فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.
لما كان الاجتماع للرسول في الأمور يقع بعدَ دَعوته الناس للاجتماع وقد أمرهم الله أن لا ينصرفوا عن مجامع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لعذر بعد إذنه أنبأهم بهذه الآية وجوب استجابة دعوة الرسول إذا دعاهم.
وقد تقدم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} في سورة الأنفال (24).
والمعنى: لا تجعلوا دعوة الرسول إياكم للحضور لديه مخيَّرين في استجابتها كما تتخيرون في استجابة دعوة بعضكم بعضًا، فوجه الشبه المنفي بين الدعوتين هو الخيار في الإجابة.
والغرض من هذه الجملة أن لا يتوهموا أن الواجب هو الثبات في مجامع الرسول إذا حضروها، وأنهم في حضورها إذا دُعوا إليها بالخيار، فالدعاء على هذا التأويل مصدر دعاه إذا ناداه أو أرسل إليه ليحضر.
وإضافة {دعاء} إلى {الرسول} من إضافة المصدر إلى فاعله.
ويجوز أن تكون إضافة {دعاء} من إضافة المصدر إلى مفعوله والفاعل المقدر ضمير المخاطبين.
والتقدير: لا تجعلوا دعاءكم الرسولَ، فالمعنى نهيهم.
ووقع الالتفات من الغيبة إلى خطاب المسلمين حثًّا على تلقي الجملة بنشاط فهممٍ، فالخطاب للمؤمنين الذين تحدث عنهم بقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] وقوله: {إن الذين يستأذنونك} [النور: 62] الخ.
نُهوا عن أن يدْعوا الرسول عند مناداته كما يدعو بعضهم بعضًا في اللفظ أو في الهيئة.
فأما في اللفظ فبأن لا يقولوا: يا محمد، أو يا ابن عبد الله، أو يا ابن عبد المطلب، ولكن يا رسول الله، أو يا نبيء الله، أو بكنيته يا أبا القاسم.
وأما في الهيئة فبأن لا يدعُوه من وراء الحجرات، وأن لا يُلحوا في دعائه إذا لم يخرج إليهم، كما جاء في سورة الحجرات.
لأن ذلك كله من الجلافة التي لا تليق بعظمة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا أدب للمسلمين وسدّ لأبواب الأذى عن المنافقين.
وإذ كانت الآية تحتمل ألفاظُها هذا المعنى صح للمتدبر أن ينتزع هذا المعنى منها إذ يكفي أن يأخذ من لاح له معنى ما لاح له.
و{بينكم} ظرف إما لغو متعلق ب {تجعلوا} أو مستقِرّ صفة ل {دعاء} أي دعاءه في كلامكم.
وفائدة ذكره على كلا الوجهين التعريض بالمنافقين الذين تمالؤوا بينهم على التخلف عن رسول الله إذا دعاهم كلما وجدوا لذلك سبيلًا كما أشار إليه قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} [التوبة: 120].
فالمعنى.
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كما جعل المنافقون بينهم وتواطأوا على ذلك.
وهذه الجملة معترضة بين جملة: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] وما تبعها وبين جملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذًا}.
وجملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذًا} استئناف تهديد للذين كانوا سبب نزول آية.
{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] الآية، أي أولئك المؤمنون وضدهم المعرض بهم ليسوا بمؤمنين.
وقد علِمَهم الله وأطلع على تسللهم.
{وقد} لتحقيق الخبر لأنهم يظنون أنهم إذا تسللوا متستّرين لم يطلع عليهم النبي فأعلمهم الله أنه عَلمهم، أي أنه أعْلم رسوله بذلك.
ودخول {قد} على المضارع يأتي للتكثير كثيرًا لأن {قد} فيه بمنزلة رب تستعمل في التكثير، ومنه قوله تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم} [الأحزاب: 18] وقول زهير:
أخو ثقةٍ لا تُهلك الخمرُ مالَه ** ولكنه قد يُهلك المَالَ نائلُه

و{الذين يتسللون} هم المنافقون.
والتسلل: الانسلال من صُبرة، أي الخروج منه بخفية خروجًا كأنه سَلّ شيء من شيء.
يقال: تسلل، أي تكلف الانسلال مثل ما يقال: تدخل إذا تكلف إدخال نفسه.
واللواذ: مصدر لاَوَذَهُ، إذا لاَذَ به ولاذَ به الآخر.
شبه تستر بعضهم ببعض عن اتفاق وتآمر عند الانصراف خفية بلوذ بعضهم ببعض لأن الذي ستر الخارج حتى يخرج هو بمنزلة من لاذ به أيضًا فجعل حصول فعله مع فعل اللائذ كأنه مفاعلة من اللوذ.
وانتصب {لواذًا} على الحال لأنه في تأويل اسم الفاعل.
و{منكم} متعلق ب {يتسللون}.
وضمير {منكم} خطاب للمؤمنين، أي قد علم الله الذين يخرجون من جماعتكم متسللّين ملاوذين.
وفرع على ما تضمنته جملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذًا} تحذير من مخالفة ما نهى الله عنه بقوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم} الآية بعد التنبيه على أنه تعالى مطلع على تسللهم.
والمخالفة: المغايرة في الطريق التي يمشي فيها بأن يمشي الواحد في طريق غير الطريق الذي مشى فيه الآخر، ففعلها متعدّ.
وقد حذف مفعوله هنا لظهور أن المراد الذين يخالفون الله، وتعدية فعل المخالفة بحرف عن لأنَّه ضُمّن معنى الصدود كما عُدّي ب إلى في قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} لما ضمن معنى الذهاب.
يقال خالفه إلى الماء، إذا ذهب إليه دونه، ولو تُرِكت تعديته بحرف جر لأفاد أصل المخالفة في الغرض المسوق له الكلام.
وضمير {عن أمره} عائد إلى الله تعالى.
والأمر هو ما تضمنه قوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} فإن النهي عن الشيء يستلزم الأمرَ بضده فكأنه قال: اجعلوا لدعاء الرسول الامتثال في العلانية والسر.
وهذا كقول ابن أبي ربيعة:
فقلْنَ لها سرًا فديناككِ لا يرُحْ ** صحيحًا وإن لم تقتليه فألمم

فجعل قولهن: لا يَرح صحيحًا وهو نهي في معنى: اقتليه، فبنى عليه قوله: وإن لَم تَقتليه فألمم.
والحذر: تجنب الشيء المخيف.
والفتنة: اضطراب حال الناس، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} في البقرة (191).
والعذاب الأليم هنا عذاب الدنيا، وهو عذاب القتل.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
ث تذييل لما تقدم في هذه السورة كلها.
وافتتاحه بحرف التنبيه إيذان بانتهاء الكلام وتنبيه للناس ليعُوا ما يرد بعد حرف التنبيه، وهو أن الله مالك ما في السماوات والأرض، فهو يجازي عباده بما يستحقون وهو عالم بما يفعلون.
ومعنى: {ما أنتم عليه} الأحوال الملابسين لها من خير وشر، فحرف الاستعلاء مستعار للتمكن.
وذكَّرهم بالمعاد إذ كان المشركون والمنافقون منكرينه.
وقوله: {فينبئهم بما عملوا} كناية عن الجزاء لأن إعلامهم بأعمالهم لو لم يكن كناية عن الجزاء لما كانت له جدوى.
وقوله: {والله بكل شيء عليم} تذييل لجملة: {قد يعلم ما أنتم عليه} لأنه أعم منه.
وفي هذه الآية لطيفة الاطلاع على أحوالهم لأنهم كانوا يسترون نفاقهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.
لأهل العلم في هذه الآية أقوال راجعة إلى قولين:
أحدهما: أن المصدر الذي هو دعاء إلى مفعوله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالرسول مدعو.
الثاني: أن المصدر المذكور مضاف إلى فاعله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالرسول داع.
وإيضاح معنى قول من قال: إن المصدر مضاف إلى مفعوله، أن المعنى: لا تجعلوا دعاءكم الرسول إذا دعوتموه كدعاء بعضكم بعضًا، فلا تقولوا له: يا محمد مصرّحين باسمه، ولا ترفعوا أصواتكم عنده كما يفعل بعضكم مع بعض، بل قولوا له: يا نبيّ الله، يا رسول الله، مع خفض الصوت احترامًا له صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول: هو الذي تشهد له آيات من كتاب الله تعالى كقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 23] وقوله تعالى: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} [الحجرات: 45]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} [البقرة: 104] الآية، وهذا القول في الآية مروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادةز كما ذكره عنهم القرطبي، وذكره ابن كثير عن الضحاك، عن ابن عباس، وذكره أيضًا عن سعيد بن جبير، ومجاهد، ومقاتل، ونقله أيضًا عن مالك عن زيد بن أسلم، ثم قال: إنّ هذا القول هو الظاهر، واستدل له بالآيات التي ذكرنا وأما القول الثاني: وهو أن المصدر مضاف إلى فاعله ففي المعنى وجهان:
الأول: ما ذكره الزمخشري في الكشاف، قال إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتقربوا عنه إلاّ بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إيّاكم على دعاء بعضكم بعضًا، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي.
والوجه الثاني: هو ما ذكره ابن كثير في تفسيره قال، والقول في ذلك أن المعنى في {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإنّ دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم، فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العوفي والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
قال مقيّده عفا الله عنه وغفر له: هذا الوجه الأخير يأباه ظاهر القرآن، لأنّ قوله تعالى: {كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} يدل على خلافه، ولو أراد دعاء بعضهم على بعض لقال: لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض فدعاء بعضهم بعضًا، ودعاء بعضهم على بعض متغايران كما لا يخفى.
والظاهر أن قوله: لا تجعلوا من جعل التي بمعنى اعتقد، كما ذكرنا عن ابن كثير آنفًا.