فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}.
يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي لا يؤمنون بذلك.
قال:
إذا لَسَعْته النحلُ لم يَرْجُ لَسْعَهَا ** وخَالَفَهَا في بيت نُوبٍ عَوامِل

وقيل: {لاَ يَرْجُونَ} لا يبالون.
قال:
لعمركَ ما أرجو إذا كنتُ مُسْلِمًا ** على أيِّ جنْبٍ كان في الله مَصْرَعِي

ابن شجرة: لا يأملون؛ قال:
أترجو أُمَّةٌ قتلتْ حسينًا ** شفاعَة جدّه يومَ الحسابِ

{لَوْلاَ أُنْزِلَ} أي هلا أنزل.
{عَلَيْنَا الملائكة} فيخبروا أن محمدًا صادق.
{أَوْ نرى رَبَّنَا} عِيانًا فيخبرنا برسالته.
نظيره قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] إلى قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسراء: 92].
قال الله تعالى: {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} حيث سألوا الله الشطط؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه.
وقال مقاتل: {عُتُوًّا} علوًا في الأرض.
والعتوّ: أشدّ الكفر وأفحش الظلم.
وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين، ولابد لهم من معجزة يقيمها من يدّعي أنه ملَك، وليس للقوم طلب معجزة بعد أن شاهدوا معجزة، وأن {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت، فتبشر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم.
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا} يريد تقول الملائكة حرامًا محرمًا أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله، وأقام شرائعها؛ عن ابن عباس وغيره.
وقيل: إن ذلك يوم القيامة؛ قاله مجاهد وعطية العوفيّ.
قال عطية: إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى: فإذا رأى ذلك الكافر تمناه فلم يره من الملائكة.
وانتصب {يَوْمَ يَرَوْنَ} بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة.
{يومَئِذٍ} تأكيد ل {يَوْمَ يَرَوْنَ}.
قال النحاس: لا يجوز أن يكون {يَوَمْ يَرَوْنَ} منصوبًا ب {بُشْرَى} لأن ما في حيز النفي لا يعمل فيما قبله، ولكن فيه تقدير أن يكون المعنى يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة؛ ودلّ على هذ الحذف ما بعده.
ويجوز أن يكون التقدير: لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة، و{يَوْمَئِذٍ} مؤكد.
ويجوز أن يكون المعنى: اذكر يوم يرون الملائكة: ثم ابتدأ فقال: {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا} أي وتقول الملائكة حرامًا محرّمًا أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين.
قال الشاعر:
أَلاَ أَصْبَحتْ أسماءُ حِجْرًا مُحرَّمًا ** وأَصْبَحْتُ من أَدْنَى حُمُوَّتِها حَمَا

أراد ألا أصبحت أسماء حرامًا محرمًا.
وقال آخر:
حنَّت إلى النَّخْلَةِ الْقُصْوَى فقلتُ لها ** حِجْرٌ حرامٌ أَلاَ تِلْكَ الدَّهارِيسُ

وروي عن الحسن أنه قال: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا} وقفٌ من قول المجرمين؛ فقال الله عز وجل: {مَحْجُورًا} عليهم أن يعاذوا أو يجاروا؛ فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة.
والأوّل قول ابن عباس.
وبه قال الفرّاء؛ قاله ابن الأنباريّ.
وقرأ الحسن وأبو رجاء: {حُجْرًا} بضم الحاء والناس على كسرها.
وقيل: إن ذلك من قول الكفار قالوه لأنفسهم؛ قاله قتادة فيما ذكر الماوردي.
وقيل: هو قول الكفار للملائكة.
وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية؛ فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال: حجرًا محجورًا؛ أي حرامًا عليك التعرض لي.
وانتصابه على معنى: حجرت عليك، أو حجر الله عليك؛ كما تقول: سقيا ورعيا.
أي إن المجرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا: نعوذ بالله منكم؛ ذكره القشيريّ، وحكى معناه المهدوي عن مجاهد.
وقيل: {حِجْرًا} من قول المجرمين.
{مَحْجُورًا} من قول الملائكة؛ أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا.
فتقول الملائكة: {مَحْجُورًا} أن تعاذوا من شر هذا اليوم؛ قاله الحسن.
قوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة؛ أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بَرٍّ عند أنفسهم.
يقال: قدِم فلان إلى أمر كذا أي قصده.
وقال مجاهد: {قَدِمْنَا} أي عمدنا.
وقال الراجز:
وقَدِم الخوارجُ الضُّلالُ ** إلى عِباد ربِّهم فقالوا

إن دماءكم لنا حلالُ

وقيل: هو قدوم الملائكة، أخبر به عن نفسه تعالى فاعله.
{فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} أي لا ينتفع به؛ أي أبطلناه بالكفر.
وليس {هَبَاءً} من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين.
والتصغير هُبَيٌّ في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هُبَيٍّ في موضع الرفع؛ حكاه النحاس.
وواحده هباة والجمع أهباء.
قال الحارث بن حلِّزة يصف ناقة:
فَتَرى خِلْفَها من الرَّجْعِ والوَقْـ ** ـعِ مَنِينًا كأنه أهباء

وروى الحرث عن علي قال: الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوّة.
وقال الأزهريّ: الهباء ما يخرج من الكوّة في ضوء الشمس شبيه بالغبار.
تأويله: إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور.
فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار.
والمنبث المتفرق.
وقال ابن عرفة: الهبوَة والهبَاء التراب الدقيق.
الجوهري: ويقال له إذا ارتفع هبَا يَهْبُو هُبُوًّا وأهبيته أنا.
والهَبْوة الغَبْرة.
قال رؤبة:
تَبْدُو لنا أعلاَمُه بعد الغَرَقْ ** في قِطَعِ الآلِ وهَبْوَاتِ الدُّقَقْ

وموضعٌ هابِي التراب أي كأن ترابه مثل الهباءِ في الرقة.
وقيل: إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر؛ قاله قتادة وابن عباس.
وقال ابن عباس أيضًا: إنه الماء المهراق.
وقيل: إنه الرماد؛ قاله عبيد بن يعلى.
قوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}.
تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} [الفرقان: 15].
قال النحاس: والكوفيون يجيزون العسل أحلى من الخل وهذا قول مردود؛ لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرًا منه ولا حلاوة في الخل.
ولا يجوز أن يقال: النصراني خير من اليهودي؛ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير.
لكن يقال: اليهودي شر من النصراني؛ فعلى هذا كلام العرب.
و{مُسْتَقَرًّا} نصب على الظرف إذا قدر على غير باب أفعل منك والمعنى لهم خير في مستقر.
وإذا كان من باب أفعل منك فانتصابه على البيان؛ قاله النحاس والمهدوي.
قال قتادة: {وَأَحْسَنُ مقِيلًا} منزلًا ومأوى.
وقيل: هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار.
ومنه الحديث المرفوع: «إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيَقِيلُ أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار» ذكره المهدوِي.
وقال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ثم قرأ: {ثم إِن مقِيلهم لإلى الجحيم} كذا هي في قراءة ابن مسعود.
وقال ابن عباس: الحساب من ذلك اليوم في أوله، فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
ومنه ما روي: «قِيلوا فإن الشياطين لا تَقِيل».
وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» فقلت: ما أطول هذا اليوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصلّيها في الدنيا». اهـ.

.قال أبو حيان:

{لولا أنزل علينا الملائكة}.
فتخبرنا أنك رسول حقًا {أو نرى ربنا} فيخبرنا بذلك قاله ابن جريج وغيره.
وهذه كما قالت اليهود {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وكقولهم أعني المشركين {أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا} وهذا كله في سبيل التعنت، وإلاّ فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا.
{لقد استكبروا} أي تكبروا {في أنفسهم} أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله، وهم ليسوا بأهل لها.
والمعنى أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهم من الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم كما قال: {إن في صدورهم إلاّ كبر ما هم ببالغيه} واللام في لقد جواب قسم محذوف و{عتوا} تجاوزوا الحد في الظلم ووصفه بكبير مبالغة في إفراطه أي لم يجسروا على هذا القول العظيم إلاّ لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.
وجاء هنا {عتوًا} على الأصل وفي مريم {عتيًا} على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل.
قال ابن عباس {عتوا} كفروا أشد الكفر وأفحشوا.
وقال عكرمة: تجبروا.
وقال ابن سلام: عصوا.
وقال ابن عيسى: أسرفوا.
قال الزمخشري: هذه الجملة في حسن استيفائها غاية في أسلوبها.
ونحوه قول القائل:
وجارة جساس أبأنا بنابها ** كليبًا غلت ناب كليب بواؤها

في نحو هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى أن المعنى ما أشدّ استكبارهم وما أكثر عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب.
{يوم يرون الملائكة} {يوم} منصوب باذكر وهو أقرب أو بفعل يدل عليه {لا بشرى} أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه {لا بشرى} لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس، ودخول {لا} على {بشرى} لانتفاء أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة لقوله بعد {وقدمن إلى ما عملوا} وعن ابن عباس: عند الموت والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا نزول الملائكة لا يعرفون ما يكون لهم إذا رأوهم من الشر وانتفاء البشارة وحصول الخسار والمكروه.
واحتمل {بشرى} أن يكون مبنيًا مع {لا} واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنيًا مع {لا} احتمل أن يكون الخبر {يومئذ وللمجرمين} خبر بعد خبر أو نعت لبشرى، أو متعلق بما تعلق به الخبر، وأن يكون {يومئذ} صفة لبشرى، والخبر {للمجرمين} ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس {لا} أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع {لا} وما بني معها؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون {يومئذ} معمولًا لبشرى، وأن يكون صفة، والخبر من الخبر.
وأجاز أن يكون {يومئذ} و{للمجرمين} خبر وجاز أن يكون {يومئذ} خبرًا و{للمجرمين} صفة، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيًا لنفس لا بإجماع.