فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}.
افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل، مثل قول طرفة:
لخولة أطلال ببُرقة ثِهمد

أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرئ القيس:
قِفَا نَبْكِ

البيت.
أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل إن وقد والهمزة وهل.
ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلَّزة:
آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماءُ

وقول النَّابغَة:
كتمتُكَ ليلا بالجمومين ساهرًا ** وهَمَّيْن هَمًّا مستكنًّا وظاهرا

وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة، والعزّةُ من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال.
وتبارك: تعاظم خيره وتوفر، والمراد بخيره كمالاته وتنزهاته.
وتقدم في قوله تعالى: {تبارك الله رب العالمين} في سورة الأعراف (54).
والبركة: الخير، وتقدم عند قوله تعالى: {اهبط بسلام مِنَّا وبركاتٍ عليك} في سورة هود (48) وعند قوله: {تحية من عند الله مباركة طيبة} في سورة النور (61).
وظاهر قوله: {تبارك الذي نزل الفرقان} أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1] على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة، أو إظهار غرايب صدرت، كقول امرئ القيس:
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي ** فيا عجبًا من كوْرها المتحمَّلِ

وإنما يتعجب من إقدامه على أن جَعَل كور المطية يحمله هو بعد عَقرها.
ومنه قول الفِند الزِّمَّاني:
أيا طعنةَ ما شيخٍ ** كبيرٍ يفن بَالِي

يريد طعنة طعنها قِرْنَه.
والذي نزل الفرقان هو الله تعالى.
وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل: تباركتُ.
والموصول يومىء إلى علة ما قَبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله: {ليكون للعالمين نذيرًا}.
فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله.
وهو أيضًا كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة السلام.
والتعريف بالموصول هنا لكون الصلة من صفات الله في نفس الأمر وعند المؤمنين وإن كان الكفار ينكرونها لكنهم يعرفون أن الرسول أعلنَها فالله معروف بذلك عندهم معرفة بالوجه لا بالكُنه الذي ينكرونه.
والفرقان: القرآن وهو في الأصل مصدر فرق، كما في قوله: {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان} [الأنفال: 41] وقوله: {يَجعَلْ لكم فُرقانًا} [الأنفال: 29].
وجعل علمًا بالغلبة على القرآن لأنه فرّق بين الحق والباطل لما بيَّن من دلائل الحق ودحض الباطل.
وقد تقدم في قوله تعالى: {وأنزل الفرقان} في سورة آل عمران (4).
وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانيَّة وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرّق بين الحق والباطل.
ووصفُ النبي ب {عبده} تقريب له وتمهيد لإبطال طلبهم منه في قوله: {وقالوا مالِ هذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] الآية.
والمراد ب {للعالمين} جميع الأمم من البشر لأن العالم يطلق على الجنس وعلى النوع وعلى الصنف بحسب ما يسمح به المقام، والنذارة لا تكون إلا للعقلاء ممن قُصدوا بالتكليف.
وقد مضى الكلام على لفظ {العالمين} في سورة الفاتحة (2).
والنذير: المخبِر بسوء يقع، وهو فَعيل بمعنى مُفْعِل بصيغة اسم الفاعل مثل الحَكيم.
والاقتصار في وصف الرسول هنا على النذير دون البشير كما في قوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا} [سبأ: 28] لأن المقام هنا لتهديد المشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام.
فكان مقتضيًا لذكر النذارة دون البشارة، وفي ذلك اكتفاء لأن البشارة تخطر ببال السامع عند ذكر النذارة.
وسيجيء: {وما أرسلناك إلاّ مبشرًا ونذيرًا} في هذه السورة (56).
وفي هذه الآية جمع بين التنويه بشأن القرآن وأنه منزل من الله وتنويه بشأن النبي عليه الصلاة والسلام ورفعة منزلته عند الله وعموم رسالته.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}.
أجريت على اسم الله تعالى هذه الصفات الأربعُ بطريق تعريف الموصوليَّة لأن بعض الصلات معروف عند المخاطبين اتصافُ الله به وهما الصفتان الأولى والرابعة؛ وإذ قد كانتا معلومتين كانت الصلتان الأخريان المذكورتان معهما في حكم المعروف لأنهما أجريتا على مَن عُرِف بالصلتين الأولى والرابعة فإن المشركين ما كانوا يمترون في أن الله هو مالك السماوات والأرض ولا في أن الله هُوَ خالق كل شيء كما في قوله: {قل مَن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله} الآياتتِ من سورة المؤمنين (86، 87)، ولكنهم يثبتون لله ولَدًا وشريكًا في الملك.
ومن بديع النظم أن جعل الوصفان المختلف فيهما مَعهم متوسطين بين الوصفين اللذين لا مرية فيهما حتى يكون الوصفان المسلَّمَين كالدليل أوّلًا والنتيجة آخرًا، فإن الذي له ملك السماوات والأرض لا يليق به أن يتخذ ولَدًا ولا أن يتخذ شريكًا لأن ملكه العظيم يقتضي غِنَاهُ المطلقَ فيقتضي أن يكون اتخاذه ولدًا وشريكًا عبثًا إذ لا غاية له، وإذا كانت أفعال العقلاء تصان عن العبث فكيف بأفعال أحكم الحكماء تعالى وتقدس.
فقوله: {الذي له ملك السموات والأرض} بدل مِن {الذي نزّل الفرقان} [الفرقان: 1].
وإعادة اسم الموصول لاختلاف الغرض من الصلتين لأن الصلة الأولى في غرض الامتنان بتنزيل القرآن للهدى، والصلة الثانية في غرض اتصاف الله تعالى بالوحدانيَّة.
وفي الملك إيماء إلى أن الاشتراك في الملك ينافي حقيقة الملك التامة التي لا يليق به غيرها.
والخلق: الإيجاد، أي أوجد كل موْجود من عظيم الأشياء وحقيرها.
وفُرع على {خلق كل شيء فقدره تقديرًا} لأنه دليل على إتقان الخلق إتقانًا يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال.
ومعنى {قدّره} جعله على مقدار وحدَ معيّن لا مجرد مصادفة، أي خلقه مقدرًا، أي محكمًا مضبوطًا صالحًا لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل.
وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعيّنها كقوله: {إنا كلَّ شيء خلقناه بقَدَر} [القمر: 49].
وقد تقدم في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أوديةً بقَدَرِها} في سورة الرعد (17).
وتأكيد الفعل بالمفعول المطلق بقوله: {تقديرًا} للدلالة على أنه تقدير كامل في نوع التقادير.
وما جاء من أول السورة إلى هنا براعة استهلال بأغراضها وهو يتنزل منزلة خطبة الكتاب أو الرسالة.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)}.
استطراد لانتهاز الفرصة لوصف ضلال أهل الشرك وسفالة تفكيرهم، فهو عطف على جملة: {الذي له ملك السماوات والأرض} [الفرقان: 2] وما تلاها مما هو استدلال على انفراده تعالى بالإلهية، وأردفت بقوله: {وخلق كل شيء} [الفرقان: 2] الشامل لكون ما اتخذوه من الآلهة مخلوقات فكان ما تقدم مهيئًا للتعجيب من اتخاذ المشركين آلهة دون ذلك الإله المنعوت بصفات الكمال والجلال.
فالخبر غير مقصود به الإفادة بل هو للتعجيب من حالهم كيف قابلوا نعمة إنزال الفرقان بالجحد والطغيان وكيف أشركوا بالذي تلك صفاته آلهةً أخرى صفاتهم على الضد من صفات من أشركوهم به، وإلا فإن اتخاذ المشركين آلهة أمر معلوم لهم وللمؤمنين فلا يقصد إفادتهم لحكم الخبر.
وبين قوله: {ولم يتخذ ولدًا} [الفرقان: 2] وقوله: {واتخذوا من دونه آلهة} محسن الطباق.
وضمير: {اتخذوا} عائد إلى المشركين ولم يسبق لهم ذكر في الكلام وإنما هم معروفون في مثل هذا المقام وخاصة من قوله: {ولم يكن له شريك في الملك} [الفرقان: 2].
وجملة: {لا يخلقون شيئًا} مقابلة جملة {الذي له ملك السماوات والأرض} [الفرقان: 2].
وجملة: {وهم يخلقون} مقابلة جملة: {ولم يتخذ ولدًا} [الفرقان: 2] لأن ولد الخالق يجب أن يكون متولدًا منه فلا يكون مخلوقًا.
وجملة: {ولا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا} مقابلة جملة: {ولم يكن له شريك في الملك} [الفرقان: 2] لأن الشركة في الملك تقتضي الشركة في التصرف.
وضمير: {لأنفسهم} يجوز أن يعود إلى {آلهة} أي لا تقدر الأصنام ونحوها على ضر أنفسهم ولا على نفعهم.
ويجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {واتخذوا} أي لا تقدر الأصنام على نفع الذين عبدوهم ولا على ضرهم.
واعلم أن {ضرًا ولا نفعًا} هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال، فكأنه قيل: لا يملكون التصرف بحال من الأحوال.
وهذا نظير أن يقال: شرقًا وغربًا، وليلًا ونهارًا.
وبذلك يندفع ما يشكل في بادىء الرأي من وجه نفي قدرتهم على إضرار أنفسهم بأنه لا تتعلق إرادة أحد بضر نفسه، وبذلك أيضًا لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع، لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين، فالمتكلم مخير في ذلك والمخالفة بين الآيات في تقديم أحد الأمرين مجرد تفنّن.
والمجرور في {لأنفسهم} متعلق ب {يملكون}.
والضَّر بفتح الضاد مصدر ضرَّه، إذا أصابه بمكروه.
وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {قل لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله} في سورة يونس (49).
وجملة: {ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا} مقابلة جملة {وخلق كل شيء فقدره تقديرًا} [الفرقان: 2] لأن أعظم مظاهر تقدير الخلق هو مظهر الحياة والموت، وذلك من المشاهدات.
وأما قوله: {ولا نشورًا} فهو تكميل لقرع المشركين نفاة البعث لأن نفي أن يكون الآلهة يملكون نشورًا يقتضي إثبات حقيقة النشور في نفس الأمر إذ الأكثر في كلام العرب أن نفي الشيء يقتضي تحقق ماهيته.
وأما نحو قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدي بمناره

يريد لا منار فيه.
وقول ابن أحمر:
لا تُفزع الأرنبَ أهوالُها ** ولا ترى الضبّ بها ينجحر

أراد: أنها لا أرنب فيها ولا ضب.
فهو من قبيل التلميح.
ذُكر في هذه الآية من أقوالهم المقابلة للجمل الموصوف بها الله تعالى اهتمامًا بإبطال كفرهم المتعلق بصفات الله لأن ذلك أصل الكفر ومادته.
واعلم أن معنى: {وهم يخلقون} وهم يُصنعون، أي يصنعهم الصانعون لأن أصنامهم كلها حجارة منحوتة فقد قومتها الصنعة، فأطلق الخلق على التشكيل والنحت من فعل الناس، وإن كان الخلق شاع في الإيجاد بعد العدم؛ إما اعتبارًا بأصل مادة الخلق وهو تقدير مقدار الجلد قبل فريه كما قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ** ـضُ الناس يخلق ثم لا يفري

فأطلق الخلق على النحت؛ إما على سبيل المجاز المرسل، وإما مشاكلة لقوله: {لا يخلقون شيئًا}.
والمِلك في قوله: {لا يملكون} مستعمل في معنى القدرة والاستطاعة كما تقدم في قوله تعالى: {قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم} في سورة العقود (17)، وقوله فيها: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا} [المائدة: 76]، أي من لا يقدر على ضركم ولا نفعكم.
فقوله هنا: {لأنفسهم} متعلق ب {يملكون}، واللام فيه لام التعليل، أي لا يملكون لأجل أنفسهم، أي لفائدتها.
ثم إن المراد ب {أنفسهم} يجوز أن يكون الجمع فيه باعتبار التوزيع على الآحاد المفادة بضمير {يملكون}، أي لا يملك كل واحد لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ويكون المراد بالضر دفعه على تقدير مضاف دل عليه المقام لأن الشخص لا يتعلق غرضه بضر نفسه حتى يقرَع بأنه عاجز عن ضر نفسه.
وتنكير {موتًا وحياة} في سياق النفي للعموم، أي موت أحد من الناس ولا حياته.
والنشور: الإحياء بعد الموت.
وأصله نشر الشيء المطوي. اهـ.