فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قُلْ} تقريعًا لهم وتهكمًا بهم وتحسيرًا على ما فاتهم {أذلك} إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة فإنها التي كثيرا ما تقابل بالجنة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، وقيل: إشارة إلى ما ذكر من الجنة والكنز في قولهم: {أو يلقى إليه كنز} [الفرقان: 8] الخ.
وقيل: إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة وكلا القولين لا يعول عليهما لاسيما الأخير أي أذلك الذي ذكر من السعير التي اعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها ذيت ذيت {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} أي وعدها المتقون لأن وعد تتعدى لمفعولين وهذا المحذوف هو العائد على الموصول؛ وإِضافة الجنة إلى الخلد إن كانت نسبة الإضافة معلومة للمدح فإن المدح يكون بما هو معلوم، وإن لم تكن معلومة فلافادة خلود الجنة، ولا يخدشه قوله تعالى: {خالدين} [الفرقان: 16] بعد لأنه للدلالة على خلود أهلها لا خلودها في نفسها وإن تلازمًا أو أن ذلك للتمييز عن جنات الدنيا، وقيل: إن جنة الخلد علم كجنة عدن، والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية أو الثالثة منها فقط، ويدل عليه مقابلتهم بالكافرين في النظم الكريم، وقيل: يجوز أن يراد الكاملون في التقوى ووعدها إياهم وعدد خولها ابتداء دون سبق عذاب وهو مختص بهم وليس بذاك، والترديد والتفضيل في {خَيْرٌ} مع أنه لا شك في أنه لا خيرية في السعير للتهكم والتقريع كما أشرنا إليه.
وقال ابن عطية: حيث كان الكلام استفهامًا جاز فيه مجيء لفظة التفضيل بين الجنة والسعير في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خيرًا لأن فيه مخالفة الواقع، وأما إذا كان استفهامًا فذلك سائغ، وقال أبو حيان: إن {خَيْرٌ} هنا ليس للدلالة على الأفضلية بل هو على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقول حسان:
فشركما لخيركما الفدا

وقولهم الشقاء أحب أليك أم السعادة والعسل أحلى من الخل، وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {السجن أَحَبُّ إِلَىَّ} [يوسف: 33] ولا اختصاص لذلك في استفهام أو خبر.
وما ذكر من أمثلة الخبر يرد على ابن عطية إلا أن يقيد الخير الذي ادعى منه سيبويه فيه بما لم يكن الحكم فيه واضحًا أما إذا كان الحكم فيه واضحًا للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد في الأفضل فإن التفضيل يجوز فيه، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام وما أشرنا إليه هنا أولى بالاعتبار مما أشار ابن عطية وأبو حيان إليه.
{كَانَتْ} تلك الجنة {لَهُمْ} أي في علم الله تعالى أو في اللوح أو المراد تكون على أنه وعد من أكرم الأكرمين عبر عنه بالماضي على طريق الاستعارة لتحقيق وقوعه فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد، وجوز أن يكون هذا باعتبار تقدم وعده تعالى في كتبه وعلى لسان رسله عليهم الصلاة والسلام أياهم بها {جَزَاء} على أعمالهم بمقتضى الوعد لا بالإيجاب {وَمَصِيرًا} ينقلبون إليه، ولم يكتف بقوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء} لعدم استلزامه ذلك فقد يثبت الملك في الدنيا إنسانًا ببستان مثلًا ولا يرأه فضلًا عن أن يسكن فيه، وجملة {كَانَتْ لَهُمْ} الخ على ما ذكره الطبرسي في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على الموصول في {وُعِدَ المتقون} بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن تكون بدلًا من {وُعِدَ المتقون} وتفسيرًا له، وأن تكون استئنافًا في موضع التعليل.
وذكر الزمخشري ما يشعر بأن هذه الجملة تذييل لتذكير النعمة بما خولهم الله تعالى وطيب عيشهم في ذلك المكان الرافع على وجه يتضمن ضد ذلك لأضدادهم فكأنه قيل كلنت لهم جزاء موفورًا لا يدخل تحت الوصف ومصيرًا أي مصيرًا لا يقادر قدره وليس كمصير الكفرة المشار إليه بقوله سبحانه: {وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَانًا ضَيّقًا} [الفرقان: 13] ويعلم منه فائدة ذكر المصير مع ذكر الجزاء فتأمل، وقوله سبحانه: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ} قيل استئناف وقع جوابًا لسؤال نشأ مما قبله حيث أفاد أن الجنة مسكن لهم والساكن في دار يحتاج إلى أشياء كثيرة لتطيب نفسه بسكناها فكأن سائلا يقول: ما لهم إذا صاروا إليها وسكنوا فيها؟ فقيل لهم فيها ما يشاؤون، وقال الطبرسي: الجملة في موضع الحال من قوله تعالى: {المتقون} [الفرقان: 15] وما موصولة مبتدأ والعائد محذوف و{لَهُمْ} خبره و{فِيهَا} متعلق بما تعلق به أي كائن لهم فيها الذي يشاؤونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم الورحاني والجسماني، ولعل كل فريق يقتنع بما أبيح له من درجات النعيم ويرى ما هو فيه ألذ الأشياء ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ولا يخطر بباله ما يخطر طلبة ولا يتأتى له فلا يشاء آخاد المؤمنين رتبة الأنبياء عليهم السلام ولا يتعرضون للشفاعة لمن كتب عليه الخلود في النار مثلا فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان، وعلى ضد هؤلاء فيما ذكر أهل النار فقد قال سبحانه فيهم {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].
{خالدين} حال من أحد ضمائرهم على ما قيل وظاهره عدم الترجيح، وقال بعض الأفاضل: جعله حالًا من الأول يقتضي كونها حالًا مقدرة ومن الثالث يوهم تقييد المشيئة بها فخير الأمور أوسطها، ورجح بعضهم الثالث لقربه والتقييد غير مخل بل مهم، وجوز كونها حالًا من المتقين ولا يخفى حاله، ولبعض الأجلة هاهنا كلام فيه بحث ذكره الحمصي في حواشي التصريح فليراجع {كَانَ} أي الوعد بما ذكر أو الموعود المفهوم من الكلام فيشمل الوعد بالجنة وبحصول ما يشاؤون لهم فيها وبالخلود على الأول والجنة وحصول المرادات والخلود الموعود بها على الثاني، وقال بعضهم: الضمير للخلود، وآخر لحصول ما يشاؤون لهم فيها أوله ولكون الجنة جزاءً ومصيرًا، والإفراد باعتبار ما ذكر ويغني عنه ما سمعت، والأكثرون على أنه لما يشاؤون وهو اسم كان وقوله تعالى: {على رَبِّكَ} متعلق بها أو بمحذوف وقع حالًا من قوله سبحانه: {وَعْدًا} وهو خبرها، ولم يجوز تعلق الجار به سواء كان باقيًا على مصدريته أو مؤولًا باسم المفعول أي موعودًا لما علمت من الخلاف في مرجع الضمير بناءً على منع تقديم معمول المصدر عليه وإن كان مؤولًا بغيره أو كان المقدم ظرفًا وفيه خلاف، وجوز أن يكون {على رَبِّكَ} متعلقًا بمحذوف هو الخبر و{وَعْدًا} مصدرًا مؤكدًا، والأظهر أن يجعل هو الخبر أي كان ذلك وعدًا أو موعودًا {مَّسْئُولًا} أي حقيقًا أن يسئل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو سببًا لحصول ذلك فمسؤوليته كناية عن كونه أمرًا عظيمًا، ويجوز أن يراد كون الموعود مسؤولًا حقيقة بمعنى يسأله الناس في دعائهم بقولهم: {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194]، وقال سعيد بن أبي هلال: سمعت أبا حازم رضي الله تعالى عنه يقول: إذا كان يوم القيامة يقول المؤمنون: ربنا عملنا لك بما أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله تعالى: {وَعْدًا مَسْؤُولًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد هذا عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية: إن الملائكة عليهم السلام لتسأل ذلك في قولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8] والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام هو الفائز بمغانم الوعد الكريم.
واستشكلت الآية على مذهب الأشاعرة لأنها تدل على الوجوب على الله تعالى لمكان {على} وعندهم لا يجب عليه سبحانه شيء لاستلزام ذلك سلب الاختيار وعدم استحقاق الحمد، وأجيب بأن الوجوب الذي تدل عليه الآية وجوب بمقتضى الوعد والممتنع إيجاب الإلجاء والقسر من خارج لأنه السالب للاختيار الموجب للمفسدة دون إيجابه تعالى على نفسه شيئًا بمقتضى وعده وكرمه فإنه مسبوق بالإرادة والوجوب الناشىء من الإرادة لا ينافي الاختيار، وهذا ظاهر إذا كان الوعد حادثًا وأما إذا كان قديمًا فالسابقية والمسبوقية بحسب الذات وذلك لا يستلزم الحدوث، أو يقال: الحادث بالإرادة تعلقه بالموعود به فافهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}.
الأمر بالقول يقتضي مخاطبًا مقولًا له ذلك: فيجوز أن يقصد: قل لهم، أي للمشركين الذين يسمعون الوعيد والتهديد السابق: أذلك خير أم الجنة؟ فالجمل متصلة السياق، والاستفهام حينئذٍ للتهكم إذ لا شبهة في كون الجنة الموصوفة خيرًا.
ويجوز أن يقصد: قل للمؤمنين، فالجملة معترضة بين آيات الوعيد لمناسبة إبداء البون بين حال المشركين وحال المؤمنين، والاستفهام حينئذٍ مستعمل في التلميح والتلطف.
وهذا كقوله: {أذلك خيرٌ نُزُلًا أم شجرةُ الزقوم} في سورة الصافات (62).
والإشارة إلى المكان الضيق في جهنم.
و{خير} اسم تفضيل، وأصله أخير بوزن اسم التفضيل فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال.
والتفضيل على المحمل الأول في موقع الآية مستعمل للتهكم بالمشركين.
وعلى المحمل الثاني مستعمل للتلميح في خطاب المؤمنين وإظهار المنة عليهم.
ووصف الموعودين بأنهم متقون على المحمل الأول جار على مقتضى الظاهر، وعلى المحمل الثاني جار على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب، فوجه العدول إلى الإظهار ما يفيده {المتقون} من العموم للمخاطبين ومن يجيء بعدهم.
وجملة: {كانت لهم جزاء ومصيرًا} تذييل لجملة: {جنة الخلد التي وعد المتقون} لما فيها من التنويه بشأن الجنة بتنكير {جزاء ومصيرًا} مع الإيماء إلى أنهم وعدوا بها وعد مجازاة على نحو قوله تعالى: {نعم الثواب وحسنت مرتفقًا} [الكهف: 31] وقوله: {بئس الشراب وساءت مرتفقًا} في سورة الكهف (31/ 29).
وجملة: {لهم فيها ما يشاؤون} حال من {جنة الخلد} أو صفة ثانية.
وجملة: {كان على ربك وعدًا مسئولًا} حال ثانية والرابط محذوف إذ التقدير: وعدًا لهم.
والضمير المستتر في: {كان على ربك وعدًا} عائد إما إلى الوعد المفهوم من قوله: {التي وعد المتقون}، أي كان الوعد وعدًا مسؤولًا وأخبر عن الوعد ب {وعدًا} وهو عينه ليبنى عليه {مسئولًا}.
ويجوز أن يعود الضمير إلى {ما يشاءون} والإخبار عنه ب {وعدًا} من الإخبار بالمصدر والمراد المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
ويتعلق: {على ربك} ب {وعدًا} لتضمين {وعدًا} معنى حقًّا لإفادة أنه {وعدًا} لا يخلف كقوله تعالى: {وعدًا علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104].
والمسؤول: الذي يسأله مستحقه ويطالب به، أي حقًّا للمتقين أن يترقبوا حصوله كأنه أجر لهم عن عمل.
وهذا مسوق مساق المبالغة في تحقيق الوعد والكرم كما يشكرك شاكر على إحسان فتقول: ما أتيت إلا واجبًا، إذ لا يتبادر هنا غير هذا المعنى، إذ لا معنى للوجوب على الله تعالى سوى أنه تفضل وتعهد به، ولا يختلف في هذا أهل الملة وإنما اختلفوا في جواز إخلاف الوعد. اهـ.