فصل: تفسير الآيات (63- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (63- 64):

قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها، من شرف الرسول ما بهر العقول، لأجل ما وقع للمنافق من التجرؤ على ذلك الجناب الأشم، والمنصب الأتم، وعلم منه أن له صلى الله عليه وسلم في كل أمره وجميع شأنه خصوصية ليست لغيره، صرح بذلك تفخيمًا للشأن، وتعظيمًا للمقام، ليتأدب من ناضل عن المنافق، أو توانى في أمره فقصر عن مدى أهل السوابق، فقال منبهًا على أن المصائب سبب لإظهار المناقب أو إشهار المعايب {لا تجعلوا} أي ايها الذين آمنوا {دعاء الرسول} أي لكم الذي يوقعه {بينكم} ولو على سبيل العموم، في وجوب الامتثال {كدعاء بعضكم بعضًا} فإن أمره عظيم، ومخالفته استحلالًا كفر، ولا تجعلوا أيضًا دعاءكم إياه كدعاء بعضكم لبعض بمجرد الاسم، بل تأدبوا معه بالتفخيم والتبجيل والتعظيم كما سن الله بنحو: يا ايها النبي، ويا أيها الرسول، مع إظهار الأدب في هيئة القول الفعل بخفض الصوت والتواضع.
ولما كان بعضهم يظهر المؤالفة، ويبطن المخالفة، حذر من ذلك بشمول علمه وتمام قدرته، فقال معللًا مؤكدًا محققًا معلمًا بتجديد تعليق العلم الشهودي كلما جدد أحد خيانة لدوام اتصافه بإحاطة العلم من غير نظر إلى زمان: {قد يعلم الله} أي الحائز لجميع صفات المجد إن ظننتم أن ما تفعلونه من التستر يخفي أمركم على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو سبحانه يعلم {الذين يتسللون} وعين أهل التوبيخ بقوله: {منكم} أي يتكلفون سلَّ أنفسهم ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء {لواذًا} أي تسللًا مستخفين به بتستر بعضهم فيه ببعض؛ يقال: لاذ بالشيء لوذًا ولواذًا وملاوذة: استتر وتحصن، فهو مصدر لتسلل من غير لفظه، ولعله أدخل {قد} على المضارع ليزيد أهل التحقيق تحقيقًا، ويفتح لأهل الريب إلى الاحتمال طريقًا، فإنه يكفي في الخوف من النكال طروق الاحتمال؛ وسبب عن علمه قوله: {فليحذر} أي يوقع الحذر {الذين يخالفون} أي يوقعون مخالفته بالذهاب مجاوزين معرضين {عن أمره} أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى خلافه {أن تصيبهم فتنة} أي شيء يخالطهم في الدنيا فيحل أمورهم إلى غير الحالة المحبوبة التي كاونوا عليها {أو يصيبهم عذاب أليم} في الآخرة، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب حتى يصرف عنه صارف، لترتيب العقاب على الإخلال به، لأن التحذير من العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب.
ولما أقام سبحانه الأدلة على أنه نور السماوات والأرض بأنه لا قيام لشيء إلا به سبحانه، وختم بالتحذير لكل مخالف، أنتج ذلك أن له كل شيء فقال: {ألا إن لله} أي الذي له جميع المجد جميع {ما في السماوات} ولثبوت أنه سبحانه محيط العلم والقدرة، لم يقتض المقام التأكيد بإعادة الموصول فقال: {والأرض} أي من جوهر وعرض، وهما له أيضًا لأن الأرض في السماء، وكل سماء في التي فوقها حتى ينتهي ذلك إلى العرش الذي صرح في غير آية أنه صاحبه، وهو سماء أيضًا لعلوه عما دونه، فكل ما فيه له، وذلك أبلغ- لدلالته بطريق المجاز- مما لو صرح به، فدل ذلك- بعد الدلالة على وجوده- على وحدانيته، وكمال علمه وقدرته.
ولما كانت أحوالهم من جملة ما له، كان من المعلوم أنها لم تقم في أصلها ولا بقاء لها إلا بعلمه ولأنها بخلقه، فلذلك قال محققًا مؤكدًا مرهبًا: {قد يعلم ما أنتم} أيها الناس كلكم {عليه} أي الآن، والمراد بالمضارع هنا وجود الوصف من غير نظر إلى زمان، ولو عبر بالماضي لتوهم الاختصاص به، والكلام في إدخال {قد} عليه كما مضى آنفًا باعتبار أولي النفوذ في البصر، وأهل الكلال والكدر {ويوم} أي ويعلم ما هم عليه يوم {يرجعون} أي بقهر قاهر لهم على ذلك، لا يقدرون له على دفاع، ولا نوع امتناع {إليه} وكان الأصل: ما أنتم عليه، ولكنه أعرض عنهم تهويلًا للأمر، أو يكون ذلك خاصًا بالمتولين المعرضين إشارة إلى أنهم يناقشون الحساب، ويكون سر الالتفاف التنبيه على الإعراض عن المكذب بالقيامة، والإقبال على المصدق، صونًا لنفيس الكلام، عن الجفاة الأغبياء اللئام {فينبئهم} أي فيتسبب عن ذلك أنه يخبرهم تخبيرًا عظيمًا {بما عملوا} فليعدوا لكل شيء منه جوابًا {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليم} فلذلك أنزل الآيات البينات، وكان نور الأرض والسماوات، فقد رد الختام على المبدأ، والتحم الآخر بالأول والأثنا- والله الهادي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} ففيه وجوه: أحدها: وهو اختيار المبرد والقفال، ولا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضًا لازمًا، والذي يدل على هذا قوله عقيب هذا {فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} وثانيها: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضًا يا محمد، ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله، عن سعيد بن جبير وثالثها: لا ترفعوا أصواتكم في دعائه وهو المراد من قوله: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله} [الحجرات: 3] عن ابن عباس ورابعها: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، والوجه الأول أقرب إلى نظم الآية.
أما قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} فالمعنى يتسللون قليلًا قليلًا، ونظير تسلل تدرج وتدخل، واللواذ: الملاوذة وهي أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، يعني يتسللون عن الجماعة على سبيل الخفية واستتار بعضهم ببعض، و{لواذًا} حال أي ملاوذين وقيل كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له فينطلق الذي لم يؤذن له معه، وقرئ {لِوَاذًا} بالفتح ثم اختلفوا على وجوه: أحدها: قال مقاتل: كان المنافقون تثقل عليهم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه ويخرجون من غير استئذان وثانيها: قال مجاهد يتسللون من الصف في القتال وثالثها: قال ابن قتيبة هذا كان في حفر الخندق ورابعها: يتسللون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن كتابه وعن ذكره، وقوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله} معناه التهديد بالمجازاة.
أما قوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الأخفش {عن} صلة والمعنى يخالفون أمره وقال غيره معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته فدخلت {عن} لتضمين المخالفة معنى الإعراض.
المسألة الثانية:
كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية، وقال أبو بكر الرازي: الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه، وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها.
المسألة الثالثة:
الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب، ووجه الاستدلال به أن نقول: تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف الأمر مستحق للعقاب فتارك المأمور به مستحق للعقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك، إنما قلنا إن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر، لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك المأمور به مخالف، وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب، والأمر بالحذر عن العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضى لنزول العقاب، فثبت أن مخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب، فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ومخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه، قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، فما الدليل عليه؟ ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين أحدهما: أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب، وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة للأمر الثاني: أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقًا واجب القبول فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقًا واجب القبول، سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكنه معارض بوجوه أخر، وهو أنه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر الله تعالى، وذلك باطل وإلا لاستحق العقاب على ما بينتموه في المقدمة الثانية، سلمنا أن تارك المأمور به مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}؟ قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفًا للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر، فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟ سلمنا ذلك لكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر، فلم قلت إن مخالف الأمر لا يلزمه الحذر؟ فإن قلت لفظة {عن} صلة زائدة فنقول الأصل في الكلام لاسيما في كلام الله تعالى أن لا يكون زائدًا، سلمنا دلالة الآية على أن مخالف أمر الله تعالى مأمور بالحذر عن العذاب، فلم قلت إنه يجب عليه الحذر عن العذاب؟ أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت إن الأمر للوجوب؟ وهذا أول المسألة، فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لابد وأن يدل على حسن الحذر، وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت: لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب ولهذا يحسن الاحتياط وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة احتمالية لا قطعية، سلمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول العقاب، لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله: {عَنْ أَمْرِهِ} لا يفيد إلا أمرًا واحدًا، وعندما أن أمرًا واحدًا يفيد الوجوب، فلم قلت إن كل أمر كذلك؟ سلمنا أن كل أمر كذلك، لكن الضمير في قوله: {عَنْ أَمْرِهِ} يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى الرسول، والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما، فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك؟ الجواب: قوله لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه؟ قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال إن هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره، ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه، وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر، قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر، فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله: افعل لا يدل إلا على اقتضاء الفعل، وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر، فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله: الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقًا واجب القبول، قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق، فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه، فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل، أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر ذلك الدخول وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه.
قوله لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفًا فوجب أن يستحق العقاب، قلنا هذا الإلزام إنما يصح أن لو كان المندوب مأمورًا به وهو ممنوع، قوله لم لا يجوز أن يكون قوله: {فَلْيَحْذَرِ} أمرًا بالحذر عن المخالف لا أمرًا للمخالف بالحذر؟ قلنا لو كان كذلك لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذًا عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ضائعًا لأن الحذر ليس فعلًا يتعدى إلى مفعولين.