فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته؟.
قيل: في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه، وقد بيّنا وجه الحكمة في ذلك.
وقد قيل: إن قوله: {كَذَلِكَ} من كلام المشركين، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على {كَذَلِكَ} ثم يبتدىء {لِنُثْبِّتَ بِهِ فُوَادَكَ}.
ويجوز أن يكون الوقف على قوله: {جُمْلَةً وَاحِدَةً} ثم يبتدىء {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُوَادَكَ} على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرّقا لنثبت به فؤادك.
قال ابن الأنباري: والوجه الأوّل أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدّثنا محمد بن عثمان الشيبي قال: حدّثنا مِنجاب قال: حدّثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] قال: أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة.
قال: فهو قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] يعني نجوم القرآن {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 76 77].
قال: فلما لم ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فقال الله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} يا محمد.
{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} يقول: ورسَّلناه ترسيلا؛ يقول: شيئًا بعد شيء.
{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت.
قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوّة؛ لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبيّ، فكان ذلك تثبيتًا لفؤاده وأفئدتهم، ويدلّ على هذا {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وعِلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقًا، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقتٍ بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك؛ فمحال أن ينزل جملة واحِدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا.
قال النحاس: والأولى أن يكون التمام {جُمْلَةً وَاحِدَةً} لإنه إذا وقف على {كَذَلِكَ} صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدّم لها ذكر.
قال الضحاك: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي تفصيلًا.
والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلًا؛ فحذف لعلم السامع.
وقيل: كان المشركون يستمدّون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل، فكان ما يأتي به النبيّ صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرًا مما عندهم؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} [البقرة: 42].
وقيل: {لاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب {إِلاَّ جئناك بالحق} أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم.
قوله تعالى: {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} تقدّم في {سبحان}.
{أولئك شَرٌّ مَّكَانًا} لأنهم في جهنم.
وقال مقاتل: قال الكفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق؛ فنزلت الآية.
{وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي دينًا وطريقًا.
ونظم الآية: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقالوا أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق.
قال الزمخشري: {نزل} هاهنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلاّ كان متدافعًا انتهى.
وإنما قال أن {نزل} بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو.
وقوله: {جملة واحدة} وقد قررنا أنا {نزل} لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة.
وقد بيّنا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا: لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل.
وقيل: قائلو ذلك اليهود وهذا قول لا طائل تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقًا بل الإعجاز في نزوله مفرقًا أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه، فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا والمشار إليه غير مذكور.
فقيل: هو من كلام الكفار وأشاروا إلى التوراة والإنجيل أي تنزيلًا مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ويبقى {لنثبت به فؤادك} تعليلًا لمحذوف أي فرقناه في أوقات {لنثبت به فؤادك}.
وقيل: هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم، ولما تضمن كلامهم معنى لمَ أُنْزِلَ مفرقًا أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي {كذلك} أنزل مفرقًا.
قال الزمخشري: والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئًا بعد شيء، وجزأ عقيب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليه السلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى عليهم السلام حيث كان أميًا لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجمًا في عشرين سنة.
وقيل: في ثلاث وعشرين سنة وأيضًا فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرقًا انتهى.
واللام في {لنثبت به} لام العلة.
وقال أبو حاتم: هي لام القسم والتقدير والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى.
وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح.
وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله {ورتلناه} أي فصلناه.
وقيل: بيناه.
وقيل: فسرناه.
{ولا يأتونك بمثل} يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بيانًا وتفصيلًا.
وقال الزمخشري: {ولا يأتونك بمثل} بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم.
ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل معناه كذا أو {ولا يأتونك} بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذه صفتك وحالك نحو إن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليك القرآن جملة إلاّ أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفًا لما بعثت عليه ودلالة على صحته انتهى.
وقيل: {ولا يأتونك} بشبهة في إبطال أمرك إلاّ جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ، والمفضل عليه محذوف أي {وأحسن تفسيرًا} من مثلهم ومثلهم قولهم {لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة}.
و{الذين يحشرون}.
قال الكرماني: متصل بقوله: {أصحاب الجنة يومئذ} الآية.
قيل: ويجوز أن يكون متصلًا بقوله: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين} انتهى.
والذي يظهر أنهم لم اعترضوا في حديث القرآن وإنزاله مفرقًا كان في ضمن كلامهم أنهم ذوو رشد وخير، وأنهم على طريق مستقيم ولذلك اعترضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم {شر مكانًا وأضل سبيلًا} والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه.
وفي الحديث «إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم» وهذا قول الجمهور.
وقيل: هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي.
وقيل: هو من قول العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب.
ويقال: مضى على وجهه إذا أسرع متوجهًا لقصده و{شر} و{أضل} ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل.
وقوله: {شر مكانًا} أي مستقرًا وهو مقابل لقوله: {خير مستقرًا} ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر.
وأعربوا {الذين} مبتدأ والجملة من {أولئك} في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون {الذين} خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعادًا لهم وتسميعًا بما يؤول إليه حالهم هم {الذين يحشرون} ثم استأنف إخبارًا أخبر عنهم فقال: {أولئك شر مكانًا} اهـ. البحر المحيط حـ6 صـ.
وقال أبو السعود:
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ}.
حكايةً لاقتراحِهم الخاصِّ بالقُرآن الكريمِ بعد حكايةِ اقتراحِهم في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والقائلون هم القائلونَ أوَّلًا وإيرادُهم بعُنوانِ الكفرِ لذمِّهم به والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان} التَّنزيلُ هاهنا مجرَّدٌ عن مَعْنى التَّدريجِ كما في قولِه تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} ويجوز أنْ يرادَ به الدِّلالةُ على كثرةِ المُنزَّلِ في نفسِه أي هلاَّ أُنزل كلُّه {جُمْلَةً واحدة} كالكتب الثَّلاثةِ. وبُطلان هذه الكلمةِ الحمقاءِ ممَّا لا يكادُ يخفى على أحدٍ فإنَّ الكتبَ المتقدِّمةَ لم يكُن شاهدَ صحَّتِها ودليلَ كونَها من عندِ الله تعالى إعجازُها، وأمَّا القرآنُ الكريمُ فبيِّنةُ صحَّتِه وآيةُ كونِه من عند الله تعالى نظمُه المعجزُ الباقي على مرِّ الدّهورِ المتحقِّقُ في كلِّ جُزءٍ من أجزائِه المقدَّرةِ بمقدار أقصرِ السُّورِ حسبما وقع به التَّحدِّي ولا ريبَ في أنَّ ما يدور عليه فَلَكُ الإعجاز هو المطابقةُ لما تقتضيه الأحوالُ ومن ضرورة تغيّرِها وتجدُّدها تغيُّر ما يُطابقها حتمًا على أنَّ فيه فوائدَ جمَّةً قد أُشير إلى بعضٍ منه بقوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} فإنَّه استئناف واردٌ من جهته تعالى لردِّ مقالتهم الباطلة وبيانِ الحكمة في التَّنزيلِ التَّدريجيِّ. ومحلُّ الكافِ النَّصبُ على أنَّها صفة لمصدرٍ مؤكِّدٍ لمضمر معلَّلٍ بما بعده وذلك إشارة إلى ما يُفهم من كلامِهم أي مثلَ ذلك التَّنزيلِ المُفرَّق الذي قدحُوا فيه واقترحوا خلافَة نزَّلناه لا تنزيلا مُغايرًا له لنقويَ بذلك التَّنزيلِ المفرَّقِ فؤادَك فإنَّ فيه تيسيرًا لحفظِ النَّظمِ وفهم المعانِي وضبطِ الأحكامِ والوقوفِ على تفاصيلِ ما رُوعي فيها من الحِكَمِ والمصالحِ المبنيَّةِ المُناسبة عل أنَّها منوطةٌ بأسبابها الدَّاعيةِ إلى شَرعها ابتداءً أو تبديلًا بالنَّسخِ من أحوال المكلَّفينَ وكذلك عامة ما ورد في القرآنِ المجيدِ من الأخبار وغيرِها متعلِّقةٌ بأمورٍ حادثةٍ من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجدُّدِها تجددُ ما يتعلَّقُ بها كالاقتراحاتِ الواقعة من الكَفَرة الدَّاعيةِ إلى حكايتِها وإبطالِها وبيانِ ما يؤول إلي حالُهم في الآخرِة على أنَّهم في هذا الاقتراح كالباحثِ عن حَتْفِه بظلفِه حيثُ أُمروا بالاتيان بمثل نَوبةٍ من نُوبِ التَّنزيل فظهرَ عجزُهم عن المعارضةِ وضاقتْ عليهم الارضُ بما رَحُبتْ فكيف لو تُحدُّوا بكلِّه وقوله تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} عطفٌ على ذلك المُضمر، وتنكيرُ ترتيلًا للتَّفخيمِ أي كذلك نزَّلناهُ ورتلناهُ تَرتْيلا بديعًا لا يُقادرُ قَدرُه ومعنى ترتيلهِ تفريقُه آيةً بعدَ آيةٍ قالَه النَّخعيُّ والحسنُ وقَتَادةُ.