فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {دُعَاءَ الرسول}:
يجوزُ أَنْ يكونَ هذا المصدرُ مضافًا لمفعولِه أي: دعاءَكم الرسولَ بمعنى: أنَّكم لا تنادُوه باسمِه فتقولون: يا محمدُ، ولابكُنيته فتقولون: يا أبا القاسمِ، بل نادُوه وخاطِبوه بالتوقير: يا رسولَ الله يا نبيَّ الله. وعلى هذا جماعةٌ كثيرةٌ، وأَنْ يكونَ مضافًا للفاعل. واختلفت عباراتُ الناسِ في هذا المعنى فقيل: لا تَجْعَلوا دعاءَه إيَّاكم كدعاءِ بعضٍ لبعضٍ فتتباطَؤُون عنه، كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمرٍ، بل يجبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه. واختاره أبو العباس، ويؤيِّدُه قوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}. وقيل: معناه لا تَجْعَلوا دعاءَ الرسولِ ربَّه مثلَ ما يَدْعو صغيرُكم كبيرَكم، وفقيرُكم غنيَّكم يَسْأله حاجةً، فرُبمَّا تُجابُ دعوتُه، ورُبَّما لا تُجاب. وإنْ دَعَواتِ الرسولِ عليه السلام مسموعةٌ مستجابةٌ... في التخريجةِ الأخرى.
وقرأ الحسنُ {نَبِيِّكم} بتقديم النونِ على الباء المكسورةِ بعدَها ياءٌ مشدَّدةٌ مخفوضةٌ مكانَ {بينَكم} الظرفِ في قراءة العامَّة. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه بدلٌ من الرسول. الثاني: أنه عطفُ بيانٍ له لأنَّ النبيَّ رسولٌ، بإضافتِه إلى المخاطبين صار أشهرَ من الرسول. الثالث: أنَّه نعتٌ. لا يُقال: إنَّه لا يجوزُ لأنَّ هذا كما قَرَّرْتُمْ أعرفُ، والنعتُ لا يكونُ أعرفَ مِنَ المنعوتِ. بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ؛ لأنَّ الرسولَ صار عَلَمًا بالغَلَبةِ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد تَسَاويا تعريفًا.
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله} قد تَدُلُّ على التقليلِ مع المضارع إلاَّ في أفعالِ اللهِ تعالى، فتدُلُّ على التحقيقِ كهذه الآيةِ. وقد رَدَّها بعضُهم إلى التقليلِ لكنْ إلى متعلِّقٍ العلمِ، يعني أنَّ الفاعِلين لذلك قليلٌ، فالتقليلُ ليس في العِلْمِ بل في متعلَّقِه.
قوله: {لِوَاذًا} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ من معنى الفعلِ الأولِ؛ إذ التقديرُ: يَتَسَلَّلُون منكم تَسَلُّلًا، أو يُلاوِذُون لِواذًا. والثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي مُلاوِذين. واللِّواذُ: مصدرُ لاوَذَ. وإنَّما صَحَّتِ الواوُ وإنْ انكسَرَ ما قبلها، ولم تُقْلَبْ ياءً كما قُلِبَتْ في قيام وصِيام؛ لأنها صَحَّتْ في الفعلِ نحو: لاوَذَ فلو أُعِلَّتْ في الفعلِ أُعِلَّتْ في المصدرِ نحو: القيام والصِّيام لقَلْبها ألفًا في قام وصام. فأمَّا مصدرُ لاذَ بكذا يَلُوْذُ بهِ فمعتلٌّ نحو: لاذَ لِياذًا، مثل: صام صِيامًا وقام قِيامًا. واللِّواذُ والمُلاوَذَةُ: التَّسَتُّرُ يُُقال: لاَوَذَ فلانٌ بكذا أي: اسْتَتَر به. واللَّوْذُ: ما يَطِيْفُ بالجبل. وقيل: اللِّواذُ: الرَّوَغانُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ في خُفْيَةٍ. وفي التفسير: أنَّ المنافقين كانوا يَخْرُجون مُتَسَترين بالناسِ من غيرِ استئذانٍ حتى لا يُرَوا. والمفاعَلَةُ: لأنَّ كلًا منهم يَلُوْذُ بصاحبهِ فالمشاركةُ موجودةٌ.
وقرأ يزيد بن قطيب {لَواذًا} بفتحِ اللامِ، وهي محتملةٌ لوجهين أحدُهما: أَنْ تكونَ مصدرَ لاذ ثلاثيًا فتكون مثلَ: طافَ طَوافًا.
وصَلَحَتْ أَنْ تكونَ مصدرَ لاوَذَ، إلاَّ أنَّه فُتِحَتْ الفاءُ إتباعًا لفتحةِ العينِ وهو تعليلٌ ضعيفٌ يَصْلُحُ لمثلِ هذه القراءةِ.
قوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين} فيه وجهان، أشهرُهما: وهو الذي لا يَعْرِف النحاةُ غيرَه أنَّ الموصولَ هو الفاعلُ و{أن تصيبَهم} مفعولُه أي: فَلْيَحْذَرِ المخالفون عن أمرِه إصابتَهم فتنةٌ. والثاني: أنَّ فاعل {فَلْيَحْذَرْ} ضميرٌ مستترٌ، والموصولُ مفعولٌ به. وقد رُدَّ على هذا بوجوهٍ منها: أنَّ الإِضمارَ على خلافِ الأصلِ. وفيه نظرٌ؛ لأن هذا الإِضمارَ في قوةِ المنطوقِ به، فلا يُقال: هو خلافُ الأصلِ. ألا ترى أنَّ نحوَ: قُمْ ولْتقم فاعلُه مضمرٌ، ولا يُقال في شيءٍ منه: هو خلافُ الأصلِ، وإنما الإِضمارُ خلافُ الأصلِ فيما كان حَذْفًا نحو: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
ومنها أنَّ هذا الضميرَ لا مَرْجعَ له أي: ليس له شيءٌ يعودُ عليه فَبَطَلَ أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميرًا مستترًا، وأُجيب: بأنَّ الذي يعودُ عليه الضميرُ هو الموصولُ الأولُ أي: فَلْيَحْذَرِ المُتَسَلِّلون المخالِفينَ عن أمرِه فيكونون قد أُمِرُوا بالحَذَرِ منهم أي: أُمِروا باجتنابهم كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ. وقد رَدُّوا هذا بوجهين، أحدُهما: أنَّ الضميرَ مفردٌ، والذي يعودُ عليه جمعٌ، فقاتَتِ المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسيرِ الضمائر. الثاني: أنَّ المُتَسَللين هم المخالِفُون، فلو أُمِروا بالحَذَرِ عن الذين يُخالِفُون لكانوا قد أُمِروا بالحَذَرِ من أنفسهم، وهو لا يجوز؛ لأنَّه لا يمكِنُ أَنْ يُؤْمَروا بالحَذَرِ من أنفسهم.
ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن الأولِ: بأنَّ الضميرَ وإن كان مفردًا فإنما عاد على جمعٍ باعتبارِ أنَّ المعنى: فليحذَرْ هو. أي: مِنْ ذِكْرِ مثلِ ذلك. وحكى سيبويه ضرَبني وضربْتُ قومَك أي: ضربني مَنْ ثَمَّ ومَنْ ذُكِر، وهي مسألةٌ معروفةٌ في النحوِ، أو يكونُ التقديرُ: فليحذَرْ كلُّ واحدٍ من المُتَسَلِّلين. وعن الثاني: بأنه يجوزُ أَنْ يُؤْمَرَ الإِنسانُ بالحَذَرِ عن نفسِه مجازًا. يعني أنَّه لا يطاوعُها على شهواتِها وما تُسَوِّلُه له من السوءِ. كأنه قيل: فَلْيحذرِ المخالفونَ أنفسَهم، فلا يُطِيْعوها في ما تَأْمُرُهُمْ به، ولهذا يُقال: أَمَر نفسَه ونهاها، وأَمَرَتْه نفسُه باعتبار المجازِ.
ومنها: أنَّه يَصيرُ قولُه: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُفْلَتًا ضائِعًا؛ لأنَّ يَحْذَرُ يتعدَّى لواحدٍ، قد أَخَذَه على زَعْمِكم وهو {الذين يُخالفون} ولا يتعدى إلى اثنين حتى يَقُولوا: إنَّ {أنْ تصيبَهم فتنةٌ} في محلِّ مفعولِه الثاني فبقي ضائعًا. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يُسَلَّم ضَياعُه؛ لأنه مفعولٌ من أجله. واعتُرِضَ على هذا: بأنه لم يَسْتكمل شروطَ النصبِ لاختلافِ الفاعلِ؛ لأنَّ فاعلَ الحَذَرِ غيرُ فاعلِ الإِصابةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ يَطَّرِدُ مع أَنْ وأنَّ. فنقول: مُسَلَّمٌ شروطُ النصبِ غيرُ موجودة، وهو مجرورٌ باللامِ تقديرًا، وإنما حُذِفَتْ مع {أَنْ} لطولِها بالصلة.
و{يُخالِفُون} يتعدى بنفسِه نحو: خالَفْتُ أَمْرَ زيدٍ، وإلى نحو: خالَفْتُ إلى كذا، فكيف تعدى هذا بحرفِ المجاوزِة؟ وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه ضُمِّن معنى صَدَّ وأَعْرَضَ أي: صدَّ عن أمرِه وأَعْرَضَ عنه مخالِفًا له. والثاني: قال ابن عطية: معناه يَقَعُ خلافُهم بعدَ أَمْرِه، كما تقول: كان المطر عن ريحِ كذا، وعَنْ لما عدا الشيءَ. الثالث: أنها مزيدةٌ أي: يخالفون أمرَه، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة، والزيادةُ خلافُ الأصلِ.
وقُرِىء {يُخَلِّفون} بالتشديد، ومَفْعولُه محذوفٌ أي: يُخَلِّفون أنفسَهم.
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ}:
قال: الزمخشري: أَدْخَلَ {قد} ليؤكِّد عِلْمَه بما هم عليه من المخالفةِ عن الدينِ والنفاق، ويرجع توكيدُ العلمِ إلى توكيدِ الوعيدِ: وذلك أنَّ {قد} إذا دَخَلَتْ على المضارعِ كانت بمعنى رُبَّما فوافَقَتْ رُبَّما في خروجِها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
فإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناءِ فرُبَّما ** أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفودُ

ونحوٌ من ذلك قولُ زهير:
أَخي ثقةٍ لا تُهْلِكُ الخمرُ مالَه ** ولكنَّه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ

قال الشيخ: وكونُ قد إذا دَخَلَت على المضارعِ أفادَتِ التكثير قولٌ لبعضِ النحاةِ. وليس بصحيحٍ، وإنما التكثيرُ مفهومٌ من السِّياق. والصحيحُ: أنَّ رُبَّ للتقليلِ للشيءِ، أو لتقليلِ نظيرِه. وإنْ فُهِم تكثيرٌ فمِنْ السِّياقِ لا منها.
{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ} في {يوم} وجهان أحدُهما: أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ لعطفِه على قولِه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي: يعلمُ الذي أنتم عليه مِنْ جميعِ أحوالِكم، ويَعْلَمُ يومَ يُرْجَعُون كقولِه: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ}. والثاني: أنه ظرفٌ لشيءٍ محذوف. قال ابن عطية: ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: والعلمُ الظاهرُ لكم أو نحو هذا يومَ، فيكونُ النصبُ على الظرفِ انتهى.
وقرأ العامَّةُ {يُرْجَعون} مبنيًا للمفعول. وأبو عمرو في آخرين مبنيًا للفاعلِ. وعلى كلتا القراءتين فيجوزُ وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في الكلامِ التفاتٌ من الخطابِ في قولِه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} إلى الغَيْبة في قوله: {يُرْجَعون}. والثاني: أنَّ {ما أنتم عليه} خطابٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ. والضميرُ في {يُرْجَعُون} للمنافقين خاصةً، فلا التفاتَ حينئذٍ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} أي عَظِّموه في الخطاب، واحفظوا في خدمته الأدبَ، وعانِقوا طاعتَه على مراعاةِ الهيبة والتوقير.
قوله جلّ ذكره: {فَلْيَحْذِرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
سعادة الدارين في متابعةَ السنَّة، وشقاوة المنزلين في مخالفة السُّنَّة. ومِنْ أَيْسَرِ ما يُصيب مَنْ خَالَفَ سُنتَه حرمانُ الموافقة، وتَعَذُّرُ المتابعة بعده، وسقوط حشمة الدارين عن قلبه.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}.
إنَّ لليوم غدًا، ولِمَا يفعلُ العبدُ حسابًا، وسيُطالَبُ المكَلَّفُ بالصغيرِ والكبير، والنقير والقطمير. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: {ومن يطع الله ورسوله} فيما يدعوانه إلى الحضرة بترك ما سوى الله {ويخشى} الانقطاع عن الله ويثق به عما سواه {فأولئك هم الفائزون} بالوصول والوصال وصالًا بلا انفصال وزوال {لئن أمرتهم بالخروج} عن غير الله {طاعة معروفة} بالفعل دون القول {ليستخلفنهم} ليخرجن ما في استعدادهم من خلافة الله في أرض البشرية من القوة إلى الفعل. {وليمكنن} كل صنف حمل الأمانة المودعة فيه على اختلاف مراتبهم وطباقتهم، فمنهم حفاظ لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وللقرآن، ومنهم علماء الأصول، ومنهم علماء الفروع، ومنهم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وأرباب السلوك الكاملون المكملون، وإنهم خلفاء الله على الحقيقة وأقطاب العالم وأوتاد الأرض {وليبدلنهم من بعد خوفهم} من الشرك الخفي {أمنا يعبدونني} بالإخلاص {لا يشركون بي شيئًا} من مطالب الدنيا والآخرة {ليستأذنكم} المريدون الذين هم تحت تصرفكم {والذين لم يبلغوا} أوان الشيخوخة {ثلاث مرات} في المبادي وفي أوساط السلوك وفي نهاية أمرهم، فإذا صلحت أحوالهم في هذه الأوقات صلح سائرها في الأغلب والله المستعان. {والقواعد} فيه إشارة إلى أن المريد إذ صار بحيث أمن منه إفشاء الأسرار وما استودع فيه من متولدات الأحوال، فلا ضير عليه أن لا يبالغ في التستر والإخفاء من الأغيار والكتمان خير له {ليس على الأعمى حرج} قال الشيخ المحقق نجم الدين المعروف بداية رضي الله عنه: فيه إشارة إلى أن من لا يبصر إلا بالله ولا يمشي إلا بالله ولا يعلم إلا بالله فإنهم مخصوصون بالتكون بكينونة الله كما قال «كنت له سمعًا» الحديث.
فإنهم مستعدون لقبول الفيض الإلهي وهم السابقون المقربون فلا حرج في الشرع على من يكون مستعدًا لهذا الكمال، فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وفي قوله: {ولا على أنفسكم} الخ إشارة إلى أنه لا حرج على أرباب النفوس على أن يكون مأكلهم من بيوتهم أو بيوت أبناء جنسهم وهي الجنات ومراتبها كما قال {وفيها ما تشتهيه الأنفس} [الزخرف: 71] وفي قوله: {أو ما ملكتم مفاتحه} إشارة إلى أن درجات الجنة مساكن أهل المكاسب كما أن مقامات أهل القرب عند مليك مقتدر منازل أهل المواهب.
قوله: {أو صديقكم} فيه أن درج الجنان ينالها المرء ببركة جليسه الصالح، وقد ينعكس نور ولاية الشيخ على مرآة قلب المريد الصادق فينال به مرتبة لم يكن يصل إليها بمجرد أعماله: {ليس عليكم جناح} فيه أنه لا حرج على أهل الجنة أن تكون مآكلهم من درجة واحدة أو من درجات شتى. {فإذا دخلتم بيوتًا} أي بلغتم منزلًا من المنازل {فسلموا} أي استسلموا لأحكام الربوبية بمزيد العبودية حتى ترتقوا منها إلى منازل أعلى وأطيب {إنما المؤمنون} فيه أن المريد الصادق ينبغي أن لا يتنفس إلا بإذن شيخه فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته {أن تصيبهم فتنة} من المال أو الجاه أو قبول الخلق أو التزويج أو السفر بإذن الشيخ أو التردد على أبواب الملوك ونحو ذلك، وما العصمة إلا من واهبها وهو المستعان. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في الآيات: ما قيل في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَابًا} إلى آخره أنه إشارة إلى جمع العناصر الأربعة وتركيب الإنسان منها ثم خروج مطر الإحساس من عينيه وأذنيه مثلًا وينزل من سماء العقل الفياض برد حقائق العلوم فيصيب به من يشاء فتظهر آثاره عليه ويصرفه عمن يشاء حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} نور تجليه {يَذْهَبُ الأبصار} [النور: 43] بأن يعطلها عن الإبصار ويفني أصحابها عنها لما أن الإدراك بنوره فوق الإدراك بنور الإبصار {يُقَلّبُ الله الليل والنهار} [النور: 44] إشارة إلى ليل المحو ونهار الصحو أو ليل القبض ونهار البسط أو ليل الجلال ونهار الجمال أو نحو ذلك.
وقيل: يزجى سحاب المعاصي إلى أن يتراكم فترى مطر التوبة يخرج من خلاله كما خرج من سحاب {وعصى ءادَمَ} [طه: 121] مطر {ثُمَّ اجتباه} [طه: 122] ربه وينزل من سماء القلوب من جبال القسوة فيها من برد القهر يقلب الله ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء} تقدم الكلام في الماء {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ} يعتمد في سيره على الباطن وهم أهل الجذبة المغمورون في بحار المحبة {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ} يعتمد في سيره الشريعة والطريقة لكن فيما يتعلق به خاصة منهما وهم صنف من الكاملين سكنوا زوايا الخمول ولم يخالطوا الناس ولم يشتغلوا بالإرشاد {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ} يعتمد في سيره الشريعة والطريقة فيما يتعلق به وبغيره منهما وهم صنف آخر من الكاملين برزوا للناس وخالطوهم واشتغلوا بالإرشاد وعملوا في أنفسهم بما تقتضيه الشريعة والطريقة وعاملوا الناس والمريدين بذلك أيضًا: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} [النور: 45] فلا يبعد أن يكون في خلقه من يمشي على أكثر كالكاملين الذين أوقفهم الله تعالى على أسرار الملك والملكوت وما حده لكل أمة من الأمم ونوع من أنواع المخلوقات فعاملوا بعد أن عملوا في أنفسهم ما يليق بهم كل أمة وكل نوع بما حد له {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].
وفي قوله تعالى: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول} [النور: 47] الآيات إشارة إلى أحوال المنكرين في القلب على المشايخ وأحوال المصدقين بهم قلبًا وقالبًا وفي قوله سبحانه: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} [النور: 54] إشارة إلى أن طاعة الرسول سبب لحصول المكاشفات ونحوها، قال أبو عثمان: من أمر السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَذِنُوهُ} [النور: 62] إشارة إلى أنه لا ينبغي للمريد الاستبداد بشيء قال عبد الله الرازي: قال قوم من أصحاب أبي عثمان لأبي عثمان أوصنا فقال: عليكم بالاجتماع على الدين وإياكم ومخالفة الأكابر والدخول في شيء من الطاعات إلا بإذنهم ومشورتهم وواسوا المحتاجين بما أمكنكم فإذا فعلتم أرجو أن لا يضيع الله تعالى لكم سعيًا {رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فيه من تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيه، وذكر أن الشيخ في جماعته كالنبي في أمته فينبغي أن يحترم في مخاطبته ويميز على غيره {فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 36] قال أبو سعيد الخراز: الفتنة إسباغ النعم مع الاستدراج، وقال الجنيد قدس سره: قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر، وقال بعضهم: طبع على القلوب والعذاب الأليم هو عذاب البعد والحجاب عن الحضرة نعوذ بالله تعالى من ذلك ونسأله سبحانه التوفيق إلى أقوم المسالك فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. اهـ.