فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)}.
لما جرى الوعيد والتسلية بذكر حال المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام عطف على ذلك تمثيلهم بالأمم المكذبين رسلهم ليحصل من ذلك موعظة هؤلاء وزيادة تسلية الرسول والتعريض بوعده بالانتصار له.
وابتدىء بذكر موسى وقومه لأنه أقرب زمنًا من الذين ذكروا بعدَه ولأن بقايا شرعه وأمته لم تزل معروفة عند العرب، فإن صح ما روي أن الذين قالوا: {لولا نُزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] اليهود، فوجه الابتداء بذكر ما أوتي موسى أظهر.
وحرف التحقيق ولام القسم لتأكيد الخبر باعتبار ما يشتمل عليه من الوعيد بتدميرهم.
وأريد بالكتاب الوحي الذي يكتب ويحفظ وذلك من أول ما ابتدىء بوحْيه إليه، وليس المراد بالكتاب الألواحَ لأن إيتاءه الألواح كان بعد زمن قوله: {اذهبا إلى القوم}، فقوله: {فقلنا اذهبا} مفرع عن إيتاء الكتاب، فالإيتاء متقدم عليه.
وفي وصف الوحي بالكتاب تعريض بجهالة المشركين القائلين {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32]، فإن الكُتب التي أوتيها الرسل ما كانت إلا وَحيًا نزل منجّمًا فجمعه الرسل وكتبه أتباعهم.
والتعرض هنا إلى تأييد موسى بهارون تعريض بالرد على المشركين إذ قالوا {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا} [الفرقان: 7] فإن موسى لما اقتضت الحكمة تأييده لم يؤيد بملك ولكنه أيّد برسول مثله.
والوزير: المؤازر وهو المعاون المظاهر، مشتق من الأزْر وهو القوة.
وأصل الأزر: شدّ الظهر بإزارٍ عند الإقبال على عمل ذي تعب، وقد تقدم في سورة طَه.
وكان هارون رسولًا ثانيًا ومُوسى هو الأصل.
والقوم هم قبط مصر قوم فرعون.
و{الذين كذبوا بآياتنا} وصف للقوم وليس هو من المقول لموسى وهارون لأن التكذيب حينئذ لمّا يقع منهم، ولكنه وصف لإفادة قُراء القرآن أن موسى وهارون بلَّغا الرسالة وأظهر الله منهما الآيات فكذب بها قوم فرعون فاستحقوا التدمير تعريضًا بالمشركين في تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم وتمهيدًا للتفريع ب {دمرناهم تدميرًا} الذي هو المقصود من الموعظة والتسلية.
والموصول في قوله: {الذين كذبوا بآياتنا} للإيماء إلى علة الخبر عنهم بالتدمير.
وقد حصل بهذا النظم إيجاز عجيب اختصرت به القصة فذكر منها حاشيتاها: أولُها وآخرها لأنهما المقصود بالقصة وهو استحقاق الأمم التدمير بتكذيبهم رسلهم.
والتدمير: الإهلاك، والهَلاك: دُمور.
وإتباع الفعل بالمفعول المطلق لما في تنكير المصدر من تعظيم التدمير وهو الإغراق في اليَمّ.
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)}.
عطف على جملة {ولقد آتينا موسى الكتاب} [الفرقان: 35] باعتبار أن المقصود وصف قومه بالتكذيب والإخبار عنهم بالتدمير.
وانتصب {قوم نوح} بفعل محذوف يفسره {أغرقناهم} على طريقة الاشتغال، ولا يضر الفصل بكلمة {لمّا} لأنها كالظرف، وجوابها محذوف دل عليه مفسر الفعل المحذوف، وفي هذا النظم اهتمام بقوم نوح لأن حالهم هو محل العبرة فقدم ذكرهم ثم أُكّد بضميرهم.
ويجوز أن يكون {وقوم نوح} عطفًا على ضمير النصب في قوله: {فدمرناهم} [الفرقان: 36] أي ودمرنا قوم نوح، وتكون جملة {لما كذبوا الرسل أغرقناهم} مبيِّنة لجملة {دمَّرناهم}.
والآية: الدليل، أي جعلناهم دليلًا على مصير الذين يكذبون رسلهم.
وجعلهم آية: هو تواتر خبرهم بالغرق آية.
وجعل قوم نوح مكذِّبين الرسل مع أنهم كذّبوا رسولًا واحدًا لأنهم استندوا في تكذيبهم رسولهم إلى إحالة أن يرسل الله بشرًا لأنهم قالوا: {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [المؤمنون: 24] فكان تكذيبهم مستلزمًا تكذيب عموم الرسل، ولأنهم أول من كذَّب رسولهم، فكانوا قدوة للمكذبين من بعدهم.
وقصة قوم نوح تقدمت في سورة الأعراف وسورة هود.
وجملة {وأعتدنا للظالمين عذابًا أليمًا} عطف على {أغرقناهم}.
والمعنى: عذبناهم في الدنيا بالغرق وأعتدنا لهم عذابًا أليمًا في الآخرة.
ووقع الإظهار في مقام الإضمار فقيل {للظالمين} عوضًا عن: أعتدنا لهم، لإفادة أن عذابهم جزاء على ظلمهم بالشرك وتكذيب الرسول.
{وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)}.
انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه {تبرنا}.
وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها.
ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله: {فدمرناهم تدميرًا} [الفرقان: 36].
وتنوين {عادًا وثمودًا} مع أن المراد الامتان.
فأما تنوين {عادًا} فهو وجه وجيه لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغيرُ زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف.
وأما صَرْف {ثمودًا} في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع {عَادًا} كما قال تعالى: {سَلاَسِلًا وأَغْلاَلًا وسعيرًا} [الإنسان: 4].
وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي.
وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف.
وأما {أصحاب الرسّ} فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرسّ بئر عظيمة أو حفير كبير.
ولما كان اسمًا لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب.
قال زهير:
بكَرْنَ بُكُورًا واستحرْنَ بسَحرة ** فهنّ ووادِي الرسّ كاليد للفم

وسمّوا بالرّسّ ما عرفوه من بلاد فارس، وإضافة {أصحاب} إلى {الرس} إما لأنهم أصابهم الخسف في رسّ، وإما لأنهم نازلون على رسّ، وإما لأنهم احتفروا رسًّا، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدّوه وأضرموه.
والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى فَلَجا.
واختلف في المعنيّ من {أصحاب الرس} في هذه الآية فقيل هم قوم من بقايا ثمود.
وقال السهيلي: هم قوم كانوا في عَدن أُرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولًا.
وكانت العنقاء وهي طائر أعظم ما يكون من الطير سميت العنقاء لطول عنقها وكانت تسكن في جبل يقال له فتح، وكانت تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق.
وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيئهم فأهلكهم الله.
قال وهب بن منبه: خسف بهم وبديارهم.
وقيل: هم قوم شعيب.
وقيل: قوم كانوا مع قوم شعيب، وقال مقاتل والسدّي: الرسّ بئر بأنطاكية، وأصحاب الرسّ أهل أنطاكية بُعث إليهم حبيب النجّار فقتلوه ورسُّوه في بئر وهو المذكور في سورة يس (20) {وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} الآيات.
وقيل: الرس وادٍ في أذربيجان في أرَّان يخرج من قاليقَلا ويصب في بحيرة جُرجان ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية.
ولعله من تشابه الأسماء يقال: كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف، وقيل غير ذلك مما هو أبعد.
والقرون: الأمم فإن القرن يطلق على الأمة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} في أول الأنعام (6).
وفي الحديث: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث.
والإشارة في قوله: {بين ذلك} إلى المذكور من الأمم.
ومعنى {بين ذلك} أن أُمَمًا تخللت تلك الأقوام ابتداءً من قوم نوح.
وفي هذه الآية إيذان بطوللِ مُدَد هذه القرون وكثرتها.
والتنوين في {كُلًا} تنوين عوض عن المضاف إليه.
والتقدير: وكلَّهم ضربنا له الأمثال وانتصب {كُلاّ} الأول بإضمار فعل يدل عليه {ضربنا له} تقديره: خاطبنا أو حذَّرنا كُلًا وضربنا له الأمثال، وانتصب {كُلًا} الثاني بإضمار فعل يدل عليه {تبرنا} وكلاهما من قبيل الاشتغال.
والتتبير: التفتيت للأجسام الصلبة كالزجَاج والحديد.
أطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعيةً في {تبرنا} وأصلية في {تتبيرًا}، وتقدم في قوله تعالى: {إن هؤلاء متبّر ما هم فيه} في سورة الأعراف (139)، وقوله: {وليُتَبِّروا ما علَوْا تتبيرًا} في سورة الإسراء (7).
وانتصب {تتبيرًا} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك.
ومعنى ضرب الأمثال: قولها وتبيينها وتقدم عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما} في سورة البقرة (26).
والمَثَل: النظير والمشابه، أي بيّنا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا حال أنفسهم عليها.
قال تعالى: {وسَكَنْتُم في مَساكِن الذين ظَلَموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعَلْنا بهم وضربنا لكم الأمثال} [إبراهيم: 45].
{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)}.
لما كان سَوْق خبر قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرسّ وما بينهما من القرون مقصودًا لاعتبار قريش بمصائرهم نُقِل نَظْم الكلام هنا إلى إضاعتهم الاعتبار بذلك وبما هو أظهر منه لأنظارهم، وهو آثار العذاب الذي نَزل بقرية قوم لوط.
واقتران الخبر بلام القسم لإفادة معنى التعجيب من عدم اعتبارهم كما تقدم في قوله: {لقد استكبروا في أنفسهم} [الفرقان: 21].
وكانت قريش يمرّون بديار قوم لوط في أسفارهم للتجارة إلى الشام فكانت ديارهم يمرّ بها طريقهم قال تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحِين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138].
وكان طريق تجارتهم من مكة على المدينة ويدخلون أرض فلسطين فيمرّون حذو بحيرة لوط التي على شافتها بقايا مدينة سدوم ومعظمها غمرها الماء.
وتقدم ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وإنهما لبإماممٍ مُبين} في سورة الحجر (79).
والإتيان: المجيء.
وتعديته ب {على} لتضمينه معنى: مرّوا، لأن المقصود من التذكير بمجيء القرية التذكير بمصير أهلها فكأنّ مجيئهم إياها مرور بأهلها، فضمّن المجيء معنى المرور لأنه يشبه المرور، فإن المرور يتعلق بالسكان والمجيءَ يتعلق بالمكان فيقال: جئنا خراسان، ولا يقال: مررنا بخراسان.