فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة».
ومَنْ كان عليه دَيْن من المسلمين تحمّله عنه رسول الله، وهذا كله إنْ دلَّ فإنما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم واثق من جزاء أُخْراه، فلا يُحبّ أن يناله منه شيء في الدنيا.
لذلك قُلْنا: لو نظرتَ في مبادىء الحق ومبادىء الباطل أمامك في الدنيا لوجدتَ أن مبدأ الباطل يدفع ثمنه أولًا، فمثلًا لكي تكون شيوعيًا لابد أن تأخذ الثمن أولًا، أما مبدأ الحق فأنت تدفع الثمن مُقدّمًا: تتعب وتُظلم وتُعذَّب وتجوع وتتشرد، وتخرج من أهلك ومن مالك، ثم تنتظر الجزاء في الآخرة. وبهذا المقياس تستطيع أنْ تُفرِّق بين الحق والباطل.
وقوله تعالى: {وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} [الفرقان: 20] أي: يرتادونها لقضاء مصالحهم وشراء حاجياتهم، دليلٌ على تواضعهم وعدم تكبُّرهم على مثل هذه الأعمال؛ لذلك كان سيدنا رسول الله يحمل حاجته بنفسه، فإنْ عرض عليه أحدُ صحابته أنْ يحملها عنه يقول صلى الله عليه وسلم: «صاحب الشيء أحقُّ بحمله».
ومعنى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] فأيّ بعض فتنة لأيِّ بعض؟ كما في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] أيُّ بعض مرفوع، وأيّ بعض مرفوع عليه؟
نلاحظ في مثل هذه المسائل أن الناس لا تنظر إلا إلى زاوية واحدة: أن هذا غنيٌّ وهذا فقير، لكنهم لو أخذوا في المفاضلة بكل جوانب النفس الإنسانية لوجدوا أن في كل إنسان موهبةً خَصّه الله بها، فكلٌّ مِنّا عنده مَيْزةٌ ليست عند أخيه؛ ذلك ليتكاتف الناس ويتكامل الخَلْق؛ لأن العالم لو كان نسخة واحدة مكررة ما احتاجَ أحدٌ لأحد، وما سأل أحد عن أحد، أمّا حين تتعدد المواهب فيكون عندك ما ليس عندي، فيترابط المجتمع ترابط الحاجة لا ترابط التفضل.
ولو تصورنا الناس جميعًا تخرجوا في الجامعة وأصبحوا دكاترة فمَنْ يكنس الشارع؟ ساعتها سيتطوع أحدنا يومًا لهذه المهمة، إذن: تصبح الحاجة بنت تطوُّع وتفضُّل، والتفضُّل لا يُلزِم أحدًا بعمل، فقد تتعطل المصالح. أمّا حين تدعوك الحاجة فأنت الذي تُسرع إلى العمل وتبحث عنه.
أَلاَ ترى أصحاب المهن الشاقة يخرجون في الصباح يبحثون عن عمل، ويغضب الواحد منهم إذا لم يجد فرصة عمل في يومه مع ما سيتحمله من آلام ومشاق، لماذا؟ إنها الحاجة.
فالعامل الذي يعمل في المجاري مثلًا ويتحمَّل أذاها هو في قدرته على نفسه ورضاه بقدَر الله فيه أفضل مِنِّي أنا في هذه المسألة، لأنني لا أقدر على هذا العمل وهو يقدر، ولو ترك الله مثل هذه الأعمال للتفضّل ما أقدم عليها أحد، إذن: التسخيرات من الحق سبحانه وتعالى لحكمه.
ومثل هذه الأعمال الشاقة أو التي تؤذي العامل يعدُّها البعض أعمالًا حقيرة، وهذا خطأ، فأيُّ عمل يُصلح المجتمع لا يُعَدُّ حقيرًا، فلا يوجد عمل حقير أبدًا، وإنما يوجد عامل حقير.
فمعنى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] كل بعض منا فتنة للآخر، فالغنيُّ فتنةٌ للفقير، والفقير فتنة للغني.. الخ فحين يتعالى الغني على الفقير ويستذلّه فالفقير هنا قتنة للغني، وحين يحقد الفقير على الغني ويحسده، فالغنيّ هنا فتنة للفقر، وهكذا الصحيح فتنة للمريض، والرسل فتنة لمن كذّبوهم، والكفار فتنة للرسل.
والناس يفرون من الفتنة في ذاتها، وهذا لا يصح؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، فالذي ينبغي أن نفر منه نتيجة الفتنة، لا الفتنة ذاتها، فالامتحان فتنة للطلاب، مَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ. إذن: الفتنة في ذاتها غير مذمومة.
لذلك تُؤخَذ الفتنة من فتنة الذهب حين يُصْهر، ومعلوم أن الذهَب أفضل المعادن، وإنْ وُجد ما هو أنفس منه، لماذا؟ لأن من مَيْزاته أنه لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره، وهو كذلك سهل السَّبْك؛ لذلك يقولون: المعدن النفيس كالأخيار بَطيءٌ كَسْره، سريع جَبْره. فمثلًا حين يتكسر الذهب يسهل إعادته وتصنيعه على خلاف الزجاج مثلًا.
إذن: الفتنة اختبار، الماهر مَنْ يفوز فيه، فإنْ كان غنيًا كان شاكرًا مُؤدِّيًا لحقِّ الغني مُتواضعًا يبحث عن الفقراء ويعطف عليهم، والفقير هو العاجز عن الكسب، لا الفقير الذي احترف البلطجة وأَكْل أموال الناس بالباطل.
ولما كانت الفتنة تقتضي صَبْرًا من المفتون، قال سبحانه: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] فكل فتنة تحتاج إلى صبر، فهل تصبرون عليها؟
ولأهمية الصبر يقول تعالى في سورة العصر: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 12] يعني: مُطلَق الإنسان في خُسْر لا ينجيه منه إلاّ أنْ يتصف بهذه الصفات: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3].
وتُختم الآية بقوله سبحانه: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] لينبهنا الحق سبحانه أن كل حركة من حركاتكم في الفتنة مُبْصَرة لنا، وبصرنا للأعمال ليس لمجرد العلم، إنما لنُرتِّب على الأعمال جزاءً على وَفْقها. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)}.
أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي} قال: عيسى وعزير والملائكة.
وأخرج الحاكم وابن مردويه بسند ضعيف عن عبد الله بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل عن قول الله {وما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} أو نتخذ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ {إن نتخذ} بنصب النون فسألته عن {الم غلبت الروم} [الروم: 1-2] أو غلبت قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {غلبت الروم}.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن الضحاك قال: قرأ رجل عند علقمة {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك} برفع النون ونصب الخاء فقال علقمة {أن نتخذ} بنصب النون وخفض الخاء.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه كان يقرؤها {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك} برفع النون ونصب الخاء.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} قال: هذا قول الآلهة {ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قومًا بورًا} قال: البور: الفاسد. وانه ما نسي الذكر قوم قط إلاَّ باروا، وفسدوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قومًا بورًا} هَلْكَى.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله عز وجل: {قومًا بورًا} قال هلكى بلغة عمان وهم من اليمن قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم. أما سمعت قول الشاعر وهو يقول:
فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم ** وكافرًا به فالكفر بور لصانعه

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: البور: بكلام عمان.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن {بورًا} قال قاسين لا خير فيهم.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {قومًا بورًا} قال: هالكين {فقد كذبوكم بما تقولون} يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعزيرًا والملائكة حين قالوا سبحانك! أنت ولينا من دونهم فقد كذبوكم بما تقولون عيسى، وعزيرًا، والملائكة حين يكذبون المشركين، بقولهم {فما يستطيعون صرفًا ولا نصرًا} قال: المشركون لا يستطيعون صرف العذاب، ولا نصر أنفسهم.
أما قوله تعالى: {ومن يظلم منكم نذقه عذابًا كبيرًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: قرأت اثنين وسبعين كتابًا كلها نزلت من السماء ما سمعت كتابًا أكثر تكريرًا فيه الظلم معاتبة عليه من القرآن. وذلك أن الله علم أن فتنة هذه الأمة تكون في الظلم، وأما الآخر فإن أكثر معاتبته إياهم في الشرك، وعبادة الأوثان.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله: {ومن يظلم منكم} قال هو الشرك.
وأخرج ابن جرير عن ابن جرير في قوله: {ومن يظلم منكم} قال: يشرك.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} يقول: إن الرسل قبل محمد كانوا بهذه المنزلة {يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} قال: بلاء.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} قال: يقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيًا مثل فلان. ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحًا مثل فلان. ويقول الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيرًا مثل فلان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} قال: هو التفاضل في الدنيا، والقدرة، والقهر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} قال: يمسك على هذا ويوسع على هذا فيقول: لم يعطني ربي ما أعطى فلانًا. ويبتلى بالوجع فيقول: لم يجعلني ربي صحيحًا مثل فلان. في أشباه ذلك من البلاء ليعلم من يصبر ممن يجزع {وكان ربك بصيرًا} بمن يصبر ومن يجزع.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لو شاء الله لجعلكم أغنياء كلكم لا فقير فيكم. ولو شاء الله لجعلكم فقراء كلكم لا غني فيكم. ولكن ابتلى بعضكم ببعض».
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: قال رجل: يا رسول الله كيف ترى في رقيقنا. أقوام مسلمين يصلون صلاتنا، ويصومون صومنا، نضربهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «توزن ذنوبهم وعقوبتكم إياهم فإن كانت عقوبتكم أكثر من ذنوبهم أخذوا منكم قال: أفرأيت سبنا إياهم؟ قال: يوزن ذنبهم وأذاكم إياهم فإن كان اذاكم أكثر أعطوا منكم قال الرجل: ما أسمع عدوًّا أقرب اليّ منهم!» فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرًا} فقال الرجل: أرأيت يا رسول الله ولدي أضر بهم؟ قال: «إنك لا تتهم في ولدك، فلا تطيب نفسًا تشبع ويجوع، ولا تكتسي ويعروا». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ}.
قرأ ابنُ عامر {نَحْشُرهم} ِ {فنقول} بالنون فيهما. وابنُ كثير وحفصٌ بالياء مِنْ تحت فيهما. والباقون بالنونِ في الأولِ، وبالياءِ في الثاني. وهنَّ واضحاتٌ. وقرأ الأعرج {نَحْشِرُهم} بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي قليلةٌ في الاستعمالِ قويةٌ في القياس؛ لأنَّ يَفْعِلِ بكسرِ العين في المتعدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُل بضمِّ العين. وقال أبو الفضل الرازي: وهو القياس في الأفعالِ الثلاثيةِ المتعديةِ؛ لأنَّ يَفْعُل بضهم العين قد يكونُ من اللازمِ الذي هو فَعُل بضمِّها في الماضي. قال الشيخ: وليس كما ذكرا، بل فِعْلُ المتعدِّي الصحيحُ جميعُ حروفِه، إذا لم يكن للمغالبةِ ولا حلقيَّ عينٍ ولا لامٍ فإنه جاء على يَفْعِل ويَفْعُل كثيرًا. فإنْ شُهرِ أحدُ الاستعمالين اتُّبعَ، وإلاَّ فالخيارُ. حتى إنَّ بعضَ أصحابِنا خَيَّر فيهما: سُمِعا للكلمة أو لم يُسْمَعا. قلت: الذي خَيَّرَ في ذلك هو ابنُ عصفور فيُجيزُ أَنْ تقولَ: زيد يَفْعِل بكسرِ العينِ، ويَضْرُب بضمِّ الراءِ مع سماعِ الضمِّ في الأول والكسرِ في الثاني. وسبَقَه إلى ذلك ابنُ درستويهِ، إلاَّ أنَّ النحاةَ على خلافِه.