فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسبق أنْ تكلّمنا عن الصراط، ولماذا ضُرِب على مَتْن جنهم، والجميع يمرون عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى يريد أنْ يجعل لك من مرائي النار التي تمرُّ عليها فوق الصراط نعمة أخرى تُذكِّرك بالنجاة من النار قبل أنْ تباشر نعيم الجنة.
لذلك لا يمتن الله علينا بدخول الجنة فحسب، إنما أيضًا بالنجاة من النار، فيقول سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
فالحق سبحانه وتعالى يذكر لنا النار، وأن من صفاتها كذا وكذا، أما في الآخرة فسوف نراها رَأْي العين، كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 7] وذلك حين تكون على الصراط، فتحمد الله على الإسلام الذي أنجاك من النار، وأدخلك الجنة، فكل نعمة منها أعظم من الأخرى.
وفي قوله تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] كلمة خير في اللغة تدور على معنيين: خير يقابله شَرٌّ، وخير يقابله خير أعظم منه. كما جاء في الحديث الشريف: «المؤمن القوي خير وأَحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير» فكلاهما فيه خير، وإن زاد الخير في المؤمن القوي، وعادة ما تأتي {من} في هذا الأسلوب: هذا خير من هذا.
أما الخير الذي يقابله شر، فمثل قوله تعالى: {أولئك هُمْ خَيْرُ البرية}.
[البينة: 7].
والجنة كما نستعملها في استعمالات الدنيا، هي المكان المليء بالأشجار والمزروعات التي تستر السائر فيها، أو تستر صاحبها أنْ ينتقلَ منها إلى خارجها؛ لأن بها كل متطلبات حياته، بحيث يستغني بها عن غيرها، لذلك أردفها الحق تبارك وتعالى بقوله: {الخلد} [الفرقان: 15].
إذن: فالجنة التي تراها في الدنيا مهما بلغت فليست هي جنة الخلد؛ لأنها لابد إلى زوال، فعُمرها من عُمْر دُنْياها، كأنه سبحانه يقول لكل صاحب جنة في الدنيا: لا تغترْ بجنتك؛ لأنها ستؤول إلى زوال، وأشدّ الغم لصاحب السرور أنْ يتيقن زواله، كما قال الشاعر:
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدي فِي سُرُورٍ ** تَيقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُه انْتِقَالاَ

لذلك يُطمئِن الله تعالى عباده المؤمنين بأن الجنة التي وعدهم بها هي جنة الخلد والبقاء، حيث لا يفنى نعيمها، ولا يُنغّص سرورها، فلذَّاتها دائمة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.
وقوله تعالى: {التي وُعِدَ المتقون} [الفرقان: 15] الوعد هنا من الله تعالى الذي يملك كل أسباب الوفاء، والوَعْد بشارة بخير قبل مجيئه لتستعد لأن تكون من أهله، ويقابله الإنذار، وهو التهديد بشرٍّ قبل مجيئه لتتلافاه، وتجتنب أسباب الوقوع فيه.
وكلمة مُتَّقٍ الأصل فيها مَنْ جعل بينه وبين الشر وقاية، كما يقول سبحانه: {فاتقوا النار} [البقرة: 24] يعني: اجعلوا بينكم وبينها وقاية.
ومن العجيب أن يقول سبحانه: {واتقوا الله} [البقرة: 194] ويقول: {فاتقوا النار} [البقرة: 24] والمعنى: اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله القهرية وقايةً؛ لأنكم لا تتحمّلون صفات قَهْره، والنار جُنْد من جنود الله في صفات جلاله، فكأنه تعالى قال: اتقوا جنود صفات الجلال من الله.
وقوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً} [الفرقان: 15] أي: جزاءً لما قدَّموا، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئًَا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} [الحاقة: 24] فهذا تعليلُ ما هم فيه من النعيم: أنهم كثيرًا ما تَعِبُوا، واضطهدوا وعُذِّبوا، وجزاء من عُذِّب في ديننا أن نُسعده الآن في الآخرة.
{وَمَصِيرًا} [الفرقان: 15] أي: يصيرون إليه، إذن: لا تنظر إلى ما أنت فيه الآن، لكن انظر إلى ما تصير إليه حَتْمًا، وتأمل وجودك في الدنيا، وأنه موقوت مظنون، ووجودك في الآخرة وأنه باقٍ دائم لا ينتهي، لذلك يقولون: إياك أنْ تدخل مدخلًا لا تعرف كيفية الخروج منه.
ثم يقول الحق سبحانه: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ}.
في الآية السابقة قال سبحانه: {جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] وهنا يقول: {خَالِدِينَ} [الفرقان: 16] وهذه من المواضع التي يرى فيها السطحيون تكرارًا في كلام الله، مع أن الفرق واضح بينهما، فالخُلْد الأول للجنة، أما الثاني فلأهلها، بحيث لا تزول عنهم ولا يزولون هم عنها.
وقوله: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان: 16] كأن امتياز الجنة أن يكون للذي دخلها ما يشاء، وفي هذه المسألة بَحْث يجب أن نتنبه إليه {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان: 16] يعني: إذا دخلتَ الجنة فلك فيها ما تشاء. إذن: لك فيها مشيئة من النعيم، ولا تشاء إلا ما تعرف من النعيم المحدود، أما الجنة ففيها ما لا عَيْن رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وهذا الوعد لا يتحقق للمؤمن إلا في الجنة، أما في الدنيا فلا أحدَ ينال كل ما يشاء حتى الأنبياء أَلاَ ترى أن نوحًا عليه السلام طلب من ربه نجاة ولده. فقال: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فلم يُجَبْ إلى ما يشاء.
ومحمد صلى الله عليه وسلم رغم كل المحاولات لم يتمكن من هداية عمه أبي طالب، وهذا لا يكون إلا في الدنيا، لذلك فاعلم أن الله تعالى حين يحجب عنك ما تشاء في الدنيا إنما ليدخره لك كما يشاء في الآخرة، مع أن الكثيرين يظنون هذا حرمانًا، وحاشا لله تعالى أن يحرم عبده.
وفي قوله: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان: 16] عطاءات أخرى، لكن ربك يعطيك على قَدْر معرفتك بالنعيم، ويجعل عليك كنترولًا فأنت تطلب وربُّكَ يعطيك، ويدخر لك ما هو أفضل مما أعطاك.
والمشيئة في الأخرى ستكون بنفسيات ومَلَكات أخرى غير نفسيات ومَلكات مشيئات الدنيا، إنها في الآخرة نفوس صفائية خالصة لا تشتهي غير الخير، على خلاف ما نرى في الدنيا من ملَكات تشتهي السوء، لأن الملَكات هنا محكومة بحكم الجبر في أشياء والاختيار في أشياء: الجبر في الأشياء التي لا تستطيع أن تتزحزح عنها كالمرض والموت مثلًا، أما الاختيار ففي المسائل الأخرى.
ثم يقول سبحانه: {كَانَ على رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا} [الفرقان: 16] الوعد كما قلنا البشارة بخير قبل أوانه. وبعض العلماء يرى أن وعدًا هنا بمعنى حق، لكن هل لأحد حق عند الله؟
وفي موضع آخر يُسمِّه تعالى جزاءً، فهل هو وعد أم جزاء؟ نقول: حينما شرع الحق سبحانه الوعد صار جزاءً؛ لأن الحق تبارك وتعالى لا يرجع في وعده، ولا يحول شيء دون تحقيقه.
وكلمة {مَّسْئُولًا} [الفرقان: 16] مَن السائل هنا؟ قالوا: الله تعالى علَّمنا أن نسأله، واقرأ قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فقد سألناها نحن.
وكذلك سألتها الملائكة، كما جاء في قوله سبحانه على لسان الملائكة: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8].
فالجنة إذن مسئولة من أصحاب الشأن، ومسئولة من الملائكة الذين يستغفرون لنا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)}.
لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول} وفي الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسموه: رسولا استهزاء وسخرية {يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} أي: ما باله يأكل الطعام كما نأكل، ويتردّد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردّد، وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكًا مستغنيًا عن الطعام والكسب، وما الاستفهامية في محل رفع على الابتداء، والاستفهام للاستنكار، أو خبر المبتدأ لهذا الرسول، وجملة: {يَأْكُلُ} في محل نصب على الحال، وبها تتمّ فائدة الإخبار كقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقق المسبب، وهو: الأكل والمشي، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكمًا واستهزاء، والمعنى: أنه إن صحّ ما يدّعيه من النبوّة، فما باله لم يخالف حاله حالنا {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} طلبوا: أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم مصحوبًا بملك يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ملكًا مستغنيًا عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدّقه، ويشهد له بالرسالة، قرأ الجمهور: {فيكون} بالنصب على كونه جواب التحضيض.
وقرئ {فيكون} بالرفع على أنه معطوف على أنزل، وجاز عطفه على الماضي، لأن المراد به المستقبل.
{أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} معطوف على أنزل، ولا يجوز عطفه على فيكون، والمعنى: أو هلا يلقى إليه كنز، تنزلوا من مرتبة نزول الملك معه، إلى اقتراح أن يكون معه كنز يلقى إليه من السماء؛ ليستغني به عن طلب الرزق {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ الجمهور: {تكون} بالمثناة الفوقية، وقرأ الأعمش، وقتادة: {يكون} بالتحتية، لأن تأنيث الجنة غير حقيقي.
وقرأ {نأكل} بالنون حمزة وعليّ وخلف، وقرأ الباقون: {يأكل} بالمثناة التحتية أي: بستان نأكل نحن من ثماره، أو يأكل هو وحده منه؛ ليكون له بذلك مزية علينا حيث يكون أكله من جنته.
قال النحاس: والقراءتان حسنتان، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدّم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فعود الضمير إليه بين {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} المراد ب {الظالمون} هنا: هم القائلون بالمقالات الأولى، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به أي: ما تتبعون إلاّ رجلًا مغلوبًا على عقله بالسحر، وقيل: إذا سحر، وهي الرئة أي: بشرًا له رئة لا ملكًا، وقد تقدّم بيان مثل هذا في سبحان.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} ليتوصلوا بها إلى تكذيبك، والأمثال هي: الأقوال النادرة، والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه ها هنا {فَضَّلُواْ} عن الصواب فلا يجدون طريقًا إليه، ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاءوا بهذه المقالات الزائفة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء، وأقلهم تمييزًا، ولهذا قال: {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا} أي: لا يجدون إلى القدح في نبوّة هذا النبيّ طريقًا من الطرق {تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مّن ذلك} أي: تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلًا خيرًا من ذلك الذي اقترحوه.
ثم فسر الخير، فقال: {جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}، فجنات بدل من {خيرًا} {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} معطوف على موضع جعل، وهو الجزم، وبالجزم قرأ الجمهور.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر برفع {يجعل} على أنه مستأنف، وقد تقرّر في علم الإعراب: أن الشرط إذا كان ماضيًا جاز في جوابه الجزم والرفع، فجاز أن يكون جعل ها هنا في محل جزم ورفع، فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع.
وقرئ بالنصب، وقرئ بإدغام لام لك في لام يجعل لاجتماع المثلين.
وقرئ بترك الإدغام؛ لأن الكلمتين منفصلتان، والقصر: البيت من الحجارة؛ لأن الساكن به مقصور عن أن يوصل إليه، وقيل: هو بيت الطين، وبيوت الصوف والشعر.
ثم أضرب سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء، فقال: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كله.
وهو تكذيبهم بالساعة، فلهذا لا ينتفعون بالدلائل، ولا يتأملون فيها.
ثم ذكر سبحانه ما أعدّه لمن كذب بالساعة، فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيرًا} أي: نارًا مشتعلة متسعرة، والجملة في محل نصب على الحال أي: بل كذبوا بالساعة، والحال أنا أعتدنا.
قال أبو مسلم: {أعتدنا} أي: جعلناه عتيدًا، ومعدًّا لهم {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة ل {سعيرًا} لأنه مؤنث بمعنى: النار، قيل: معنى {إذا رأتهم} إذا ظهرت لهم، فكانت بمرأى الناظر في البعد، وقيل: المعنى: إذا رأتهم خزنتها، وقيل: إن الرؤية منها حقيقية، وكذلك التغيظ والزفير، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك.