فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثالثة:
إنما يقال للكافر لا بشرى لأن الكافر وإن كان ضالًا مضلًا إلا أنه يعتقد في نفسه أنه كان هاديًا مهتديًا، فكان يطمع في ذلك الثواب العظيم، ولأنهم ربما عملوا ما رجوا فيه النفع كنصرة المظلوم وعطية الفقير وصلة الرحم، ولكنه أبطلها بكفره فبين سبحانه أنهم في أول الأمر يشافهون بما يدل على نهاية اليأس والخيبة، وذلك هو النهاية في الإيلام وهو المراد من قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47].
المسألة الرابعة:
حق الكلام أن يقال يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم، لكنه قال لا بشرى للمجرمين وفيه وجهان:
أحدهما: أنه ظاهر في موضع ضمير والثاني: أنه عام فقد تناولهم بعمومه، قالت المعتزلة تدل الآية على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو لأن قوله: {لاَ بشرى لّلْمُجْرِمِينَ} نكرة في سياق النفي فيعم جميع أنواع البشرى في جميع الأوقات بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال بل له بشرى في الوقت الفلاني، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية، علمنا أن قوله تعالى: {لاَ بشرى} يقتضي نفي جميع أنواع البشرى في كل الأوقات، ثم إنه سبحانه أكد هذا النفي بقوله: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} والعفو من الله من أعظم البشرى، والخلاص من النار بعد دخولها من أعظم البشرى، وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين، والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم غير مرة، قال المفسرون المراد بالمجرمين هاهنا الكفار بدليل قوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} [المائدة: 72].
المسألة الخامسة:
في تفسير قوله: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك الله وعمرك الله، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة، قال سيبويه: يقول الرجل للرجل يفعل كذا وكذا فيقول حجرًا، وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه، فكان المعنى أسأل الله أن يمنع ذلك منعًا ويحجره حجرًا ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد، فإن قيل: لما ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بكونه محجورًا؟ قلنا: جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا ذبل ذابل فالذبل الهوان وموت مائت وحرام محرم.
المسألة السادسة:
اختلفوا في أن الذين يقولون حجرًا محجورًا من هم؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنهم هم الكفار وذلك لأنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، ثم إذا رأوهم عند الموت ويوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو الموتور ونزول الشدة القول الثاني: أن القائلين هم الملائكة ومعناه حرامًا محرمًا عليكم الغفران والجنة والبشرى، أي جعل الله ذلك حرامًا عليكم، ثم اختلفوا على هذا القول فقال بعضهم إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم، قالت الحفظة لهم حجرًا محجورًا، وقال الكلبي الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين حجرًا محجورًا، وقال عطية إذا كان يوم القيامة يلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم بشرونا فيقولون حجرًا محجورًا القول الثالث: وهو قول القفال والواحدي وروي عن الحسن أن الكفار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيتعوذون منه ويقولون حجرًا محجورًا، فتقول الملائكة لا يعاذ من شر هذا اليوم.
أما قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا} فقد استدلت المجسمة بقوله: {وَقَدِمْنَا} لأن القدوم لا يصح إلا على الأجسام، وجوابه أنه لما قامت الدلالة على امتناع القدوم عليه لأن القدوم حركة والموصوف بالحركة محدث، ولذلك استدل الخليل عليها السلام بأفول الكواكب على حدوثها وثبت أن الله عز وجل لا يجوز أن يكون محدثًا، فوجب تأويل لفظ القدوم وهو من وجوه: أحدها: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} أي وقصدنا إلى أعمالهم، فإن القادم إلى الشيء قاصد له، فالقصد هو المؤثر في المقدوم إليه وأطلق المسبب على السبب مجازًا وثانيها: المراد قدوم الملائكة إلى موضع الحساب في الآخرة، ولما كانوا بأمره يقدمون جاز أن يقول: {وَقَدِمْنَا} على سبيل التوسع ونظيره قوله: {فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] وثالثها: {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] فلما أباد الله أعمالهم وأفسدها بالكلية صارت شبيهة بالمواضع التي يقدمها الملك فلا جرم قال: {وَقَدِمْنَا}.
أما قوله: {إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} يعني الأعمال التي اعتقدوها برًا وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى، والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان.
أما قوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} فالمراد أبطلناه وجعلناه بحيث لا يمكن الانتفاع به كالهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه ونظيره قوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] {كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} [إبراهيم: 18] {كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل: 5] قال أبو عبيدة والزجاج: الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس.
وقال مقاتل: إنه الغبار الذي يستطير من حوافر الدواب.
أما قوله: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيهًا على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى، وههنا سؤالات:
الأول: كيف يكون أصحاب الجنة خيرًا مستقرًا من أهل النار، ولا خير في النار، ولا يقال في العسل هو أحل من الخل؟ والجواب من وجوه: الأول: ما تقدم في قوله: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] والثاني: يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير، لأن مستقر خير من النار، كقول الشاعر:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتًا دعائمه أعز وأطول

الثالث: التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع، والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه الرابع: هذا التفاضل واقع على هذا التقدير، أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيرًا منه.
السؤال الثاني: الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك؟ والجواب من وجوه: الأول: أن المستقر مكان الاستقرار، والمقيل زمان القيلولة، فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان، ومن الزمان في أطيب زمان الثاني: أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم، فإنهم يقيلون في الفردوس، ثم يعودون إلى مستقرهم الثالث: أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة، قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار وقرأ ابن مسعود: {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم}.
وقال سعيد بن جبير: إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وقال مقاتل: يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة.
السؤال الثالث: كيف يصح القيلولة في الجنة والنار، وعندكم أن أهل الجنة في الآخرة لا ينامون، وأهل النار أبدًا في عذاب يعرفونه، وأهل الجنة في نعيم يعرفونه؟ والجواب: قال الله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وليس في الجنة بكرة وعشي، لقوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13] ولأنه إذا لم يكن هناك شمس لم يكن هناك نصف النهار ولا وقت القيلولة، بل المراد منه بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع وأحسنها، كما أن موضع القيلولة يكون أطيب المواضع، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءِنَا}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يخافون ولا يخشون، قاله السدي، ومنه قول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ** وخالفها في بيت نوب عوامل

أي لم يخش. الثاني: لا يبالون، قاله ابن عمير، وأنشد لخبيب:
لعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلمًا ** على أي حال كان في الله مصرعي

أي ما أبالي.
الثالث: لا يأملون، حكاه ابن شجرة وأنشد قول الشاعر:
أترجو أمة قتلت حسينا ** شفاعة جَدِّه يوم الحسابِ

{لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ} فيه قولان:
أحدهما: ليخبرونا أن محمدًا نبي قاله يحيى بن سلام.
الثاني: ليكونوا رسلًا إلينا من ربهم بدلًا من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
{أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فيأمرنا باتباع محمد وتصديقه.
{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِم} فيه وجهان:
أحدهما: تكبرواْ في أنفسهم لما قل في أعينهم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا إليهم.
الثاني: استكبروا في أنفسهم بما اقترحوه من رؤية الله ونزول الملائكة عليهم.
{وَعَتَوْ عُنُوًّا كَبِيرًا} فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنه التجبر، قاله عكرمة.
الثاني: العصيان، قاله يحيى بن سلام.
الثالث: أنه السرف في الظلم، حكاه ابن عيسى.
الرابع: أنه الغلو في القول، حكاه النقاش.
الخامس: أنه شدة الكفر، قاله ابن عباس.
قيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ومكرز بن حفص بن الأخنف في جماعة من قريش قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.
فنزل فيهم قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ} فيه قولان:
أحدهما: عند الموت، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: يوم القيامة، قاله مجاهد.
{لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمينَ} يعني بالجنة، قاله عطية العوفي: إذا كان يوم القيامة يلقى المؤمن بالبشرى فإذا رأى الكافر ذلك تمناه فلم يره من الملائكة.
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا} فيه ثلاث أوجه:
أحدها: معناه معاذ الله أن تكون لكم البشرى يومئذ، قاله مجاهد.
الثاني: معناه: منعنا أن نصل إلى شيء من الخير، قاله عكرمة.
الثالث: حرامًا محرمًا أن تكون لكم البشرى يومئذ، قاله أبو سعيد الخدري، والضحاك، وقتادة ومنه قول الملتمس:
حَنّتْ إلى النخلة القصوى فقلت لها ** حجْرٌ حرام إلا تلك الدهاريس

وفي القائلين حجرًا محجورًا قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة قالوه للكفار، قاله الضحاك.
الثاني: أنهم الكفار قالوه لأنفسهم، قاله قتادة.
قوله تعالى: {وَقَدِمْنآ} أي عمدنا، قاله مجاهد، قال الراجز:
وقدم الخوارج الضلال ** إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءَكم لنا حلال... {إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} فيه قولان:
أحدهما: من عمل خيرًا لا يتقبل منهم لإِحباطه بالكفر، قاله مجاهد.
الثاني: من عمل صالحًا لا يراد به وجه الله، قاله ابن المبارك.
{فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} فيه خمسة أقاويل:
أحدها: أنه رهج الدواب، قاله علي بن أبي طالب.
الثاني: أنه كالغبار يكون في شعاع الشمس إذا طلعت في كوة، قاله الحسن، وعكرمة.
الثالث: أنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، قاله قتادة.
الرابع: أنها الماء المراق، قاله ابن عباس.
الخامس: أنه الرماد، قاله عبيد بن يعلى.
قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًا} يعني منزلًا في الجنة من مستقر الكفار في النار.
{وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه المستقر في الجنة والمقيل دونها، قاله أبو سنان.
الثاني: أنه عنى موضع القائلة للدعة وإن لم يقيلواْ، ذكره ابن عيسى.
الثالث: أنه يقيل أولياء الله بعد الحساب على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين المقرنين، قاله ابن عباس.
الرابع: لأنه يفرغ من حسابهم وقت القائلة وهو نصف النهار، فذلك أحسن مقيلًا، من مقيل الكفار، قاله الفراء. اهـ.