فصل: مطلب ما يؤجر عليه من العمل وما لا يؤجر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا على جعل الخطاب للمؤمنين كافة، أما إذا كان لحضرة الرسول فقط فيكون الخطاب على جهة التعظيم، لأنه جاء بلفظ الجمع وهو أولى بمن يعظمه ربه، ويكون المعنى: جعلتك يا محمد فقيرا تحتاج إلى طلب الرزق في الأسواق كغيرك من البشر فتنة لقومك المعاندين، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان أو كان معك ملك لانقادت الناس إليك عفوا وأطاعتك قسرا طلبا لما عندك في الدنيا أو خوفا من القوة، لا طاعة خالصة لنا ولا خوفا من عذابنا وطمعا برحمتنا، ويجوز أن يكون ذلك الافتتان علة للجعل، أي ابتلينا الغني بالفقير والشريف بالوضيع لنختبركم على حد قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} الآية 2 من سورة الملك في ج 2، وعلى كل فالمعنى أخبروني عن اختياركم الصبر أم الضجر، وهو خبير بما يقولون ويكنّون بدلالة قوله: {وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} 20، بك وبهم عالما بالصابر والجازع فلا يضيق صدرك يا سيد الرسل بما يقولون ولا تعبا بهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم.
هذا لفظ البخاري، لمسلم: انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعم اللّه عليكم.
وفي تكرير لفظ المال والجسم في رواية البخاري إشارة إلى أنه يطلب من الناس النظر إلى من هو فوقهم في الدين والتقوى وهو كذلك قال تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} في الآخرة لأنهم ينكرون البعث أي يخافون بلغة تهامه وهي أيضا من لغة هذيل وهذا الفعل إذا كان مع الرجاء جحد، أي نفي ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون فلان لا يرجو ربه أي لا يخافه ففية معنى الجحد ومنه قوله تعالى: {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقارًا} الآية 44 من سورة نوح وإذا قالوا فلان يرجو ربه فليس فيه معنى الجحد ويكون معناه يسأله ضد يأس ويجوز هنا أن يكون بمعنى لا يتوقعون ولا يعتقدون وجود الآخرة التي فيها لقاء اللّه والحساب والعقاب على ما كان منهم في الدنيا وهو أولى {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} فتخبرنا بصدق محمد {أَوْ نَرى رَبَّنا} عيانا فيخبرنا بذلك لآمنا بهذا الرسول وصدقناه قال تعالى مستعظما عليهم قولهم {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} هؤلاء الكفرة وعدوها كبيرة بأعينهم وعظموا شأنهم في هذا القول العظيم واللّه أجل وهم أحقر من أن ينزل عليهم ملائكته أو يكلمهم أو يرونه فقد فسقوا بقولهم هذا {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} 21 فتجاوزوا الحد في مقالهم هذا.
ولام لقد واقعة في جواب قسم محذوف، أي وعزتي وجلالي لقد رأى هؤلاء الكفرة أنفسهم كبيرة حتى جرأوا على قولهم هذا، يا سيد الرسل قل لهؤلاء المنحطّين {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} لا يستطيعون التكلم معهم لأنهم لا يرونهم إلا عند الموت الذي فيه صك أسنانهم، وعند البعث في الآخرة وفيه تذهل عقولهم، مما يلاقونه من الهول {لا بُشْرى} في هذين الوقتين {يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} بل لهم الخزي والخوف والذّل والهوان، وفي هذا القيد بشارة للمؤمنين بالفرح والأمان، لأن الملائكة عند الموت وفي البعث تبشرهم بما لهم عند اللّه من الكرامة، فيهون عليهم الأمر فيهما، كما تقول الكفار لا بشرى لكم بل الويل والثبور، فيزيد ذعرهم.
يدل على هذا قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ} لهم الملائكة {حِجْرًا مَحْجُورًا} 22 أي أنتم ممنوعون من بشارة الخير منعا باتا أيها الكفرة.
قال ابن عباس حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه.
ومعنى الحجر المنع، وكانت العرب إذا نزل بهم شدة أو كرب أو رأوا ما يكرهون قالوا: حجرا محجورا، فهم أيضا يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة لأنهم يكرهونهم، لعلمهم أنهم يوقعون بهم العذاب الشديد الدائم قال المتلمس:
حنّت إلى النحلة القصوى فقلت لها ** حجر حرام ألا تلك الدهاريس

أي الدواهي لأنهم يستعملون هذه الكلمة بمعنى الحرمان إذا سألهم سائل ويقولونه بمعنى الاستعاذة وعند رؤية ما يخاف منه، أي حرام عليك التعرض وقرىء بفتح الحاء وهو الأصل في اللغة إلا أنهم لما خصوه بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول عن معناه الأصلي وهو المنع، ولما تغير لفظه عما هو عليه، فنقل من الفتح إلى الكسر.
وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك بضم الحاء، وكل منها جائزة على المعنى المؤدية له.

.مطلب ما يؤجر عليه من العمل وما لا يؤجر:

قال تعالى: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} عظيم عندهم كانوا يرجون ثوابه في الدنيا كصلة رحم، وإقراء ضيف، وإغاثة ملهوف، ورد ظالم ومظالم، ورحمة فقير، ولطف بحقير، واطلاق الأسير دون فدية منّا، وما ضاهاها من الأعمال الحسنة التي جبل عليها العرب قبل الإسلام وازدادت به شرفا ونفوذا على غيرها حسا ومعنى {فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا} 23 ذرا متفرقا بالهواء وهذا كناية عن بطلان ثواب أعمالهم وعدم مكافأتهم عليها مهما كانت طيبة حسنة كثيرة، لأنهم عملوها حال كفرهم مشوبة بالسمعة والرياء والفخر والأنانية ولم تكن حالة الإيمان لتكون خالصة للّه تعالى، واللّه طيب لا يقبل إلا الطيب المخلص من الطيب المخلص، وأصل الهباء ما يرى في الظل فهو شيء وليس بشيء وقد سبقه صدقة الكافر به، لأنها من حيث الحسّ صدقة وعمل صالح محمود، ومن حيث المعنى لا ثواب لها، فكأنها لم تكن، وهكذا كل شيء لم يبتغ به وجه اللّه، قال صلى اللّه عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ.
ولكن اللّه الكريم الذي لا يضيع عمل عامل كما جاء في الآية 195 من آل عمران في ج 2 الذي تعهد بالمكافأة على الذرة كما يأتي في سورة الزلزلة في ج 3 قد كافأهم على أعمالهم المذكورة في الدنيا بإطالة أعمارهم وسعة رزقهم ومعافاتهم حتى يلقونه وليس لهم عنده حسنة يرجون ثوابها، كما أن المؤمنين يمحو اللّه سيئاتهم بمقابل تحملهم الفقر والمرض والذلة في الدنيا حتى يلقوا اللّه، وليس عليهم سيئة يعاقبون عليها، وله الحمد هذا ما مر لك أيها القارئ الكريم من حال أهل النار، أجارنا اللّه منها أمّا {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ} يوم يكون ما يكون من الشر للكافرين في الآخرة فيكون مستقرهم الذي يأوون إليه لتناول ملاذهم، فيقولون إنه {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} وأشرف مقرا هذا المكان، فيقيلون به للاستراحة من الراحة لا عن تعب ونصب لأن الجنة لا شيء فيها من ذلك {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} 24 ذلك المكان العالي الشان في تلك الجنان، والقيلولة النوم وسط النهار أو الاضطجاع للراحة نام أو لم ينم، والكلام مسوق لبيان راحتهم على طريق التشبيه بأحوال الدنيا، وإلا فإن الجنة لا نوم فيها ولا تعب والأفضلية هنا للتقريع والتهكم لمن ذكر في الآية قبل من أهل النار كما في قوله تعالى: {أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} الآية 15 المارة إذ لا يتصور أن يقال نزل أهل الجنة خير من نزل أهل النار، كما لا يقال العسل أحلى أم الخل مثلا، وقد يكون لمطلق الزيادة قال تعالى وَاذكر يا محمد لقومك وغيرهم {يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ} حقيقة كما هو المستفاد من ظاهر الآية، ولأنها تبدل بغيرها قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات الآية 18 من سورة إبراهيم في ج 2 وقال بعض المفسرين يطلع منها سحاب فيظهر عليها فيتبين للرائي كأنها تنشق به، والأول أولى واللّه أعلم وأنسب بالنسبة لقوله: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا} 25 من السماء إلى أرض الوقف ومن الملائكة حملة العرش، قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} الآية 12 من سورة الحاقة في ج 2، مما يدل على انشقاق السماء حقيقة، قال ابن عباس تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تشقق الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا وكذلك حتى تشقق السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على التي قبلها، ثم تتنزّل الكروبيون، ثم حملة العرش، ومن بين الملائكة ملائكة يحملون صحائف أعمال العباد.
وفي رواية عن ابن عباس ثم ينزل ربنا جل جلاله في ظلل من الغمام قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} الآية 210 من سورة البقرة في ج 3 ومما يدل على هذا قوله جل قوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} أي السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا، بحيث لا يزول أبدا ولا يغيب سرمدا هو ثابت {لِلرَّحْمنِ} وحده وهناك يزول ملك كل ملك ولا يبقى إلا ملك المالك الأعظم، فينادي المنادي {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلا يجيب أحد فيقول العظيم الجبار الجليل الغفار الستار {لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} الآية 16 من سورة المؤمن في ج 2 فيجيب نفسه بنفسه، وفي اتصافه تعالى بعنوان الرحمانية بشارة لمن مات مؤمنا به ونذارة بعدم التّهوين على الكافر في قوله: {وَكانَ يَوْمًا عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيرًا} 26 شديدا عسره بالغا شره، وفيها إيذان بأنه يسير على المؤمنين، إذ خصّ عسره بالكافرين الذين لا تشملهم رحمته المتناهية في ذلك اليوم العظيم المنوه به بقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} حسرة وندامة على ما فاته من عمل الخير في الدنيا لا أعظم منه لأنه يوم الحسرة، والموقف كله يوم واحد ولكنه بالنسبة لطوله ولاختلاف ما يقع فيه من الأهوال التي تشيب الوليد يعد أياما لكل عذاب يوم، ولكل مجادلة يوم، ولكل محاسبة يوم، وذلك تقديري على نسبة أيام الدنيا، وهذه الآية عامة في كل ظالم لنفسه في الدنيا بحرمانه من الإيمان باللّه.
وقد صرفه بعض المفسرين للظالم المعروف بالظلم الموبق به عقبة بن معيط خليل أمية بن خلف الذي كان أسلم أولا فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا.
فارتدّ عن الإيمان، وتابعه على الكفر.
وقد جاء بالآية معرفا لتخصيصه به ونزول هذه الآية فيه.
ولكن تخصيصها لا يمنع عمومها لكل ظالم كما علمت من أن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب {يَقُولُ} في ذلك اليوم العسير {يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} في الدنيا {مَعَ الرَّسُولِ} محمد صلى اللّه عليه وسلم {سَبِيلًا} 27 إلى النجاة من هول هذا اليوم، ليتني اتبعته ومت مؤمنا على دينه، فأتخلص من هذا العذاب المحيط بي، ثم طفق يدعو على نفسه بقوله: {يا وَيْلَتى} يا هلاكاه على ما سلف من ارتدادي إلى الكفر ومتابعة أمية بن خلف {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا} يريد أمية المذكور على خصوص الآية في عقبة المرتد، وعلى إطلاقها تشمل كل ظالم ومضل كائنا من كان، لأن خصوص السبب لا يقيد الآيات {خَلِيلًا} 28 مأخوذ من الخلة بضم الخاء بمعنى المودة لأنها تتخلل في النفس وتؤثر فيها تأثير السهم في الرميّة وتأثير الدم في العروق وعليه قوله:
تخللت مسلك الروح مني ** وبه سمي الخليل خليلا

ثم قال هذا الضال وعزتك يا رب {لَقَدْ أَضَلَّنِي} ذلك المضل {عَنِ الذِّكْرِ} قبول القرآن الذي هو ذكر اللّه وعن الإيمان به وبمن أنزل عليه {بَعْدَ إِذْ جاءَنِي} من قبل رسولك واتبعته {وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا} 29 يوقع من يطيعه في المهالك ثم يتبرأ منه، وهذا معنى الخذول لأنه يقول يوم القيامة لا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية 22 من سورة إبراهيم كما قال في الدنيا لمن خذلهم {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ} الآية 48 من الأنفال في ج 3 وقد سمي خليله شيطانا تشبيها بفعله بجامع الإغواء في كل أو انه نسب الجنوح إلى قول خليله إلى الشيطان إذ ينسب إليه كل فعل قبيح وهو المضل لخليله فكأنما أضله فعلا، وحكم هذه الآية عام في كل خليل أو حبيب اجتمعا في الدنيا على معصية اللّه فإنها تنقلب إلى عداوة وندامة وحسرة قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} الآية 67 من الزخرف في ج 2 فلينظر أحدكم أيها الناس من يخالل، فإنه يحشر معه، لأنه غالبا يكون على دينه، لأن هذا الذي نزلت فيه هذه الآية بعد أن دخل في الإسلام وتمكن به اغواه صاحبه حتى ردّه عنه فهلكا جميعا قال:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي

فإذا كنت أيها العاقل لا تحب العزلة أو لا تقدر عليها فعليك بصحبة الصادقين، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} الآية 120 من سورة التوبة في ج 3، ولبحث الصحبة صلة في تفسير الآية المذكورة آنفا من سورة الزخرف، فراجعها.