فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام}.
أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام.
وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائيّ وأبو عمرو: {تشقّقُ} بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فحذفوا الأولى تخفيفًا، واختاره أبو عبيد.
الباقون {تَشَّقَّقُ} بتشديد الشين على الادغام، واختاره أبو حاتم.
وكذلك في ق.
{بِالْغَمامِ} أي عن الغمام.
والباء وعن يتعاقبان؛ كما تقول: رميت بالقوس وعن القوس.
روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تِيههِم فتنشق السماء عنه؛ وهو الذي قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} [البقرة: 210].
{وَنُزِّلَ الملائكة} من السموات، ويأتي الربّ جل وعز في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء، على ما يجوز أن يحمل عليه إتيانه؛ لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال.
وقال ابن عباس: تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة، ثم ينزل الكَروبيون وحملة العرش؛ وهو معنى قوله: {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلًا} أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين.
وقيل: إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها وبين الناس؛ فبتشقق الغمام تتشقق السماء؛ فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها.
وقرأ ابن كثير: {وَنُنْزِلُ الْمَلاَئِكَة} بالنصب من الإنزال.
الباقون: {وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ} بالرفع.
دليله: {تَنْزِيلًا} ولو كان على الأوّل لقال إنزالًا.
وقد قيل: إن نَزَّل وأنزل بمعنى؛ فجاء {تَنْزِيلًا} على {نَزَّل} وقد قرأ عبد الوهاب عن أبي عمرو: {وَنُزِل الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلًا}.
وقرأ ابن مسعود: {وأَنْزَلَ الْمَلاَئِكَةَ}.
أبيّ بن كعب: {وَنُزِّلَتِ الْمَلائِكَةُ}.
وعنه {وتنزلت الْمَلاَئِكَةُ}.
قوله تعالى: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} {الْمُلْكُ} مبتدأ و{الْحَقُّ} صفة له و{لِلرَّحْمَنِ} الخبر؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك؛ فبطلت يومئذٍ أملاك المالكين وانقَطعتَ دعاويهم، وزال كل ملِك وملكه، وبقي الملك الحق لله وحده.
{وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الكافرين عَسِيرًا} أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة؛ على ما تقدّم في الحديث.
وهذه الآية دالة عليه؛ لأنه إذا كان على الكافرين عسيرًا فهو على المؤمنين يسير.
يقال: عَسِر يَعْسرَ، وعَسُر يَعسُر.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ}.
الماضي عضِضت.
وحكى الكسائيّ عضَضت بفتح الضاد الأولى.
وجاء التوقيف عن أهل التفسير، منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن الظالم هاهنا يراد به عقبة بن أبي مُعَيط، وأن خليله أمية بن خلف؛ فعقبة قتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله؛ فقال: أأقتل دونهم؟ فقال: نعم، بكفرك وعتوّك.
فقال: من للصبية؟ فقال: النار.
فقام عليّ رضي الله عنه فقتله.
وأمية قتله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من دلائل نبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خبَّر عنهما بهذا فقتلا على الكفر.
ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم قَبِلَ من غيره في معصية الله عز وجل.
قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: وكان عقبة قد همّ بالإسلام فمنعه منه أبيّ بن خلف وكانا خِدنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما جميعًا: قُتل عقبة يوم بدر صبرًا، وأبيّ بن خلف في المبارزة يوم أحد؛ ذكره القشيريّ والثعلبيّ، والأوّل ذكره النحاس.
وقال السهيليّ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} هو عقبة بن أبي مُعَيط، وكان صديقًا لأمية بن خلف الجُمحِيّ ويروى لأبي بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشًا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم.
وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه، فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبيّ بن خلف وكان غائبًا.
فقال عقبة: رأيت عظيمًا ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش.
فقال له خليله: لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت.
ففعل عدوّ الله ما أمره به خليله؛ فأنزل الله عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ}.
قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل.
وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله.
{يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلًا} في الدنيا، يعني طريقًا إلى الجنة.
{يا ويلتى} دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته.
{لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا} يعني أمية، وكنى عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصًا به ولا مقصورًا، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما.
وقال مجاهد وأبو رجاء: الظالم عام في كل ظالم، وفلان: الشيطان.
واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولًا}.
وقرأ الحسن: {يَا وَيْلَتِي} وقد مضى في هود بيانه.
والخليل: الصاحب والصديق وقد مضى في النساء بيانه.
{لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر} أي يقول هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلًا عن القرآن والإيمان به.
وقيل: {عَنِ الذِّكْرِ} أي عن الرسول.
{وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولًا} قيل: هذا من قول الله لا من قول الظالم.
وتمام الكلام على هذا عند قوله: {بَعْدَ إِذْ جاءَنِي}.
والخذل الترك من الإعانة؛ ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم.
وكل من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولًا عند نزول العذاب والبلاء.
ولقد أحسن من قال:
تَجَنَّب قرِينَ السُّوءِ واصرِمْ حبالَه ** فإن لم تجد عنه مَحِيصًا فدارِهِ

وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه ** تنل منه صفو الود ما لم تمارِهِ

وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصِّبا ** إذا اشتعلت نيرانه في عِذارهِ

آخر:
اصحب خيار الناس حيث لقيتهم ** خير الصحابة من يكون عفِيفًا

والناس مثل دراهمٍ ميزتها ** فوجدت منها فِضة وزيوفا

وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يُحذِيك وإما أن تبتاع منه وإمّا أن تجد ريحًا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرِق ثيابك وإما أن تجد ريحًا خبيثة» لفظ مسلم.
وأخرجه أبو داود من حديث أنس.
وذكر أبو بكر البزَّار عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله؛ أيّ جلسائنا خير؟ قال: «من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله» وقال مالك بن دِينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار.
وأنشد:
وصاحب خيار الناس تَنْجُ مسلَّما ** وصاحب شرار الناس يوما فتندما

قوله تعالى: {وَقَالَ الرسول يا رب}.
يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم، يشكوهم إلى الله تعالى.
{إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُورًا} أي قالوا فيه غير الحق من أنه سحر وشعر؛ عن مجاهد والنخعِيّ.
وقيل: معنى {مَهْجُورًا} أي متروكًا؛ فعزّاه الله تبارك وتعالى وسلاّه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ المجرمين} أي كما جعلنا لك يا محمد عدوًا من مشركي قومِك وهو أبو جهل في قول ابن عباس فكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من مشركي قومه، فاصبر، لأمري كما صبروا، فإني هادِيك وناصرك على كل من ناوأك.
وقد قيل: إن قول الرسول {يَا رَبِّ} إنما يقوله يوم القيامة؛ أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني.
وقال أنس قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من تعلم القرآن وعلَّق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقًا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورًا فاقض بيني وبينه» ذكره الثعلبي.
{وكفى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} نصب على الحال أو التمييز، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك.
وقال ابن عباس: عدوّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو جهل لعنه الله. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}.
قرأ الحرميان وابن عامر {تشقق} بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا.
وفي ق وباقي السبعة بحذف تلك التاء ويعني يوم القيامة كقوله: {السماء منفطر به} وقرأ الجمهور: {ونُزِّل} ماضيًا مشددًا مبنيًا للمفعول، وابن مسعود وأبو رجاء {ونزل} ماضيًا مبنيًا للفاعل.