فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: فضل ما: يعني أن من عنده ماء فيه فضل عن سقي زرعه ولجاره زرع ولا ماء له، إذا منع منه الماء، حتى هلك زرعه، هل يضمنه أو لا على الخلاف المذكور، وقوله: وعمد: يعني إذا كانت عنده عمد جمع عمود فمنعها من جار له جدار يخاف سقوطه حتى سقط، هل يضمن أو لا؟ وقوله: رسم شهادة: يعني أن من منه وثيقة فيها الشهادة بحق حتى ضاع الحق، هل يضمنه أو لا؟ وقوله: وما عطل ناظر: يعني أن الناظر على مال اليتيم مثلًا إذا عطل دوره، فلم يكرها، حتى فات الانتفاع بكرائها زمنًا أو ترك الأرض حتى تبورت هل يضمن أو لا، وقوله: وذو الرهن: يعني إذا عطل المرتهن كراء الرهن، حتى فات الانتفاع به زمنًا، وكان كراؤه له أهمية، هل يضمن أو لا؟ وقوله: كذا مفرط في العلف: يعني أن من ترك دابة عند أحد ومعها علفها، وقال له قدم لها العلف، فترك تقديمه لها حتى ماتت، هل يضمن أو لا، والعلف في البيت بسكون الثاني، وهو تقديم العلف بفتح الثاني.
وقوله: وكالتي ردت بعيب وعدم. وليها: يعني أن الولي القريب إذا زوج وليته، وفيها عيب يوجب رد النكاح وسكتت الزوجة، ولم تبين عيب نفسها وفلس الولي هل يرجع الزوج على الزوجة بالصداق أو لا؟ فهذه الفروع وما شابهاه مبنية على الخلاف في الكف هل هو فعل أو لا؟ والصحيح أن الكف فعل، كما دل عليه الكتاب والسنة واللغة، كما تقدم إيضاحه، وعليه فالصحيح لزوم الضمان فيما ذكر.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}.
لما شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه في قوله: {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] أنزل الله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} الآية، تسلية له صلى الله عليه وسلم: أي كما جعلنا الكفار أعداء لك، يكذبونك، ويتخذون القرآن الذي أنزل إليك مهجورًا، كذلك الجعل لكل نبي عدوًا: أي جعلنا لك أعداء، كما جعلنا لكل نبي عدوًا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} الآية. قد قدمنا إيضاحه في الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنس} [الأنعام: 112] الآية، وقوله تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} قد قدمنا الكلام مستوفى على كفى اللازمة، والمتعدية بشواهده العربية في سورة الإسراء في الكلام على قوله: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] وقوله: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِيًا} جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة، كقوله: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} [الكهف: 17] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [البقرة: 120] وقوله: ونصيرًا: أي وكفى بربك نصيرًا، جاء معناه أيضًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}.
وقد سبق منهم أنْ طلبوا من الله أنْ ينزل عليهم ملائكة، فها هي الملائكة تنزل عليهم كما يريدون، لكن في غير مسرّة لكم، ولا إجابة لسؤال منكم.
والسماء: هي السقف المرفوع فوقنا المحفوظ الذي ننظر إليه، فلا نرى فيه فطورًا ولا شروخًا، ولك أن تنظر إلى السماء حال صفائها، وسوف تراها ملساء لا نتوءَ فيها، ولا اعوجاج على اتساعها هذا وقيامها هكذا بلا عَمَد.
لذلك يدعوك الحق تبارك وتعالى إلى النظر والتأمل، يقول لك: لن نغشك.. انظر في السماء وتأمل: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4].
والسماء التي تراها فوقك على هذه القوة والتماسك لا يُمسكها فوقك إلا الله، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} [فاطر: 41].
ويقول تعالى: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] إذن: هناك إذْن للسماء أن تقع على الأرض، وأنْ تتشقق وتتبدل، كما قال سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48].
ويقول تعالى عن تشقُّق السماء في الآخرة: {إِذَا السماء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 12].
معنى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} [الانشقاق: 2] يعني: استمعتْ وأطاعتْ بمجرد الاستماع.
وهنا يقول تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25] أي: تنشقّ وينزل من الشقوق الغمام، وقد ذُكِر الغمام أيضًا في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة} [البقرة: 210].
وقوله تعالى: {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلًا} [الفرقان: 25] يدل على قوة النزول ليباشروا عملية الفصل في موقف القيامة.
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)}.
إنْ كانت الدنيا يُملِّك اللهُ فيها بعض خَلْقه بعض خَلْقه، كما قال سبحانه: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] وقلنا: فَرْق بين المِلْك والمُلْك: المِلْك كل ما تملك ولو كان حتى ثوبك الذي ترتديه فهو مِلك، أمّا المُلْك فهو أن تملك مَنْ يملك، وهذا يعطيه الله تعالى، ويهبه لمن يشاء من باطن مُلْكه تعالى، كما أعطاه للذي حاجّ خليلَه إبراهيم عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك} [البقرة: 258].
هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلا مْلك ولا مُلْك لأحد، فقد سلب هذا كله، والملْك اليوم لله وحده: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
إذن: فما في يدك من مُلْك الدنيا مُلْك غير مستقر، سرعان مان يُسلَب منك؛ لذلك يقول أحد العارفين للخليفة: لو دام الملْك لغيرك ما وصل إليك، فالمسألة ليست ذاتية فيك، فمُلْكك من باطن مُلْك الله تعالى صاحب الملك، وهو الملك الحق، فمُلْكه تعالى ثابت مستقر، لا ينتقل ولا يزول.
وإن انتقلتْ الملكية في الدنيا من شخص لآخر فإنها تُجمَع يوم القيامة في يده تعالى، وتجمّع الملْك والسلطة في يد واحدة إنْ كانت ممقوتة عندنا في الدنيا، حيث نكره الاحتكار والدكتاتورية التي تجعل السلطة والقهر في يد واحدة، إنْ كانت هذه مذمومة في البشر فهي محمودة عند الله تعالى؛ لأنها تتركز في الدنيا في يد واحد صاحب هوى.
أما في الآخرة فهي في يده تعالى، فالرحمة في الدنيا أن يوزع الملْك والسلطان، والرحمة في الآخرة أن تُجمع في يده تعالى: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} [الفرقان: 26] إذن: اجتماع الملْك يوم القيامة لله تعالى من مظاهر الرحمة بنا، فلا تأخذها على أنها احتكار أو جبروت؛ لأنها في يد الرحمن الرحيم.
وكأن الحق تبارك وتعالى يُطمئنك: لا تقلق، فالملْك يوم القيامة ليس لأحد تخاف أن تقع تحت سطوته، إنما الملك يومئذ الحق للرحمن.
والحق: الشيء الثابت الذي لا يتغير، وما دام ثابتًا لا يتغير فهو لا يتناقض ولا يتعارض، فالرجل إذا كلّمك بكلام له واقع في الحياة وطلبتَ منه أن يعيده لك أعاده ألف مرة، دون أن يُغيّر منه شيئًا، لماذا؟ لأنه يقول من خلال ما يستوحي من الحقيقة التي شاهدها، أمّا إنْ كان كاذبًا فإنه لا يستوحي شيئًا؛ لذلك لابد أن يختلف قوله في كل مرة عن الأخرى؛ لذلك قالوا: إنْ كنتَ كذوبًا فكُنْ ذكورًا.
ومن رحمانيته تعالى أن يقول سبحانه: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الكافرين عَسِيرًا} [الفرقان: 26] فينبهنا إلى الخطر قبل الوقوع فيه، وهذه رحمة بنا أن ينصحنا ربنا ويعدل لنا، وإلا لو فاجأنا بالعقوبة لكان الأمر صعبًا.
فإن ذكرت المقابل تقول إنه يسير على المؤمنين، فاحرص أيها الإنسان أن تكون من الميسّر لهم لا من المعسّر عليهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ}.
هذه عدّة أيام ذكرتها هذه الآيات: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22]، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25]، {الملك يَوْمَئِذٍ الحق} [الفرقان: 26]، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] فيوم القيامة جامع لهذا كله.
وقلنا: إن الظالم: الذي يأخذ حَقَّ غيره، والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذا الظلم بقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57].
لأنهم لا يقدرون على ظُلْم الله تعالى، ولا على ظُلْم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمة الله ورسوله هي العُلْيا، وسينتصر دين الله في نهاية المطاف. ومع ذلك يعاقبهم الله تعالى على ظلمهم لأنفسهم، فنِعْم الإله إله يفعل هذا مع مَنْ عصاه.
والكافر حتى في مظهرية ظُلْمه للغير يظلم نفسه؛ لأنه يضعها في موضع المسئولية عن هذه المظالم. إذن: لو حقَّق الإنسان الظلم لوجده لا يعود إلا على الظالم نفسه.
وحين يرى الظالمُ عاقبةَ ظُلْمه، ويعاين جزاء فِعْله يعضُّ على يديْه ندمًا وحَسْرة. والعَضُّ: انطباق الفكيْن الأعلى والأسفل على شيء، وللعضِّ مراحل تتناسب مع المُفْزع الذي يُلجىء الإنسانَ له، وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119].
والأنامل: اطراف الأصابع وعَضُّها من الغيظ عادة معروفة حينما يتعرّض الإنسان لموقف يصعُب عليه التصرف فيه فيعضُّ على أنامله عَضًّا يناسب الموقف والحدث، فإنْ كان الحدث أعظمَ ناسبه أنْ يعضّ يده لا مجرد أصابعه، فإنْ عظم عَضَّ على يديْه معًا كما يحدث لهم في الآية التي معنا: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] لأنه في موقف حسرة وندم على الفرصة التي فاتته ولن تعود، والخطأ الذي لا يمكن تداركه؛ لذلك يُعذِّب نفسه قبل أن يأتيه العذاب.
فيعضُّ على يديْه معًا، فكأن الأمر المُفْزِع الذي يعاينه بلغ الغاية؛ لذلك عضَّ على يديه ليبلغ الغاية في المعضوض، وهو العاضّ والمعضوض، ولا يُعذِّب نفسه بهذه الطريقة إلا مَنْ يئس من النجاة.
ثم يُبيِّن علة ذلك: {يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلًا} [الفرقان: 27] وإنْ كانت هذه الآية قد نزلت في حدث مخصوص وفي شخص بعينه، فإنها تعمّ كل مَنْ فعل هذا، فالعبرة كما يقولون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا جزاء كل ظالم حَادَ عن الجادة.
وهذه الآية نزلت في حدث خاص باثنين: عقبة بن أبي معيط، وكان رجلًا كريمًا يُطعم الطعام، وقد دعا مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه، لكن رسول الله اعتذر له وقال: لا أستطيع أن أحضر طعامك إلا أنْ تشهد أن: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فلما شهد الرجل الشهادتين زاره رسول الله وأكل من طعامه، فأغضب ذلك أمية ابن خلف صاحب عقبة فقال له: لقد صبوتَ يا عقبة، فقال عقبة: والله ما قلتُ ذلك إلا لأنني أحببتُ أن يأكلَ محمد عندي كما يأكل الناس، فقال أمية: فلا يبرئك مني إلا أنْ تذهب إلى محمد في دار الندوة فتطأ عنقة وتبصق.. إلخ، وفعل عقبة ما أشار عليه به صاحبه فنزلت الآية: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلًا} [الفرقان: 27] والمراد بالسبيل قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم يقول: {يا ويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا}.
الويل: الهلاك، فهو يدعو الهلاك ويناديه أنْ يحلّ به، والإنسان لا يطلب الهلاك لنفسه إلا إذا تعرّض لعذاب أشدّ من الهلاك، كما قال أحدهم:
أَشَدُّ من السّقم الذي يُذهِب السّقما

وقول الشاعر:
كَفَى بِكَ دَاءً أنْ تَرَى الموْتَ شَافِيًا ** وحَسْبُ المنَايَا أنْ يكُنَّ أَمَانِيَا

فلما كانت المسألةُ أكبر منه وفوق احتماله نادى يا ويلتي احضري، فهذا أوانك لتُخلِّصيني مما أنا فيه من العذاب.
وقوله: {لَيْتَنِي} [الفرقان: 28] تَمَنٍّ، والتمنّي طلب أمر محبوب لا سبيلَ إلى حصوله، كما قال الشاعر في التمني:
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو لِي فَأَنظِمَهَا ** عُقودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لكُمْ كَلمِي

وهذا أمر لا يمكن أنْ يُنال.