فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعقب بأن عامل الحال إذا كان معنويًا لا يجوز حذفه كما في المغني وفيه أنه غير مسلم كما في شرحه، وجوز أن يكون {أساطير} مبتدأ وجملة {اكتتبها} الخبر ومرادهم كتبها لنفسه والإسناد مجازي كما في بني الأمير المدين، والمراد أمر بكتابتها أو يقال حقيقة اكتبت أمر بالكتابة فقد شاعر افتعل بهذا المعنى كاحتجم وافتصد إذا أمر بالحجامة والفصد، وقيل قالوا ذلك لظنهم أنه يكتب حقيقة أو لمحض الافتراء عليه عليه الصلاة والسلام بناء على علمهم أنه لم يكن يكتب صلى الله عليه وسلم، وقيل: مرادهم جمعها من كتب الشيء جمعه والجمهور على الأول.
وقرأ طلحة {اكتتبها} مبنيًا للمفعول والأصل اكتتبها له كاتب فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كتب ثم حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض العلمي بخصوصه فبنى الفعل للمفعول وأسند للضمير فانقلب مرفوعًا مستترًا بعد أن كان منصوبًا بارزًا، وهذا مبني على جواز إقامة المفعول الغير الصريح مقام الفاعل مع وجود الصريح وهو هنا ضمير الأساطير وهو الذي ارتضاه الرضى وغيره، وجمهور البصريين على عدم الجواز وتعين المفعول الصريح للإقامة فيقال عندهم: اكتتبته، وعليه قول الفرزدق:
ومنا الذي اختير الرجال سماحة ** وجودًا إذا هب الرياح الزعازع

بنصب الرجال وعلى الأول كان حق التركيب اختيره الرجال بالرفع فإن الأصل اختاره من الرجال مختار وظاهر أنه إذا عمل فيه ما تقدم يصير إلى ما ذكر {فَهِىَ وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ} أي تلقى تلك الأساطير عليه بعد اكتتابها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميًا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة فالإملاء الإلقاء للحفظ بعد الكتابة استعارة لا الإلقاء للكتابة كما هو المعروف حتى يقال: إن الظاهر العكس بأن يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها أو المعنى أراد اكتتابها أو طلب كتابتها فامليت عليه أي عليه نفسه أو على كاتبه فالإملاء حينئذ باق على ظاهره.
وقرأ طلحة وعيسى تتلى بالتاء بدل الميم {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي دائمًا أو قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم وعنوا بذلك أنها تملي عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذة جراءة عظيمة منهم قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، وعن الحسن أن {اكتتبها} الخ من قول الله عز وجل يكذبهم به، وإنما يستقيم أن لو افتتحت الهمزة في {اكتتبها} للاستفهام الذي هو معنى الإنكار، ووجه أن يكون نحو قول حضرمي بن عامر وقد خرج يتحدث في مجلس قوم وهو في حلتين له فقال جزء بن سنان بن مؤلة: والله إن حضرميًا لجذل بموت أخيه إن ورثه:
أفرح أن أرزأ الكرم وأن ** أورث زودًا شصايصا نبلا

من أبيات، وحق للحسان على ما في الكشاف أن يقف على الأولين.
{قُلْ} لهم ردًا عليهم وتحقيقًا للحق {أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر في السموات والأرض} وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية والجلية المعلومة من باب أولى للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازاتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك كما تزعمون بل هو أمر سماوي أنزله الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف إلا بتوفيق الله تعالى العليم الخبير عليها، وإذا أرادوا ب {بكرة وأصيلًا} [الفرقان: 5] خفية عن الناس ازداد موقع السر حسنًا، وأما التذييل بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} فهو للتنبيه على أنهم استوجبوا العذاب على ما هم عليه من الجنايات المحكية لكن أخر عنهم لما أنه سبحانه أزلًا وأبدًا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعتين للتأخير فكأنه قيل إنه جل وعلا متصف بالمغفرة والرحمة على الاستمرار فلذلك لا يعجل عقوبتكم على ما أنتم عليه مع كمال استيجابه إياها وغاية قدرته سبحانه عليها ولولا ذلك لصب عليكم العذاب صبًا، وذكر الطيبي أن فيه على هذا الوجه معنى التعجب كما في قوله تعالى: {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21].
وجوز أن يكون الكلام كناية عن الاقتدار العظيم على عقوبتهم لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، وفي إيثارها تعيير لهم ونعي على فعلهم يعني أنكم فيما أنتم عليه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته المغفرة والرحمة وليس بذاك، وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال: ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك لأجل أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها وأن لا ييأسوا من رحمته تعالى ما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة وهو كما ترى. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا} أي: بجعل الصدق إفكًا، والبريء عن الإعانة معينًا: {وَزُورًا} أي: باطلًا لا مصداق له، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} أي: ما سطروه، كتبها لنفسه وأخذها: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أي: تلقى عليه ليحفظها: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي: دائمًا.
قال ابن كثير: وهذا الكلام، لسخافته وكذبه وبهته منهم، يعلم كل أحد بطلانه. فإنه قد علم بالضرورة: أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يعاني شيئًا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره. وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده، إلى أن بعثه الله نحوًا من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته. وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره، وإلى أن بعث بالأمين لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به، نصبوا له العداوة، ورموه بهذه الأقوال، التي يعلم كل عاقل براءته منها. وحاروا بما يقذفونه به، فتارة من إفكهم يقولون: ساحر. وتارة يقولون: شاعر. وتارة يقولون: مجنون. وتارة يقولون كذاب، قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48] و(9)، وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا.
{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: الخفيّ فيهما. إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى. ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره. وفي طيّه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبيّ عليه الصلاة والسلام، مع ما يتقولونه ويفترونه، لا يعزب عن علمه. فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم، وسموق حقه وظهور أمره: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم، مع استيجابهم إياها. أي: فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته. أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم. لأنه لا يوصف بالمغفرة إلا القادر. هذا ما يستفاد من الكشاف ومن تابعه، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله.
وقال ابن كثير: قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا، يدعوهم سبحانه إلى التوبة، والإقلاع عما هم فيه، إلى الإسلام والهدى. كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 73- 74] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]، قال الحسن البصريّ: انظروا إلى هذا الكرم والجود. قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ}.
انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة.
والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه، وليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك، بخلاف ما حكي آنفًا من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم.
وهذه الجملة مقابلة جملة: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة.
وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة: {واتخذوا من دونه آلهة} [الفرقان: 3] اهتمامًا بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفًا.
والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من إنْ النافية وإلاّ قصر قلب؛ زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله.
وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد.
فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه.
وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال: بنو أسد قتلوا حجرًا.
واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن.
والضمير المرفوع في {افتراه} عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قوله: {على عبده} [الفرقان: 1].
والإفك: الكذب.
وتقدم عند قوله تعالى: {إن الذين جاءو بالإفك} في سورة النور (11).
والإفتراء: اختلاق الأخبار، أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد، وتقدم في قوله: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة العقود (103).
{وأعانه عليه} أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله، وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود.
روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس: أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم: عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار أبو فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي، وفي سيرة ابن هشام أنه مولى صفوان بن أمية بن محرِّث، وجبر مولى عامر.
وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئًا من التوراة والإنجيل ثم أسلموا، وقد مر ذلك في سورة النحل، فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سرًا ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل.
والقصر المستفاد من قوله: {إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} متسلط على كلتا الجملتين، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين، هما: أن يكون افترى بعضه من نفسه، وأعانه قوم على بعضه.
وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلمًا وزورًا لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء.
و{جاءو} مستعمل في معنى عملوا وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية.
والظلم: الاعتداء بغير حق بقول أو فعل قال تعالى: {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} [ص: 24] وتقدم في قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} في سورة البقرة (114).
والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق.
والزور: الكذب، وأحسن ما قيل في الزور: إنه الكذب المحسَّن المموَّه بحيث يشتبه بالصدق.
وكون قولهم ذلك كذبًا ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك، والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز، وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء.