فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}.
أي: ينصدع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما يرى اليوم. فيخرب العالم بأسره. والباء بمعنى: مع أي: مع السحب الجوية أو بمعنى: عن أي: تنفطر عن الغمام الذي يسوّد الجو ويظلمه، ويغم القلوبَ مرآه: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا} فيحيطون بالخلائق في المحشر.
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ}.
أي: فلا يدعيه ثَمَّ غيره. ويكون له سبحانه السلطة القاهرة الشاملة: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} أي: تشتد حسراته وتتصاعد زفراته: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} يعني من أضلّه عن الذكر، وصده عن سبيل الله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} أي: القرآن، أو موعظة الرسول: {إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} أي: مبالغًا في إضلاله، يعده ويمنيه في الدنيا، ما يحسّره عليه في العقبى.
{وَقَالَ الرَّسُولُ} أي: إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} أي: متروكًا، معرضًا عنه. وجملة: {وَقَالَ الرَّسُولُ} عطف على: {وقال الذين لا يرجون} وما بينهما اعتراض، سيقت لانتظام ما قالوه، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهيّ مما أضاقوا به الصدور، وجلبوه من الكدور، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين.
تنبيه:
الآية، وإن كانت في المشركين، وإعراضُهم هو عدم إيمانهم، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به، والأخذ بآدابه. الذي هو حقيقة الهجر. لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك. إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها. ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها.

.قال ابن عاشور:

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}.
عطف على جملة {يوم يرون الملائكة} [الفرقان: 22].
والمقصود تأييسهم من الانتفاع بأعمالهم وبآلهتهم وتأكيد وعيدهم.
وأدمج في ذلك وصف بعض شؤون ذلك اليوم، وأنه يوم تنزيل الملائكة بمرأى من الناس.
وأعيد لفظ {يَومَ} على طريقة الإظهار في مقام الإضمار وإن كان ذلك يومًا واحدًا لبعد ما بين المعاد ومكان الضمير.
والتشقق: التفتح بين أجزاءٍ ملتئمة، ومنه {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1].
ولعله انخراق يحصل في كُوَر تلك العوالم، والذين قالوا: السموات لا تقبل الخرق ثم الالتئام بنوه على تخيّلهم إياها كقباب من معادن صُلبة، والحكماء لم يصلوا إلى حقيقتها حتى الآن.
وتشقُّق السماءِ حالة عجيبة تظهر يوم القيامة، ومعناه زوال الحواجز والحدود التي كانت تمنع الملائكة من مبارحة سماواتهم إلا من يؤذن له بذلك، فاللام في الملائكة للاستغراق، أي بين جمع الملائكة فهو بمنزلة أن يقال: يوم تفتح أبواب السماء.
قال تعالى: {وفتحت السماء فكانت أبوابًا} [النبأ: 19]؛ على أن التشقّق يستعمل في معنى انجلاء النور كما قال النابغة:
فانشق عنها عمود الصبح جافلة ** عَدْو النَّحُوص تخاف القَانِصَ اللَّحِما

وحاصل المعنى: أن هنالك انبثاقًا وانتفاقًا يقارنه نزول الملائكة لأن ذلك الانشقاق إذنٌ للملائكة بالحضور إلى موقع الحشر والحساب.
والتعبير بالتنزيل يقتضي أن السموات التي تنشقّ عن الملائكة أعلى من مكان حضور الملائكة.
وقرأ الجمهور {تشّقق} بتشديد الشين.
وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الشين.
والغَمام: السحاب الرقيق.
وهو ما يغشى مكان الحساب، قال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلَل مِن الغَمام والملائكةُ وقُضِيَ الأمر} تقدم في سورة البقرة (210).
والباء في قوله: {بالغمام} قيل بمعنى عن أي تشقق عن غمام يحفّ بالملائكة.
وقيل للسببية، أي يكون غمام يخلقه الله فيه قوة تنشقّ بها السماء لينزل الملائكة مثل قوة البرق التي تشق السحاب.
وقيل الباء للملابسة، أي تشَّقَّق ملابسة لغمام يظهر حينئذ.
وليس في الآية ما يقتضي مقارنة التشقق لنزول الملائكة ولا مقارنة الغمام للملائكة، فدَعْ الفهم يذهبْ في ترتيب ذلك كلَّ مذهب ممكن.
وأُكد {نُزِّل الملائكة} بالمفعول المطلق لإفادة أنه نزول بالذات لا بمجرد الاتصال النُوراني مثل الخواطر الملكية التي تشعشع في نفوس أهل الكمال.
وقرأ الجمهور {ونُزِّلَ الملائكةُ} بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام ورفع {الملائكة} مبنيًا للنائب.
وقرأه ابن كثير {ونُنْزِل} بنونين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وبضم اللام ونصب {الملائكة}.
وقوله: {الملك يومئذٍ} هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به {يَومَ تشقق السماء بالغمام}، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قوله: {يَوْم يَرَوْن الملائكة} [الفرقان: 22] وكذلك القول في تكرير {يومئذ}.
و{الحق} الخالص، كقولك: هذا ذهب حقًّا.
وهو المُلك الظاهر أنه لا يماثله مُلك، لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة.
والمُلك الكامل إنما هو لله، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتَبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدّعي شيئًا من التصرف، وفي الحديث: «ثم يقول الله: أنا المَلِكُ أيْن ملوكُ الأرض».
ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين.
وتقديم {على الكافرين} للحصر.
وهو قصر إضافي، أي دون المؤمنين.
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)}.
هذا هو ذلك اليوم أعيد الكلام عليه باعتبار حال آخر من أحوال المشركين فيه، أو باعتبار حال بعض المشركين المقصود من الآية.
والتعريف في {الظالم} يجوز أن يكون للاستغراق.
والمراد بالظلم الشرك فيعم جميع المشركين الذين أشركوا بعد ظهور الدعوة المحمدية بقرينة قوله: {يقول يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلًا}، ويكون قوله: {ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا} إعلامًا بما لا تخلو عنه من صحبة بعضهم مع بعض وإغراء بعضهم بعضًا على مناوأة الإسلام.
ويجوز أن يكون للعهد المخصوص.
والمراد بالظلم الاعتداء الخاص المعهود من قصة معينة وهي قصة عقبة بن أبِي معيْط وما أغراه به أُبَيّ بن خلف.
قال الواحدي وغيره عن الشعبي وغيره: كان عقبة بن أبي مَعيط خليلًا لأمية بن خلف، وكان عقبة لا يقدَم من سفر إلا صنع طعامًا ودعا إليه أشرافَ قومه، وكان يُكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدِم من بعض أسفاره فصنع طعامًا ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرّبوا الطعام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بآكل من طعامك حتى تَشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله، فأكل رسول الله من طعامه.
وكان أُبَيّ بن خلف غائبًا فلما قدم أُخبر بقضيته، فقال: صَبَأتَ يا عقبةُ، قال: والله ما صبأتُ ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يأكل من طعامي حتى أشهد له، فاستحييتُ أن يخرج من بيتي ولم يَطْعَم، فشهدتُ له فطَعِم، فقال أُبَيّ: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدًا إلاّ أن تأتيه فتبصق في وجهه، فكفَر عقبة وأخذ في امتثال ما أمره به أبيّ بن خلف، فيكون المراد بفلان الكناية عن أبَيّ بن خلف فخصوصه يقتضي لحاق أمثاله من المشركين الذين أطاعوا أخلّتهم في الشرك ولم يتّبِعُوا سبيل الرسول، ولا يخلو أحد من المشركين عن خليل مشرك مثله يصدّه عن متابعة الإسلام إذا هَمّ به ويثْبِته على دين الشرك فيتندم يوم الجزاء على طاعته ويذكره باسمه.
والعَضّ: الشدّ بالأسنان على الشيء ليُؤلمه أو ليُمسكه، وحقه التعدية بنفسه إلا أنه كثرت تعديته ب {على} لإفادة التمكن من المعضوض إذا قصدوا عضًّا شديدًا كما في هذه الآية.
والعضّ على اليد كناية عن الندامة لأنهم تعارفوا في بعض أغراض الكلام أن يصحبوها بحركات بالجسد مثل التّشذر، وهو رفع اليد عند كلام الغضب قال، لبيد:
غُلْب تشذّر بالدخول كأنهم ** جن البدي رواسيًا أقدامها

ومثل وضع اليد على الفم عند التعجب.
قال تعالى: {فَرَدُّوا أيديهم في أفواههم} [إبراهيم: 9].
ومنه في الندم قرع السن بالأصبع، وعَضّ السبابة، وعَضّ اليد.
ويقال: حَرَّق أسنانه وحرّق الأُرَّم بوزن رُكَّع الأضراس أو أطراف الأصابع، وفي الغيظ عضّ الأنامل قال تعالى: {عَضُّوا عليكم الأنامل من الغيظ} في سورة [آل عمران: 119]، وكانت كناياتتٍ بناء على ما يلازمها في العرف من معان نفسية، وأصل نشأتها عن تهيج القوة العصبية من جراء غضب أو تلهف.
والرّسول: هو المعهود وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
واتخاذ السبيل: أخذه، وأصل الأخذ: التناول باليد، فأطلق هنا على قصد السير فيه قال تعالى: {واتّخذ سبيله في البحر} [الكهف: 63].
و{مع الرسول} أي متابعًا للرسول كما يتابع المسافر دليلًا يسلك به أحسن الطرق وأفضاها إلى المكان المقصود.
وإنما عُدل عن الإتيان بفعل الاتباع ونحوه بأن يقال: يا ليتني اتبعتُ الرسول، إلى هذا التركيب المطنب لأن في هذا التركيب تمثيل هيئة الاقتداء بهيئة مُسايَرة الدليللِ تمثيلًا محتويًا على تشبيه دعوة الرسول بالسبيل، ومتضمنًا تشبيه ما يحصل عن سلوك ذلك السبيل من النجاة ببلوغ السائر إلى الموضع المقصود، فكان حصول هذه المعاني صائرًا بالإطناب إلى إيجاز، وأما لفظ المتابعة فقد شاع إطلاقه على الاقتداء فهو غير مشعر بهذا التمثيل.
وعُلِم أن هذا السبيل سبيلُ نجاح مَن تمناه لأن التمني طلب الأمر المحبوب العزيز المنال.
و{يا ليتني} نداء للكلام الدال على التمني بتنزيل الكلمة منزلة العاقل الذي يطلب حضوره لأن الحاجة تدعو إليه في حالة الندامة، كأنه يقول: هذا مقامُك فاحضري، على نحو قوله: {يا حَسْرَتَنا على ما فرطنا فيها} في سورة [الأنعام: 31].
وهذا النداء يزيد المتمني استبعادًا للحصول.
وكذلك قوله: {يا وَيْلَتَا} هو تحسّر بطريق نداء الويل.
والويل: سوء الحال، والألف عوض عن ياء المتكلم، وهو تعويض مشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.
وقد تقدم الكلام على الويل في قوله تعالى: {فويل للذين يَكْتُبون الكتاب} في سورة [البقرة: 79].
وعلى {يا وَيْلَتنا} في قوله: {يا ويْلَتَنا مَالِ هَذَا الكتاب} في سورة [الكهف: 49].
وأتبَع التحسّرَ بتمني أن لا يكون {اتّخذ فلانًا خليلًا}.
وجملة {ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا} بدل من جملة {ليتني اتّخذتُ مع الرسول سبيلًا} بدل اشتمال لأن اتباع سبيل الرسول يشتمل على نبذ خُلّة الذين يصدون عن سبيله فتمني وقوع أولهما يشتمل على تمني وقوع الثاني.