فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
الضمير في قوله: عن أمره راجع إلى رسول، أو إلى الله والمعنى واحد، لأنّ الأمر من الله والرسول مبلغ عنه، والعرب تقول: خالف أمره وخالف عن أمره: وقال بعضهم: يخالفون: مضمن معنى يصدون، أي يصدُّون عن أمره.
وهذا الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوبن لأنه جل وعلا توعَّد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم وحذَّرهم من مخالفة الأمر. وكلّ ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب، ما لم يصرف عنه صارف، لأنّ غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير.
وهذا المعنى الذي دّلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب دلّت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] فإن قوله: {اركعوا} أمر مُطلقن وذمّه تعالى للذين لم يتمثلوه بقوله: {لاَ يَرْكَعُونَ} يدل على أن امتثاله واجب. وكقوله تعالى لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] فإنكاره تعالى على إبليس موبِّخًا بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} يدلّ على أنه تارك واجبًا. وأنَّ امتثال الأمر واجب مع أنّ الأمر المذكور مطلق، وهو قوله تعالى: {اسجدوا لآدَمَ} [البقرة: 34] و[الأعراف: 11] و[الإسراء: 61] و[الكهف: 50] و[طه: 116] وكقوله تعالى عن موسى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] فسمى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور مطلق، وهو قوله: {اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] وكقوله تعالى: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفة عاص، ولا يكون عاصيًا إلا بترك واجب، أو ارتكاب محرَّم. وكقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فإنّه يدل على أن أمر الله، وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب كما ترى. وأشار إلى أنّ مخالفته معصية بقوله بعده: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].
واعلم أن اللغة تدل على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب بدليل أن السيد لو قال لعبده اسقني ماء مثلًا، ولم يمتثل العبد أمر سيده فعاقبه السيد فليس للعبد أن يقول: عقابك لي ظلم لأن صيغة الأمر في قولك: اسقني ماء لم توجب عليَّ الامتثال فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني، بل يُفهم من نفس الصيغة أنّ الامتثال يَلزمه، وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه، والفتنة في قوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة} قيل هي القتل، وهو مروي عن ابن عباس، وقيل: الزلازل والأهوال، وهو مروي عن عطاء.
وقيل: السلطان الجائر، وهو مروي عن جعفر بن محمد. قال بعضهم: هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: فتنة: محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد دلّ استقراء القرآن العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان.
الأول: أن يراد بها الإحراق بالنار كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] وقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين} [البروج: 10] الآية. أي أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك.
الثاني: وهو أشهرها إطلاق الفتنة على الاختبار كقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] الآية. قوله تعالى: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 1617].
والثالث: إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيئة كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ} [البقرة: 193]. وفي الإنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الإنفال: 39]. فقوله: {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] أي حتى لا يبقى شرك على أصح التفسيرين، ويدل على صحته قوله بعده: {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، لأن الدين لا يكون كله لله حتى لا يبقى شِرك كما ترى، ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أن أقاتل الناسَ حتَّى يقولوا لا إله إلا الله» كما لا يخفى.
والرابع: إطلاق الفتنة على الحجَّة في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، أي لم تكن حجَّتهم، كما قال به بعض أهل العلم.
والأظهر عندي: أن الفتنة في قوله هنا: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة} أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة.
وأن معناه أن يفتنهم الله أي يزيدهم ضلالًا بسبب مخالفتهم، عن أمرهن وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى تدلّ عليه آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله جلّ وعلا: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] وقوله تعالى: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [البقرة: 10] الآية. وقوله تعالى: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} [التوبة: 125] الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنّه يعلم ما عليه خلقه أي من الطاعة والمعصية وغير ذلك.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية مع أنه معلوم بالضرورة من الدِّين، جاء مبينًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5] وقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر. وقوله تعالى: {وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الشعراء: 217220]. وقوله تعالى: {سَوَاءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار} [الرعد: 10] وقوله تعالى: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الملك: 13]، وقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59]، وقوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6] وقوله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] إلى غير ذلك من الآيات، وفي هذه الآيات وما في معناها أحسن وعد للمطيعين، وأشدّ وعيد للعصاة المجرمين، ولفظة {قد} في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} للتحقيق، وإتيان {قد} للتحقيق مع المضارع كثير جدًا في القرآن العظيم. كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} الآية. وقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] الآية. وقوله تعالى: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء} [البقرة: 144] الآية.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ}.
قوله تعالى في هذه الآية: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} الظاهر أنه ليس بظرف، بل هو معطوف على المفعول به الذي هو {ما} من قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي ويعلم يوم يرجعون إليه، وقد ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يوم القيامة ينبئ الخلائق بكلِّ ما عملوا؛ أي يخبرهم به ثمَّ يجازيهم عليه.
وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جلّ وعلا يخبرهم يوم القيامة بما عملوا جاء موضحًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] وقوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ ُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكفهف: 49] والآيات بمثل ذلك كثيرة. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله سبحانه: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].
فأنتم يدعو بعضكم بعضًا في مسألة خاصة، لكن الرسول يدعوكم لمسألة عامة تتعلق بحركة حياة الناس جميعًا إلى أنْ تقوم الساعة.
أو: أن الدعاء هنا بمعنى النداء يعني: يناديكم الرسول أو تنادونه؛ لأن لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم آدابًا يجب مراعاتها، فهو ليس كأحدكم تنادونه: يا محمد، وقد عاب القرآن على جماعة لم يلتزموا أدب النداء مع رسول الله، فقال: {إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4].
فأساءوا حين قالوا: يا محمد، ولو قالوا حتى: يا أيها الرسول فقد أساءوا؛ لأنه لا يصحّ أنْ يتعجّلوا رسول الله، ويجب أنْ يتركوه على راحته، إنْ وجد فراغًا للقائهم خرج إليهم، إذن: أساءوا من وجهين.
ولا يليق أن نناديه صلى الله عليه وسلم باسمه: يا محمد. لأن الجامع بين الرسول وأمته ليس أنه محمد، إنما الجامع أنه رسول الله، فلابد أنْ نناديه بهذا الوصف. ولِمَ لا وربه عز وجل وهو خالقه ومصطفيه قد ميّزه عن سائر إخوانه من الرسل، ومن أولي العزم، فناداهم بأسمائهم:
{يَاءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35].
وقال: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [هود: 48].
وقال: {يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} [الصافات: 104105].
وقال: {يا موسى إني أَنَا الله} [القصص: 30].
وقال: {يا عيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116].
وقال: {يا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} [ص: 26].
لكن لم يُنَادِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم باسمه أبدًا، إنما يناديه ب {يا أيها} الرسول، يا أيها النبي. فإذا كان الحق تبارك وتعالى لم يجعل دعاءه للرسول كدعائه لباقي رسله، أفندعوه نحن باسمه؟ ينبغي أن نقول: يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا رسول الله، يا نبي الله، فهذا هو الوصف اللائق المشرِّف.
وكما نُميِّز دعاء رسول الله حين نناديه، كذلك حين ينادينا نحن يجب أن نُقدِّر هذا النداء، ونعلم أن هذا النداء لخير عام يعود نفعه على الجميع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
لا شكَّ أن الذين يستأذنون رسول الله فيهم إيمان، فيُراعنون مجلس رسول الله، ولا يقومون إلا بإذنه، لكن هناك آخرون يقومون دون استئذان: {يَتَسَلَّلُونَ} [النور: 63] والتسلل: هو الخروج بتدريج وخُفْية كأنْ يتزحزح من مكان لآخر حتى يخرج، أو يُوهِمك أنه يريد الكلام مع شخص آخر ليقوم فينسلِتُ من المجلس خُفْية، وهذا معنى {يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] يلوذ بآخر ليخرج بسببه.
ويحذر الله هؤلاء: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] والتحذير إنذار بالعاقبة السيئة التي تترتب على الانسحاب من مجلس رسول الله، كأنه يقول لهم: قارنوا بين انسحابكم من مجلس الرسول وبين ما ينتظركم من العقاب عليه.
وقال: {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] لا يخالفون أمره، فجعل في المخالفة معنى الإعراض، لا مجرد المخالفة، فالمعنى: يُعرِضون عنه.
والأمر: يُراد به فعل الأمر أو النهي أو الموضوع الذي نحن بصدده يعني: ليس طلبًا، وهذا المعنى هو المراد هنا: أي الموضوع الذي نبحثه ونتحدث فيه، فانظروا ماذا قال رسول الله ولا تخالفوه ولا تعارضوه؛ لأنه وإنْ كان بشرًا مثلكم إلا أنه يُوحَى إليه.
لذلك يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم مركزه كبشر وكرسول، فيقول: يَرِدُ عليَّ يعني من الحق الأعلى فأقول: أنا لست كأحدكم، ويُؤخَذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم.
لذلك كان الصحابة يفهمون هذه المسألة، ويتأدبون فيها مع رسول الله، ويسألونه في الأمر: أهو من عند الله قد نزل فيه وَحْي، أم هو الرأْي والمشورة؟ فإنْ كان الأمر فيه وَحْيٌ من الله فلا كلامَ لأحد مع كلام الله، وإنْ كان لم يرد فيه من الله شيء أدْلَى كُلٌّ منهم برأيه ومشورته.