فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

مقدمة سورة الفرقان:
هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية، وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش، وعنادهم له، وتطاولهم عليه، وتعنتهم معه، وجدالهم بالباطل، ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه.
فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله؛ وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا؛ ويهدهد قلبه، ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة، وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة.
وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله ورسوله، وهي تجادل في عنف، وتشرد في جموح، وتتطاول في قحة، وتتعنت في عناد، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين.
إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم: {إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون}.. أو تقول: {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} والتي تقول عن محمد رسول الله الكريم: {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا}.. أو تقول في استهزاء: {أهذا الذي بعث الله رسولا ?}.. والتي لا تكتفي بهذا الضلال، فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبير: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا}. أو تتعنت فتقول: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ?.
وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير.. لقد اعترض القوم على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ? لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا!}.
واعترضوا على حظه من المال، فقالوا: {أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها}.
واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة!}.
وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والقحة والافتراء الأثيم.
ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه هذا كله، وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال، ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا، ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه، ولا يحفل بشيء سواه: «رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي. لك العتبى حتى ترضى».
فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه، ويمسح على آلامه ومتاعبه، ويهدهده ويسري عنه، ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه، بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم، وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره.. فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك! {ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا}.. {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا}.. {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن}.
ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوى الهابط الذي يتمرغون فيه: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا!}.
ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجة: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}.. وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل: قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون.
ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامة: {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} {بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ادعوا ثبورا كثيرا} {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا! ليتني لم أتخذ فلانا خليلا}.
ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا}.
ويكلفه أن يصبر ويصابر، ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن، واضح الحجة قوي البرهان عميق الأثر في الوجدان: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا}.
ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه {وتوكل علي الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا}.
وهكذا تمضي السورة في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله. وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتتبير ونكال من الله الكبير المتعال. حتى تقرب من نهايتها، فإذا ريح رخاء وروح وريحان، وطمأنينة وسلام.. وإذا صورة {عباد الرحمن}.. {الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهادالشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة؛ وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك.
وتختم السورة بتصوير هوآن البشرية على الله، لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجىء إليه وتدعوه: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما}.
هذه هي ظلال السورة؛ وذلك هو محورها الذي تدور عليه، وموضوعها الذي تعالجه. وهي وحدة متصلة، يصعب فصل بعضها عن بعض. ولكن يمكن تقسيمها إلى أربعة أشواط في علاج هذا الموضوع.
يبدأ الشوط الأول منها بتسبيح الله وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا. وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض، المدبر للكون بحكمة وتقدير، ونفي الولد والشريك. ثم يذكر اتخاذ المشركين مع ذلك آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون.. كل أولئك قبل أن يحكي مقولاتهم المؤذية عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيبه فيما جاءهم به، وادعائهم أنه إفك افتراه، وأنه أساطير الأولين اكتتبها. وقبل أن يحكي اعتراضاتهم على بشرية الرسول وحاجته للطعام والمشي في الأسواق، واقتراحاتهم أن ينزل عليه ملك أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها. وقحتهم في وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه رجل مسحور.. وكأنما يسبق بمقولاتهم الجاحده لربهم كي يهون على نفس الرسول صلى الله عليه وسلم مقولاتهم عنه وعن رسالته.. ومن ثم يعلن ضلالهم وتكذيبهم بالساعة، ويتوعدهم بما أعده الله لهم من سعير، يلقون فيها مكانا ضيقا مقرنين. ويعرض في الصفحة المقابلة صورة المؤمنين في الجنة. {لهم فيها ما يشاءون خالدين}.. ويستمر في عرض مشهدهم يوم الحشر، ومواجهتهم بما كانوا يعبدون من دون الله، وتكذيب هؤلاء لهم فيما كانوا يدعون على الله من شرك.. وينتهي هذا الشوط بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الرسل جميعا كانوا بشرا مثله، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
ويبدأ الشوط الثاني بتطاول المكذبين بلقاء الله على الله، وقولهم: {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا}. ويعاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة.. {وكان يوما على الكافرين عسيرا}.. {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا}.. ليكون في ذلك تأسية للرسول صلى الله عليه وسلم وهم يهجرون القرآن، وهو يشكو لربه هذا الهجران. وهم يعترضون على طريقة تنزيله ويقولون {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة}. ويعقب على هذا الاعتراض بمشهدهم يوم القيامة يحشرون على وجوههم، وهم المكذبون بيوم القيامة، وبتصوير عاقبة المكذبين قبلهم من قوم موسى وقوم نوح، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك، ويعجب من أمرهم وهم يمرون على قرية لوط المدمرة ولا يعتبرون. فيهون بذلك كله من وقع تطاولهم على الرسول صلى الله عليه وسلم وقولهم: {أهذا الذي بعث الله رسولا ?} ثم يعقب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}.
والشوط الثالث جولة في مشاهد الكون تبدأ بمشهد الظل، وتستطرد إلى تعاقب الليل والنهار، والرياح المبشرة بالماء المحيي، وخلقة البشر من الماء. ومع هذا فهم يعبدون من دون الله ما لاينفعهم ولا يضرهم، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الله الحق.. {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} وهو الذي {جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}.. ولكنهم هم لا يتذكرون ولا يشكرون.
ثم يجيء الشوط الأخير يصور {عباد الرحمن} الذين يسجدون له ويعبدونه، ويسجل مقوماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة. ويفتح باب التوبة لمن يرغب في أن يسلك طريقة عباد الرحمن. ويصور جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما}.
وتختم السورة بتقرير هوان البشرية على الله لولا هذه القلوب الطائعة المستجيبة العارفة بالله في هذا القطيع الشارد الضال من المكذبين والجاحدين.
وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يتفق مع ظل السورة وجوها، ويتفق مع موضوعها وأهدافها، على طريقة التناسق الفني في القرآن. اهـ.

.قال الصابوني:

سورة الفرقان مكية وآياتها سبع وسبعون آية.

.بين يدي السورة:

سورة الفرقان مكية وهي تعنى بشئون العقيدة، وتعالج شبهات المشركين حول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحول القرآن العظيم، ومحور السورة يدور حول آيات صدق القرآن، وصحة الرسالة المحمدية، وحول عقيدة الإيمان بالبعث والجزاء، وفيها بعض القصص للعظة والإعتبار.
ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الذي تفنن المشركون بالطعن فيه، والتكذيب بآياته، فتارة زعموا أنه أساطير الأولين، وأخرى زعموا أنه من إختلاق محمد أعانه عليه بعض أهل الكتاب، وثالثة زعموا أنه سحر مبين، فرد الله تعالى عليهم هذه المزاعم الكاذبة، والأوهام الباطلة، وأقام الأدلة والبراهين على أنه تنزيل رب العالمين، ثم تحدثت عن موضوع الرسالة التي طالما خاض فيها المشركون المعاندون، واقترحوا أن يكون الرسول ملكا لا بشرا، وأن تكون الرسالة- على فرض تسليم الرسول من البشر- خاصة بذوي الجاه والثراء، فتكون لإنسان غني عظيم، لا لفقير يتيم، وقد رد الله تعالى شبهتهم بالبرهان القاطع، والحجة الدامغة، التي تقصم ظهر الباطل.
ثم ذكرت الآيات فريقا من المشركين عرفوا الحق وأقروا به، ثم انتكسوا إلى جحيم الضلال، وذكرت منهم عقبة بن أبي معيط الذي أسلم ثم ارتد عن الدين بسبب صديقه الشقي أُبي بن خلف وقد سماه القرآن الكريم بالظالم {ويوم يعض الظالم على يديه} الآية وسمى صديقه بالشيطان.
وفى ثنايا السورة الكريمة جاء ذكر بعض الأنبياء إجمالا وجاء الحديث عن أقوامهم المكذبين، وما حل بهم من النكال والدمار، نتيجة لطغيانهم وتكذيبهم لرسل الله، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وغيرهم من الكافرين الجاحدين، كما تحدثت السورة عن دلائل قدرة الله ووحدانيته، وعن عجائب صنعه وآثار خلقه في هذا الكون البديع، الذي هو من آثار قدرة الله، وشاهد من شواهد العظمة والجلال.
وختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن، وما أكرمهم الله به من الأخلاق الحميدة، التي استحقوا بها الأجر العظيم في جنات النعيم.

.التسمية:

سميت السورة الكريمة سورة الفرقان لأن الله تعالى ذكر فيها هذا الكتاب المجيد الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وكان النعمة الكبرى على الإنسانية لأنه النور الساطع والضياء المبين، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والنور والظلام، والكفر والإيمان، ولهذا كان جديرا بأن يسمى الفرقان. اهـ.