فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُواْ} [البقرة: 197].
ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقًا.
والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يُلّم شعثه ويجمع عليه أربَه؛ ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر.
وهذا هو الحق.
سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال: إني أريد الحج على قدم التوكل.
فقال: اخرج وحدك؛ فقال: لا، إلاّ مع الناس.
فقال له: أنت إذن متكل على أجربتهم.
وقد أتينا على هذا في كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة وردّ ذلّ السؤال بالكتب والشفاعة.
الرابعة: خرّج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» وخرّج البزّار عن سلمان الفارسيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونن إن استطعتْ أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته» أخرجه أبو بكر البرْقانيّ مسندًا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان النهدِيّ عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكن أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرّخ» ففي هذه الأحاديث ما يدلّ على كراهة دخول الأسواق، لاسيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان.
وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر: كُره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدِّين تنزيهًا لهم عن البقاع التي يُعصى الله فيها.
فحق على من ابتلاَه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وأنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصَر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.
الخامسة: تشبيه النبيّ صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن؛ وذلك أن المعركة موضع القتال، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضًا.
فشبّه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة، واختلاَط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها.
السادسة: قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون: لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة؛ ومن الأحاديث الموضوعة: الأكل في السوق دناءة.
قلت: ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو؛ فإن ذلك خالٍ عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن؛ إذ ليس بذلك من حاجتهن.
وأما غيرهما من الأسواق فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيسارِيات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا.
نعوذ بالله من سخطه.
السابعة: خرّج أبو داود الطيالسيّ في مسنده حدّثنا حماد بن زيد قال حدّثنا عمرو ابن دِينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: «من دخل سوقًا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألفَ ألفِ سيئة وبنى له قصرًا في الجنة» خرّجه الترمذيّ أيضًا وزاد بعده: «ومحا عنه ألف ألف سيئة»: «ورفع له ألف ألف درجةٍ وبنى له بيتًا في الجنة» وقال: هذا حديث غريب.
قال ابن العربيّ: وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين.
الثامنة: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي إن الدنيا دار بلاء وامتحَان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغنّي.
ومعنى هذا أن كل واحد مختبَر بصاحبه؛ فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه.
والفقير ممتحَن بالغنّي، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق؛ كما قال الضحاك في معنى {أَتَصْبِرُونَ} أي على الحق.
وأصحاب البلايا يقولون: لِمَ لم نعاف؟ والأعمى يقول: لِمَ لَمْ أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة.
والرسول المخصوص بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره.
وكذلك العلماء وحكام العدل.
ألا ترى إلى قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى.
والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر، وذاك عن الضجر.
{أَتَصْبِرُونَ} محذوف الجواب، يعني أم لا تصبرون.
فيقتضي جوابًا كما قاله المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيًا في مراكب ومناكب، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية {أَتَصْبِرُونَ} فقال: بلى ربنا! نصبِر ونحتسب.
وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابرًا عليه، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر.
وعن أبي الدرداء أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ويل للعالِم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة وهو قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}» أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعقبة بن أبي مُعَيط وعُتْبة بن ربيعة والنضر بن الحرث حين رأوا أبا ذرّ وعبد الله بن مسعود، وعمارًا وبلالًا وصُهيبًا وعامر بن فُهَيرة، وسالمًا مولى أبي حُذَيفة ومِهْجَعا مولى عمر بن الخطاب وجبرًا مولى الحَضْرمي، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين: {أَتَصْبِرُونَ} على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر؛ فالتوقيف ب {أَتَصْبِرُونَ} خاص للمؤمنين المحققين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم.
ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} [المؤمنون: 111].
التاسعة: قوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدّى ما عليه من الحق ومن لا يؤدّي.
وقيل: {أَتَصْبِرُونَ} أي اصبروا.
مثل {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي انتهوا؛ فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ}.
قرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص {يحشرهم} و{فيقول} بالياء فيهما.
وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما.
وقرأ باقي السبعة في نحشرهم بالنون وفي {فيقول} بالياء.
وقرأ الأعرج {يحشرهم} بكسر الشين.
قال صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي.
وقال ابن عطية: وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين المتعدي أقيس من يفعل بضم العين انتهى.
وهذا ليس كما ذكر ابل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقى عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيرًا، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلاّ فالخيار حتى أن بعض أصحابنا خير فيهما سمعًا للكلمة أو لم يسمعا.
{وما يعبدون} قال الضحاك وعكرمة: الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على هذه المقالة من الجواب.
وقال الكلبي: يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها.
وقال الجمهور: من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو الأظهر كقوله: {أأنتم أضللتم} وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلاّ من العقلاء، وجاء ما يشبه ذلك منصوصًا في قوله: {ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} وسؤاله تعالى وهو عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفًا للمكلفين.
وجاء الاستفهام مقدمًا فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب {أأضللتم} ولا أضلوا لأن كلًا من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله.
وتقدم نظير هذا في {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم} وقال الزمخشري: وفيه كسر بيِّن لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه {أأنتم أضللتم} أم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيهًا منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها.
وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله: {يضل من يشاء} ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتم انتهى.
وهو على طريقة المعتزلة.
والمعنى {أأنتم} أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق، أم {ضلوا} بأنفسهم عنه.
ضل أصله أن يتعدى بعن كقوله: {من يضل عن سبيله} ثم أتسع فحذف، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم يحذف ويضل مطاوع أضل كما تقول: أقعدته فقعد.
و{سبحانك} تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون، أن يكون أحد منهم ندًا وهو المنزه عن الند والنظير.
وقال الزمخشري: {سبحانك} تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى.
وقرأ علقمة ما ينبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم أخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه.
وقرأ أبو عيسى الأسود القاري {يُنْبَغي لنا} مبنيًا للمفعول.