فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)}.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أرأيت من اتخذ إلهه هواه: أي مهما استحسن من شيء ورآه حسنًا في هوى نفسه كان دينه، ومذهبه إلى أن قال: قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانًا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول. اه منه.
وذكر صاحب الدر المنثور: أن ابن أبي حاتم وابن مردويه أخرجا عن ابن عباس أن عبادة الكافر للحجر الثاني مكان الأول: هي سبب نزول هذه الآية، ثم قال صاحب الدر المثنور: وأخرج ابن مردويه عن أبي رجاء العطاردي، قال: كانوا في الجاهلية يأكلون الدم بالعلهز ويعبدون الحجر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، رموا به وعبدوا الآخر، فإذا فقدوا الآخر أمروا مناديًا فنادى: أيها الناس إن إلهكم قد ضل فالتمسوه، فأنزل الله هذه الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} قال: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}. قال: لا يهوى شيئًا إلا تبعه.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} قال: كل ما هوى شيئًا ركبه، وكل ما اشتهى أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع، ولا تقوى.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قيل له أفيّ أهل القبلة شرك؟ قال: نعم المنافق مشرك، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله، وإن المنافق عبد هواه ثم تلا هذه الآية الكريمة: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}.
وأخرج الطبرانين عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع» انتهى محل الغرض من كلام صاحب الدر المنثور.
وإيضاح أقوال العلماء المذكورة في هذه الآية: أن الواجب الذي يلزم العمل به، هو أن يكون جميع أفعال المكلف مطابقة لما أمره به معبوده جل وعلا، فإذا كانت جميع أفعاله تابعة لما يهواه، فقد صرف جميع ما يستحقه عليه خالقه من العبادة والطاعة إلى هواه، وإذن فكونه اتخذ إلهه هواه في غاية الوضوح.
وإذا علمت هذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، فاعلم أن الله جل وعلا بينه في غير هذا الموضع في قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}.
[الجاثية: 23] الآية، وقوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} استفهام إنكار فيه معنى النفي.
والمعنى: أن من أضله الله فاتخذ الهه هواه، لا تكون أنت عليه وكيلًا أي حفيظًا تهديه، وتصرف عنه الضلال الذي قدره الله عليه، لأن الهدى بيد الله وحده لا بيدك، والذي عليك إنما هو البلاغ، وقد بلغت.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] الآية، وقوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [النحل: 37] الآية. وقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار} [الزمر: 19]، وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [يونس: 99100] الآية، وقوله تعالى في آية الجاثية المذكورة آنفًا أيضًا {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} [الجاثية: 23] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند الله تعالى.
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}.
أم في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة وأشهر معانيها أنها جامعة بين معنى بل الإضرابية، واستفهام الإنكار معًا، والإضراب المدلول عليه بها هنا إضراب انتقالي:
والمعنى: بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون: أي لا تعتقد ذلك ولا تظنه، فإنهم لا يسمعون الحق ولا يعقلونه: أي لا يدركونه بعقولهم إن هم إلا كأنعام أي ما هم إلا كالأنعام، التي هي الإبل والبقر والغنم في عدم سماع الحق، وإدراكه، بل هم أضل من الأنعام: أي أبعد عن فهم الحق، وإدراكه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الأنعام؟
قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي. اهـ. منه.
وإذا علمت ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فاعلم أن الله بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179]، وقوله تعالى في البقرة: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)}.
{إنْ} نافية بمعنى: ما يتخذونك إلا هُزُوًا، ثم ذكر صيغة الاستهزاء: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولًا} [الفرقان: 41] وفي موضع آخر قالوا: {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36] كأنه صلى الله عليه وسلم دون هذه المنزلة، وما دام الرسول في نظرهم دون هذه المنزلة فإنهم يريدون شخصًا على مستوى المنزلة، كما قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
ومعنى هذا أنهم مؤمنون بضرورة وجود إله ورسول ومنهج، وكل اعتراضهم أن تكون الرسالة في محمد بالذات.
ثم تناقضون مع أنفسهم، فيقولون: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا}.
فكيف تستهزئون به وترَوْنه دون مستوى الرسالة، ثم تقولون إنه كاد أنْ يُضلكم عن آلهتكم يعني: قَرُبَ أنْ يُضلّكم عن آلهتكم، مع ما أنتم عليه من التعنّت والعناد؟ هذا دليل وشهادة لرسول الله أنه قويٌّ وأنه على مستوى الرسالة، وأنه لم يدخر وُسْعًا في دعوتكم، حتى كاد أنْ يصرفكم عن آلهتكم.
والدليل على أنهم كانوا يخافون من تأثير رسول الله عليهم قولهم لأتباعهم إذا رأوهم يستمعون للقرآن: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] إذن: يريدون أنْ يُشوِّشوا على القرآن لما يعلمون من تأثيره في النفوس، وهم أمة فصاحة وبلاغة، فإنْ سمعوا القرآن فلابد أن يُؤثّر في قلوبهم ويجذبهم إليه.
ألا ترى قصة إسلام عمر رضي الله عنه وكيف كان قبل الإسلام شديدًا جبارًا؟ فلما تهيأت له الفرصة فاستمع للقرآن وصادف منه ملَكةً سليمة وفطرة نقية، حيث أعاده حادث ضَرْبه لأخته وشَجِّه لها، أعاده إلى سلامة الفطرة والطويّة، فلما سمع منها القرآن وصادف منه قلبًا نقيًا وفطرة سليمة تأثر به، فأسرع إلى رسول الله يعلن إسلامه.
إذن: فقولكم: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان: 42] دليل على أنه كُفْء للمهمة التي بعث بها، وهذا يناقض قولكم سخريةً منه واستهزاءً: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولًا} [الفرقان: 41].
وقولهم: {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فعل معهم أفعالًا اقتضتْ منهم أنْ يصبروا على الضلال {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 42] سيعرفون ذلك، لكن بعد فوات الأوان، وبعد ألاَّ تنفعهم هذه المعرفة.
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)}.
الحق تبارك وتعالى يضع لرسوله صلى الله عليه وسلم قضية، هي أن الدين إنما جاء ليعصم الناس من أهواء الناس، فلكُلِّ نفس بشرية هَوىً، وكل إنسان يعجبه هواه، وما دام الأمر كذلك فلن ينقاد لغيره؛ لأن غيره أيضًا له هوىً؛ لذلك يقول تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71].
لكن، لماذا تختلف الأهواء؟ قالوا: لأن طبيعة الحياة تتطلب أن تكون الأهواءُ مختلفةً؛ لأن مجالات الحياة متعددة، فهذا هواه في كذا، وهذا هواه في كذا. فترى الصَّديقَيْن يلازم أحدهما الآخر، ويشاركه طعامه وشرابه، فلا يفرقهما شيء، فإذا ما ذهبا لشراء شيء ما تباينتْ أهواؤهما، كما أن هوىً مختلفًا يخدم هوىً مختلفًا، فالذين اختلفوا مثلًا في تصميم الأشياء يخدمون اختلاف الأذواق والأهواء، لذلك يقولون: خلاف هو عَيْن الوفاق، ووفاق هو عَيْن الخلاف.
وقد ضربنا لذلك مثلًا بسيطًا: هَبْ أنك دخلتَ مطعمًا، وأنت تفضل مثلًا ورك الدجاجة وغيرك كذلك يفضله، وصادف أن في المطعم وركًا واحدًا، فلا شكَّ أنكما ستختلفان عليه. إذن: اتفقتما في الأول لتختلفا في الآخر، لكن إن اختلفتْ رغباتكما، فسوف ينتج عن هذا الاختلاف اتفاقٌ في النهاية، فأنت ستأخذ الورك، وغيرك سيأخذ الصدر، فهذا إذن خلاف يؤدي إلى وفاق، ووفاق يؤدي إلى خلاف.