فصل: الأحكام الشرعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما المراد بالأكل من البيوت؟

دلت الآية الكريمة على إباحة الأكل من بيوت الأقرباء، وذلك جار مجرى المؤانسة والمباسطة وعدم الكلفة، وقد جرت العادة ببذل الطعام للأقرباء، لأنه بذلك يسرّهم، فكان جريان العادة بالإذن كالنطق الصريح، فيباح للإنسان أن يأكل من بيوت من سمّى الله عز وجل من الأقارب.
وقد اختلف المفسّرون في قوله تعالى: {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد بها بيوت الأولاد، أي بيوت أولادكم لأنها في حكم بيوتكم.
الثاني: أن المراد بها البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم، فيكون الخطاب لأهل الرجل، وولده، وخادمه، ومن يشتمل عليه منزله، ونسبها إليهم لأنهم سكّانها.
الثالث: أن المراد بها بيوتهم، والمقصود من الآية أكلهم من مال عيالهم وأزواجهم، لأن بيت المرأة بيت الرجل.
واختار أبو بكر الجصّاص الرأي الثاني فقال: يعني والله أعلم من البيوت التي هم سكّانها، وهم عيال غيرهم فيها مثل: أهل الرجل، وولده، وخادمه، ومن يشتمل عليه منزله، فيأكل من بيته، ونسبها إليهم لأنهم سكانها، وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل، لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباجة للرجل أن يأكل من مال نفسه، إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره. وقال الله: {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم} فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم، وفقد التمانع في أمثاله.

.الحكم الثاني: هل للوكيل أن يأكل من مال موكّله؟

ظاهر قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} يدل على أنه يرخّص للوكيل أن يأكل من مال الموكل، بغير شطط ولا عدوان، وقد روي عن عكرمة أنه قال: إذا ملك المفتاح فهو جائز، ولا بأس أن يَطْعم الشيء اليسير.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} هو وكيل الرجل يُرخَّص له أن يأكل من التمر، ويشرب من اللبن.
وقيل: المراد به وليّ اليتيم، يتناول من ماله بالمعروف دون إضرار باليتيم كما قال تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6].

.الحكم الثالث: هل يباح الأكل من بيت الصّديق بغير إذنه؟

أباحة الآية الكريمة الأكل من بيوت من سمّى الله عز وجلّ من الأقارب، ومن بيوت الأصدقاء. وقد كان الواحد لا يأكل من بيت غيره تأثمًا، فرخّص الله تعالى لأهل الأعذار العمي، والعرج، والمرضى أولًا ثمّ رخّص للنَّاس عامة، فلو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالًا.
قال الجصاص: وهذا أيضًا مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه، فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكسرة ونحوها، من غير استئذانها إيّاه، لأنه متعارف أنهم لا يمنعون مثله، كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما، ويتصدقان باليسير ممّا في أيديهما، فيجوز بغير إذن المولى. وقد روي عن نافع عن ابن عمر أنه قال: لقد رأيتني وما الرجل المسلم بأحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم.
وروى إسحاق بن كثير عن الرصافي قال: كنا عند أبي جعفر يومًا فقال: هل يُدْخل أحدكم يده في كُمّ أخيه أو في كيسه فيأخذ ماله؟ قلنا: لا، قال: ما أنتم بإخوان.
أقول: يباح للإنسان أن يأكل من بيت صديقه في غيبته لما بينهما من المودّة والصداقة، وقد جرت العادة بذلك، ودلت الآية عليه. والصديق يفرح بأكل صديقه عنده ويُسرّ غاية السرور. اللهم إلا إذا كان ممن قال فيهم الشاعر:
سِيَانِ كَسْرُ رغيفِهِ ** أو كَسْرُ عظم من عظَامِه

نسأله تعالى أن يقينا مرض البخل والشح إنه سميع مجيب الدعاء.

.الحكم الرابع: ما هو حكم الشركة في الطعام؟

يجوز للإنسان أن يشارك غيره في الطعام، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} أي مجتمعين أو منفردين. فإذا اشترك جماعة في طعام جاز لهم أن يأكلوا منه مجتمعين. وقد كان الرجل يخاف إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه، فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام. فرخّص لهم القرآن الكريم وأباح لهم الأكل حتى ولو كان بعضهم أشهى نفسًا، وأوسع معدة. وقد دلّ على هذا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعًا. ونحو هذا قوله تعالى عن أصحاب الكهف: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} [الكهف: 19].
فكان الورِق الفضة لهم جميعًا. والطعام بنهم فاستجازوا أكله وهذا ما يسميه الفقهاء المناهدة وهي الشركة التي يفعلها الناس في الأسفار.

.الحكم الخامس: هل تقطع اليد في السرقة من بيت المحارم؟

قال ابو بكر الجصّاص رحمه الله في كتابه أحكام القرآن: قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع؛ لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم، ودخولها من غير إذنهم، فلا يكون ماله مُحْرَزًا منهم.
فإن قيل: فينبغي أن لا يقطع إذا سرق من صديقه، لأن في الآية إباحة الأكل من طعامه؟ قيل له: من أراد سرقة ماله لا يكون صديقًا له.
أقول: الحدود تُدْرأ بالشبهات، ولمّا كانت السرقة من بيت ذي الرحم المحرم، وبينهما هذه القرابة القوية وهي قرابة الرحم فقد وجدت الشبهة، فلا قطع حينئذٍ وإنما فيه التعزير والله تعالى أعلم.

.الحكم السادس: هل الآية الكريمة منسوخة بآية الاستئذان؟

ذهب بعض المفسّري إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» والصحيح أنها غير منسوخة وهو رأي جمهور المفسّري ومذهب الإمام أبي بكر الجصّاص والرازي وغيرهما. وقد قال أبو بكر: ليس في ذلك ما يوجب النسخ، لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها- أي من أهل الأعذار والأقارب- وقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] في سائر الناس غيرهم، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» فإنه في غير هؤلاء المذكورين في الآية الكريمة والله أعلم.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

أولًا- رفع الحرج عن أهل الأعذار في ترك الجهاد أو في الأكل من بيوت الناس.
ثانيًا- إباجة الأكل من بيوت الأقارب للمؤانسة والمباسطة التي تكون في العادة بينهم.
ثالثًا- حق الصداقة عظيم ولذلك رخّص الله في الأكل من بيت الصديق بغير إذنه.
رابعًا- جواز الشركة في الطعام والأكل مع بقية الشركاء مجتمعين أو متفرقين.
خامسًا- ضرورة التقيد بآداب الإسلام ومنها السلام على أهل المنزل عند الدخول.
سادسًا- تحية المسلم لأخيه المسلم شرعها الباري جلّ وعلا وهي بلفظ السلام عليكم ورحمة الله.
سابعًا- الأحكام التي شرعها الله لعباده المؤمنين فيها خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدراين.

.حكمة التشريع:

حرّم الله تعالى الاعتداء على الناس وأكل أموالهم بالباطل، فلا يجوز لإنسان أن يأكل مال غيره إلاّ بإذنه، وبطيب نفسٍ منه كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» وقال صلى الله عليه وسلم: «كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه، ومالُه، وعرضُه».
وقد أباح الباري جلّ وعلا للإنسان أن يأكل من بيت أقاربه بدون إذن، وهم الذين سمّاهم في كتابه العزيز وعدّد أصنافهم وهم الآباء، الأمهات، الإخوان، الأخوات، الأعمام، العمات، الأخوال، الخالات وذلك لما بين هؤلاء من صلة الرحم، ولأنه يستدعي المحبة والوداد والوئام، فإنَّ أكل الإنسان من بيت أقربائه، يقوّي أواصر القرابة، ويزيل الكُلْفة، ويدعو إلى المؤانسة والانبساط.
كما أباح الأكل من بيت الصديق بدون إذن أيضًا، لأن الصداقة بمنزلة القرابة؛ وحق الصديق على صديقه عظيم وكبير، وكم من صديق أنفع من أخٍ قريب. وقد قيل في الأمثال: «ربّ أخٍ لك لم تلده أمّك».
ولهذا رخّص المولى جلّ ثناؤه بالأكل من بيوت الأصدقاء. وجعلهم في عداد الأقرباء، حتى تدوم الألفة، وتتمكن الصداقة والمودّة. وتتقوى روابط الأخوّة الدينيّة بين المسلمين، وذلك من أغراضالشريعة الإسلامية، وأهدافها الإنسانية السامية. وصدق الله: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وقد أمر سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، عند دخولهم لبيوت الآخرين، أن يبدءوهم بالتحية والسلام. فذلك من الآداب الإجتماعية الرفيعة. التي دعا إليها الإسلام. وأمر بإشاعة السلام لأنه تحية المؤمن وشعار الإسلام. وهو طريق المحبة بين المؤمنين. الذي يربط بين أفراد الأمة الإسلامية. كما قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
وقد كان أهل الجاهلية إذا لقي الرجل منهم صديقه أو أخاه. يقول له: أنعم صباحًا، أو أنعم مساءً. وأنعم الله بك عينًا إلخ. فجاء الإسلام بما هو خير وأزكى وأطهر. جاءهم بالتحية المباركة الطيبة، بلفظ كريم لطيف السلام عليكم ورحمة الله وهذه التحية شرعها الله لعباده كما قال تعالى: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً} والسلام اسم من أسماء الله تعالى فلا يليق بالمسلم أن يدع هذه التحية إلى تحية الجاهلية. أو ما شابهها من ألفاظٍ مستحدثة كقولهم: احترماتي، تحياتي. صباح الخير، إلى غير ما هنالك من ألفاظ وعبارات ليس فيها ذلك المعنى اللطيف أو المغزى الدقيق الذي قصد إليه الإسلام، دين الإنسانية الخالد. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29] قالت الأنصار: ما بالمدينة مال أعز من الطعام. كانوا يتحرجون أن يأكلوا مع الأعمى يقولون: أنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرجون الأكل مع الأعرج يقولون: الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم، ويتحرجون الأكل مع المريض يقولون: لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح، وكانوا يتحرجون أن يأكلوا في بيوت أقربائهم، فنزلت {ليس على الأعمى حرج} يعني في الأكل مع الأعمى.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقسم قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا مع الأعمى، والأعرج، والمريض، لأنهم لا ينالون كما ينال الصحيح فنزلت {ليس على الأعمى حرج} الآية.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وإبراهيم وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال: كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج والمريض إلى بيت أبيه، أو بيت أخيه، أو بيت أخته، أو بيت عمه، أو بيت عمته، أو بيت خاله، أو بيت خالته، فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء، فأنزل الله {ولا على أنفسكم أن تأكلوا} إلى قوله: {أو ما ملكتم مفاتحه}.