعمال كثير.
والمقصود بالأكل هنا الأكل بدون دعوة وذلك إذا كان الطعام محضرًا دون المختزن.
والمراد بالأنفس ذوات المخاطبين بعلامات الخطاب فكأنه قيل: ولا عليكم جناح أن تأكلوا إلى آخره، فالخطاب للأمة.
والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد، أي أن يأكل أكلًا لا يشاركه فيه بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجه غائبة، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها.
وعطف على بيوت أنفسهم بيوتُ آبائهم، ولم يذكر بيوت أولادهم مع أنهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم.
قيل: لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم، ولا يصح، فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتًا كما في خبر عبد الله بن عمر.
فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك».
وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القرابة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالبًا.
و{ما} في قوله: {ما ملكْتُم مفاتحه} موصولة صادقة على المكان أو الطعام، عطف على {بيوت خالاتكم} لا على {أخوالكم} ولهذا جيء ب {ما} الغالب استعمالها في غير العاقل.
ومِلك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط.
والمفاتح: جمع مَفْتح وهو اسم آلة الفتح.
ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح.
وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل كل منهم مما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه وذلك للعرف بأن ذلك كالإجارة فلذلك قال الفقهاء: إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده.
وصديق هنا مراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين، وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفًا أو خبرًا في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل، والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى: {فما لنا منْ شافعين ولا صديق حميم} [الشعراء: 100، 101] ومثله الخليط والقطين.
والصديق: فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة.
وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء.
وسئل بعض الحكماء: أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي.
وأعيدت جملة: {ليس عليكم جُناح} تأكيدًا للأولى في قوله: {ولا على أنفسكم} إذ الجناح والحرج كالمترادفين.
وحسّن هذا التأكيد بُعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله: {أن تأكلوا من بيوتكم} ولأجل كونها تأكيدًا فصلت بلا عطف.
والجميع: المجتمعون على أمر.
والأشتات: الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه، قال تعالى: {تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى} [الحشر: 14].
والأشتات: جمع شَتّ، وهو مصدر شتّ إذا تفرق.
وأما شتّى فجمع شتيت.
والمعنى: لا جناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله؛ أو أن يأكل وحده متفرقًا عن مشارك، لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه، أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت.
أو أن يأكل وحده.
وتقدم قراءة {بيوت} بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم} في هذه السورة (27).
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الايات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكَّرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} [النور: 27] لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنَّه قول الناس: إذا استوى الحب سقط الأدب.
ومعنى {فسلموا على أنفسكم} فليسلم بعضكم على بعض، كقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29].
ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحدًا وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب.
وأما ما ورد في التشهد من قول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضًا عما كانوا يقولون: السلام على الله، السلام على النبي، السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان وفلان.