فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)}.
كان ما تقدمت حكايته من صنوف أذاهُم الرسولَ عليه الصلاة والسلام أقوالًا في مغيبه، فعُطف عليها في هذه الآية أذى خاص وهو الأذى حين يرونه.
وهذا صنف من الأذى تبعثهم إليه مشاهدة الرسول في غير زيّ الكبراء والمترَفين لا يجرّ المطارف ولا يركب النجائب ولا يمشي مرحًا ولا ينظر خُيلاء ويجالس الصالحين ويُعرض عن المشركين، ويرفق بالضعفاء ويواصل الفقراء، وأولئك يستخفون بالخلُق الحسن، لما غلب على آرائهم من أفَن، لذلك لم يخل حاله عندهم من الاستهزاء به إذا رَأوه بأن حاله ليست حال من يختاره الله لرسالته دونَهم، ولا هو أهل لقيادتهم وسياستهم.
وهذا الكلام صدر من أبي جهل وأهل ناديه.
و{إذا} ظرف زمان مضمَّن معنى الشرط فلذلك يجعل متعلَّقه جوابًا له.
فجملة {إن يتخذونك إلا هزؤًا} جوابُ {إذا}.
والهُزُؤ بضمتين: مصدر هزأ به.
وتقدم في قوله تعالى: {قالوا أتَتّخِذُنا هُزوءًا} في سورة البقرة (67).
والوصف للمبالغة في استهزائهم به حتى كأنه نفس الهُزؤ لأنهم محَّضوه لذلك، وإسناد {يتخذونك} إلى ضمير الجمع للدلالة على أن جماعاتهم يستهزئون به إذا رأوه وهم في مجالسهم ومنتدياتهم.
وصيغة الحصر للتشنيع عليهم بأنهم انحصر اتخاذُهم إياه في الاستهزاء به يلازمونه ويدْأبون عليه ولا يخلطون معه شيئًا من تذكر أقواله ودعوته، فالاستثناء من عموم الأحوال المنفية، أي لا يتخذونك في حالة إلا في حالة الاستهزاء.
وجملة {أهذا الذي بعث الله رسولًا} بيان لجملة {إن يتخذونك إلا هزؤًا} لأن الاستهزاء من قبيل القول فكان بيانه بما هو من أقوالهم ومجاذَبتهم الأحاديث بينهم.
والاستفهام إنكار لأن يكون بعثَه الله رسولًا.
واسم الإشارة مستعمل في الاستصغار كما علمت في أول تفسير هذه الآية.
والمعنى: إنكار أن يكون المشار إليه رسولًا لأن في الإشارة إليه ما يكفي للقطع بانتفاء أنه رسول الله في زعمهم، وقد تقدم قريب من هذه الجملة في قوله تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هُزؤًا أهذا الذي يذكر آلهتكم} في سورة الأنبياء (36)، سوى أن الاستفهام هنالك تعجبي فانظره.
أما قولهم: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} فالمقصود منه تفاخرهم بتصلبهم في دينهم وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح فكان تَأثر أسماعِهم بأقواله يُوشك بهم أن يرفضوا عبادة الأصنام لولا أنهم تريَّثوا، فكان في الريث أن أفاقوا من غِشاوة أقواله وخلابة استدلاله واستبصروا مرآة فانجلى لهم أنه لا يستأهل أن يكون مبعوثًا من عند الله، فقد جمعوا من كلامهم بين تزييف حجته وتنويه ثباتهم في مقام يَستفز غير الراسخين في الكفر.
وهذا الكلام مشوب بفَسادِ الوضع ومؤلف على طرائق الدهماء إذ يتكلمون كما يشتهون ويستبلهون السامعين.
ومن خلابة المغالطة إسنادهم مقاربة الإضلال إلى الرسول دون أنفسهم ترفعًا على أن يكونوا قاربوا الضلال عن آلهتهم مع أن مقاربته إضلالَهم تستلزم اقترابهم من الضلال.
و{إنْ} مخفَّفَة من {إنّ} المشددة، والأكثر في الكلام إهمالها، أي ترك عملها نصبَ الاسم ورفعَ الخبر، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو من أخوات ظنّ وهذا من غرائب الاستعمال.
ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في أنّ المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيدًا.
وفي كلام صاحب الكشاف ما يشهد له في تفسير قوله تعالى: {وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين} في سورة آل عمران (164)، والجملة بعدها مستأنفة، واللاّم في قوله: {لَيُضِلّنا} هي الفارقة بين إنْ المحققة وبين إنْ النافية.
والصبر: الاستمرار على ما يشق عمله على النفس.
ويعدّى فعله بحرف على لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه.
و{لولا} حرف امتناع لوجود، أي امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جوابًا لشرطها، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل {لولا} عليه، وهو {إن كاد ليضلنا}.
وفائدة نسج الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتى بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يؤتى بالشرط بعده تقييدًا لإطلاق الخبر فالصناعة النحوية تعتبر المقدَّم دليلَ الجواب، والجواب محذوفًا لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب، فأما أهل البلاغة فيعتبرون ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه، ولذا قال في الكشاف: {لولا} في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى: {لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} إلى قوله: {إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي} [الممتحنة: 1] فإن قوله: {إن كنتم} قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداءِ الله.
وتأخير الشرط ليَظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب.
قال في الكشاف: {إن كنتم خرجتم} متعلق ب {لا تتخذوا} يعني: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
وقولُ النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. اهـ.
وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جوابًا للشرط تقديمًا لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93].
هذا جواب قولهم {إن كاد لَيُضِلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} المتضمن أنهم على هدى في دينهم، وكان الجواب بقطع مُجادلتهم وإحالتهم على حين رؤيتهم العذاب ينزل بهم، فتضمن ذلك وعيدًا بعذاب.
والأظهر أن المراد عذاب السيف النازل بهم يوم بدر، وممن رآه أبو جهل سيّد أهل الوادي، وزعيم القالة في ذلك النادي.
ولما كان الجواب بالإعراض عن المحاجّة ارتكب فيه أسلوب التهكم بجعل ما ينكشف عنه المستقبل هو معرفة من هو أشد ضلالًا من الفريقين على طريقة المجاراة وإرخاء العنان للمخطىءِ إلى أن يقف على خطئه وقد قال أبو جهل يوم بدر وهو مثخَّن بالجراح في حالة النزع لما قال له عبد الله بن مسعود: أنتَ أبو جهل؟ فقال: وهَل أعمد من رجل قتله قومه.
و{مَن} الاستفهامية أوجبت تعليق فعل {يعلمون} عن العمل.
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)}.
استئناف خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخطر بنفسه من الحزن على تكرر إعراضهم عن دعوته إذ كان حريصًا على هداهم والإلحاح في دعوتهم، فأعلمه بأن مثلهم لا يرجى اهتداؤه لأنهم جعلوا هواهم إلههم، فالخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم.
وفعل {اتخذ} يتعدى إلى مفعولين وهو من أفعال التصيير الملحقة بأفعال الظن في العمل، وهو إلى باب كَسا وأعطى أقرب منه إلى باب ظنّ، فإن {اتخذ} معناه صيّر شيئًا إلى حالة غير ما كان عليه أو إلى صورة أخرى.
والأصل فيه أن مفعوله الأول هو الذي أدخل عليه التغيير إلى حال المفعول الثاني فكان الحق أن لا يقدم مفعوله الثاني على مفعوله الأول إلا إذا لم يكن في الكلام لبس يلتبس فيه المعنى فلا يدري أي المفعولين وقع تغييره إلى مدلول المفعول الآخر، أو كان المعنى الحاصل من التقديم مساويًا للمعنى الحاصل من الترتيب في كونه مرادًا للمتكلم.
فقوله تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} إذا أجري على الترتيب كان معناه جعل إلهه الشيء الذي يهوى عبادته، أي ما يُحب أن يكون إلهًا له، أي لمجرد الشهوة لا لأن إلهه مستحق للإلهية، فالمعنى: من اتخذ ربًا له محبوبه فإن الذين عبدوا الأصنام كانت شهوتهم في أن يعبدوها وليست لهم حجة على استحقاقها العبادة.
فإطلاق {إلهه} على هذا الوجه إطلاق حقيقي.
وهذا يناسب قوله قبله {إن كاد لَيُضِلُّنا عن آلهتنا} [الفرقان: 42]، ومعناه منقول عن سعيد بن جبير.
واختاره ابن عرفة في تفسيره وجزم بأنه الصواب دون غيره وليس جزمه بذلك بوجيه وقد بحث معه بعض طلبته.
وإذا أجري على اعتبار تقديم المفعول الثاني كان المعنى: من اتخذ هواه قُدوة له في أعماله لا يأتي عملًا إلا إذا كان وفاقًا لشهوته فكأنَّ هواهُ إلهه.
وعلى هذا يكون معنى {إلهه} شبيهًا بإلهه في إطاعته على طريقة التشبيه البليغ.
وهذا المعنى أشمل في الذم لأنه يشمل عبادتهم الأصنام ويشمل غير ذلك من المنكرات والفواحش من أفعالهم.
ونحا إليه ابن عباس، وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف وابن عطية.
وكلا المعنيين ينبغي أن يكون محملًا للآية.
واعلم أنه إن كان مجموع جملتي {أرأيتَ من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلًا} كلامًا واحدًا متصلًا ثانيه بأوله اتصال المفعول بعامله، تعين فعل رأيت لأن يكون فعلًا قلبيًا بمعنى العلم وكان الاستفهام الذي في الجملة الأولى بقوله: {أرأيت} إنكاريًا كالثاني في قوله: {أفأنت تكون عليه وكيلًا} وكان مجموع الجملتين كلامًا على طريقة الإجمال ثم التفصيل.
والمعنى: أرأيتَك تكون وكيلًا على من اتخذ إلهه هواه، وتكون الفاء في قوله: {أفأنت} فاء الجواب للموصول لمعاملته معاملة الشرط، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للاستفهام الأول كقوله.
{أئذا كنا عظامًا ورفاتًا إنَّا لمبعوثون} [الإسراء: 49] على قراءة إعادة همزة الاستفهام، وتكون جملة {أفأنت تكون عليه وكيلًا} عوضًا عن المفعول الثاني لفعل {أرأيت}، والفعل معلق عن العمل فيه بسبب الاستفهام على نحو قوله تعالى: {أفمن حَقّ عليه كلمةُ العذاب أفأنت تُنقذ من في النار} [الزمر: 19] وعليه لا يوقف على قوله: {هواه} بل يوصل الكلام.
وهذا النظم هو الذي مشى عليه كلام الكشاف.
وإن كانت كل جملة من الجملتين مستقلةً عن الأخرى في نظْم الكلام كان الاستفهام الذي في الجملة الأولى مستعملًا في التعجيب من حال الذين اتخذوا إلههم هواهم تعجيبًا مشوبًا بالإنكار، وكانت الفاء في الجملة الثانية للتفريع على ذلك التعجيب والإنكار، وكان الاستفهام الذي في الجملة الثانية من قوله: {أفأنت تكون عليه وكيلًا} إنكاريًا بمعنى: إنك لا تستطيع قلعه عن ضلاله كما أشار إليه قوله قبله {من أضل سبيلًا} [الفرقان: 42].
و{مَن} صادقة على الجمع المتحدث عنه في قوله: {وسوف يعلمون حين يَرون العذاب} [الفرقان: 42] وروعي في ضمائر الصلة لفظ {مَن} فأُفردت الضمائر.
والمعنى: من اتخذوا هواهم إلهًا لهم أو من اتخذوا آلهة لأجل هواهم.
وإله جنس يصدق بعدة آلهة إن أريد معنى اتخذوا آلهة لأجل هواهم.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {أنت تكون عليه وكيلًا} للتقوِّي إشارة إلى إنكار ما حَمَّل الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه من الحرص والحزن في طلب إقلاعهم عن الهوى كقوله تعالى: {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99].
والمعنى: تكون وكيلًا عليه في حال إيمانه بحيث لا تفارق إعادة دعوته إلى الإيمان حتى تلجئه إليه.
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}.
انتقال عن التأييس من اهتدائهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذاب مَن أضلّ سبيلًا} [الفرقان: 42]، ف {أم} منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار إلى إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها.
والتقدير: أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون.
والمراد من نفي {أن أكثرهم يسمعون} نفي أثر السماع وهو فهم الحق لأن ما يلقيه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يَرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه.
وهذا كقوله تعالى: {ولا تُسمع الصُّمَّ الدعاء إذا ولَّوْا مدبرين} [النمل: 80].
وعطف {أو يعقلون} على {يسمعون} لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات قال تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101].
وإنما نُفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم، لأن هذا حال دهمائهم ومقلِّديهم، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حبّ الرئاسة وأَنِفوا من أن يعودوا أتباعًا للنبيء صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مِثل عمار، وبلال.
وجملة {إن هم إلا كالأنعام} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن ما تقدم من إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالًا عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم، فكان تشبيههم بالأنعام تبيينًا للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوة آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول أبي الطيب:
فإن تَفُق الأنام وأنت منهم ** فإن المسك بعض دم الغزال

وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير {يسمعون}.
وانتُقل في صفة حالهم إلى ما هو أشدّ من حال الأنعام بأنهم أضلّ سبيلًا من الأنعام.
وضَلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رُعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئًا من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا كقوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإن من الحجارة لَمَا يتفجر منه الأنهار} [البقرة: 74] الآية. اهـ.