فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هنا يقول الحق سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الفرقان: 43] الهَوَى: أن تكون هناك قضية ظاهرٌ فيها وَجْه الحق، إلا أنك تميلُ عنه وأنت تعرفه، لا أنك تجهله.
لذلك يقول العلماء: آفةُ الرأْي الهوى. فالرأي قد يكون صائبًا، لكن يميل به الهوى حيث يريد الإنسان، وقلنا: لا أدلّ على ذلك من أن الرجل منهم كان يسير فيجد حجرًا أجمل من حَجره الذي يعبده، فيَلْقي الإله الذي يعبده ليأخذ هذا الذي هو أجمل منه فيتخذه إلهًا، إذن: هواه في جمال الحجر غلب أنه إله.
وقد وقف المستشرقون عند قوله تعالى في حَقِّ النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3].
يقولون: كيف يحكم الله بأن رسوله لم ينطق عن الهوى، وقد عدَّل له بعض ما نطق به، مثل قوله تعالى: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].
وقال تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ} [التوبة: 43].
ولابُدَّ أن نُحدِّد مفهوم الهوى أولًا: أنت مدرك أن لديه قضيتين: الحق واضح في إحداهما، إلا أن هواه يميل إلى غير الحق. إنه صلى الله عليه وسلم نطق لأنه لم تكن هناك قضية واقعة، وهو يعرف وجه الحق فيها، فهو إذن لم يَسِرْ على الهوى، إنما على ما انتهى إليه اجتهاده.
ألاَ ترى قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في مسألة تبنِّيه لزيد بن حارثة {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] فمعنى أن نسبته لأبيه أقسط أن رسول الله لم يكُنْ جائرًا، فما فعله قِسْط، لكن فِعْل الله أقسط منه.
فالحق تبارك وتعالى لم يُخطّىء رسوله صلى الله عليه وسلم، وسمّى فِعْله عدلًا، وهو عَدْل بشرى يناسب ما كان من تمسُّك زيد برسول الله، وتفضيله له على أهله، فلم يجد رسول الله أفضلَ من أنْ يتبنَّاه مكافأةً له.
ثم يقول سبحانه: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] وكيلًا يتولَّى توجيهه، ليترك هواه ويتبع الحق، كما قال سبحانه في موضع آخر: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وقال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} [الشورى: 48].
فالذي اتبع هواه حتى جعله إلهًا له لا يمكن أنْ تحمله على أنْ يعدل عن هواه؛ لأن الأهواء مختلفة، فالبعض يريد أنْ يتمتع بجهد غيره، فيضع يده في جيوب الآخرين ليسرقهم، لكن أيسرُّه أن يفعل الناسُ معه مثلَ فِعْله معهم؟ إذن: هوى صادمَ هوى، فأَيُّهما يغلب؟ يغلب مَنْ يحكم بلا هوى، لا لك ولا عليك، وقضية الحق في ذاتها لا توجد إلا من الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ}.
{يَسْمَعُونَ} [الفرقان: 44] أي: سماع تعقُّل وتدبُّر، فلو سَمعُوا وعَقِلوا ما وصلتْ بهم المسائل إلى هذا الحدِّ {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} [الفرقان: 44] مع أن الأنعام مُسخَّرة وتُؤدِّي مهمتها ولم تمتنع عن شيء خُلِقَتْ له، فقد شبَّههم الله بالأنعام؛ لأن الأنعام لا يُطلب منها أن تسمع الهداية لأنها مُسخَّرة، والذي يُطلب منه السماع والهداية هو المخيِّر بين أن يفعل أو لا يفعل.
كأن الحق سبحانه يقول: أتظن أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ وكلمة {أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان: 44] تدل على أن بعضهم يسمع ويعقل، وهذا من قانون الاحتمال، فكثير من كفار قريش ناصبوا رسول الله العداء، وانتهى الأمر بهم إلى أَنْ أسلموا وحَسُن إسلامهم، إذن: كان فيهم مَنْ يسمع، ومَنْ يفكر ويعقل؛ لذلك قال: {أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان: 44] ليحمي هذا الحكم، وليحتاط لما سيقع من إيمان هؤلاء البعض، هذا دِقَّة في تحرِّي الحقيقة.
وسبق أنْ ذكرنا ما كان من أسف المؤمنين حين يفوتهم قَتْل أحد صناديد الكفر في المعركة، فكانوا يألمون لذلك أشدَّ الألم، وهم لا يدرون أن حكمة الله كانت تدخرهم للإيمان فيما بعد، ومنهم خالد ابن الوليد الذي أصبح بعد ذلك سيف الله المسلول.
والأنعام قُلْنا: لا دخلَ لها في مسألة الهداية أو الضلال؛ لأنها مُسخَّرة لا اختيارَ لها؛ لذلك ضرب الله بها المثل لليهود: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] فالحمار مهمته أنْ يحمل فحسب، أمّا أنت أيها اليهودي فمهمتك أن تحمل وتطبق، الحمار لا يطبق؛ لأنه لم يُطلب منه ذلك، مع أن الحيوان يعرف صاحبه ويعرف طعامه ومكان شرابه، ويعرف طريقه ومكان مبيته، حتى أن أحدهم مات على ظهر جواده، فسار به الجواد إلى بيته.
إذن: فالأنعام تفهم وتعقل في حدود المهمة التي خلقها الله لها، ولا تُقصِّر في مهمتها، أما المهمة الدينية فتعلمها في باطن الأمر، لكن لا يُطلَب منها شيء الآن، لأنها انتهتْ من هذه المسألة أولًا، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]؟
فاختاروا أن يكونوا مُسيَّرين بالغريزة محكومين بها، إذن: فلهم اختيار، لكن نفّذوا اختيارهم جملةً واحدة من أول الأمر.
خُذْ مثلًا الهدهد وهو من المملوكات التي سخّرها الله لسليمان عليه السلام يقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] أيُّ ديمقراطية هذه التي تمتَّع بها الهدهد مع سليمان.؟! إذن: فحتى الحيوانات تعرف هذه القضية، وإنْ لم يُطلَب منها شيء، والحيوانات لا يمكن أنْ تفعل شيئًا إلا إذا كان منوطًا بغرائزها وفي مقدورها.
وسبق أنْ ضربنا مثلًا بالحمار إذا أردتَ منه أن يقفز فوق جدول ماء فإنه ينظر إليه، فإنْ كان في مقدوره قفزَ، وإنْ كان فوق مقدوره تراجَع، ولا يمكن أنْ يُقدِم مهما ضربته؛ لأنه علم بغريزته أنه فوق إمكاناته، أما الإنسان فقد يُقدِم على مثل هذا دون حساب للإمكانات، فيُوقع نفسه فيما لا تُحمد عقباه. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)}.
اللام في قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} جواب قسم محذوف، أي: والله لقد آتينا موسى التوراة، ذكر سبحانه طرفًا من قصص الأولين تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين بالله، وليس ذلك بخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم، و{هارون} عطف بيان ويجوز: أن ينصب على القطع، و{وَزِيرًا} المفعول الثاني.
وقيل: حال، والمفعول الثاني معه، والأوّل أولى.
قال الزجاج: الوزير في اللغة الذي يرجع إليه، ويعمل برأيه، والوزر ما يعتصم به، ومنه: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11].
وقد تقدّم تفسير الوزير في طه، والوزارة لا تنافي النبوة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضًا.
وقد كان هارون في أوّل الأمر وزيرًا لموسى، ولاشتراكهما في النبوّة قيل لهما: {اذهبا إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا}، وهم فرعون وقومه، والآيات هي التسع التي تقدم ذكرها، وإن لم يكونوا قد كذبوا بها عند أمر الله لموسى وهارون بالذهاب بل كان التكذيب بعد ذلك، لكن هذا الماضي بمعنى المستقبل على عادة إخبار الله أي: اذهبا إلى القوم الذين يكذبون بآياتنا.
وقيل: إنما وصفوا بالتكذيب عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا لعلة استحقاقهم للعذاب.
وقيل: يجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا.
وقيل: إن المراد بوصفهم بالتكذيب عند الإرسال: أنهم كانوا مكذبين للآيات الإلهية، وليس المراد آيات الرسالة.
قال القشيري: وقوله تعالى في موضع آخر: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] لا ينافي هذا لأنهما إذا كانا مأمورين، فكل واحد مأمور.
ويمكن أن يقال: إن تخصيص موسى بالخطاب في بعض المواطن لكونه الأصل في الرسالة، والجمع بينهما في الخطاب لكونهما مرسلين جميعًا {فدمرناهم تَدْمِيرًا} في الكلام حذف أي: فذهبا إليهم، فكذبوهما، فدمرناهم أي: أهلكناهم إثر ذلك التكذيب إهلاكًا عظيمًا.
وقيل: إن المراد بالتدمير هنا الحكم به، لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده بمدّة.
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أغرقناهم} في نصب {قوم} أقوال: العطف على الهاء، والميم في دمرناهم، أو النصب بفعل محذوف أي: اذكر، أو بفعل مضمر يفسره ما بعده، وهو أغرقناهم أي: أغرقنا قوم نوح أغرقناهم.
وقال الفراء: هو منصوب بأغرقناهم المذكور بعده من دون تقدير مضمر يفسره ما بعده.
وردّه النحاس: بأن أغرقنا لا يتعدّى إلى مفعولين حتى يعمل في الضمير المتصل به، وفي قوم نوح، ومعنى {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} أنهم كذبوا نوحًا، وكذبوا من قبله من رسل الله.
وقال الزجاج: من كذّب نبيًا فقد كذّب جميع الأنبياء، وكان إغراقهم بالطوفان كما تقدّم في هود {وجعلناهم لِلنَّاسِ ءَايَةً} أي: جعلنا إغراقهم، أو قصتهم للناس آية أي: عبرة لكل الناس على العموم يتعظ بها كل مشاهد لها، وسامع لخبرها {وَأَعْتَدْنَا للظالمين} المراد بالظالمين: قوم نوح على الخصوص.
ويجوز أن يكون المراد كل من سلك مسلكهم في التكذيب والعذاب الأليم: هو عذاب الآخرة، وانتصاب {عَادًا} بالعطف على قوم نوح، وقيل: على محل الظالمين، وقيل: على مفعول جعلناهم {وَثَمُود} معطوف على عادًا، وقصة عاد وثمود قد ذكرت فيما سبق {وأصحاب الرس} الرسّ في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رساس كذا قال أبو عبيدة، ومنه قول الشاعر:
وهم سائرون إلى أرضهم ** تنابلة يحفرون الرّساسا

قال السدّي: هي بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبًا النجار، فنسبوا إليها، وهو صاحب يس الذي قال: {يَاقَوْم اتبعوا المرسلين} [ياس: 20] وكذا قال مقاتل، وعكرمة، وغيرهما.
وقيل: هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياءهم، فجفت أشجارهم وزروعهم، فماتوا جوعًا وعطشًا.
وقيل: كانوا يعبدون الشجر، وقيل: كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيبًا، فكذبوه وآذوه.
وقيل: هم قوم أرسل الله إليهم نبيًا، فأكلوه، وقيل: هم أصحاب الأخدود.
وقيل: إن الرسّ هي البئر المعطلة التي تقدّم ذكرها، وأصحابها: أهلها.
وقال في الصحاح: والرسّ: اسم بئر كانت لبقية ثمود، وقيل: الرسّ ماء ونخل لبني أسد، وقيل: الثلج المتراكم في الجبال.
والرسّ: اسم واد، ومنه قول زهير:
بكرن بكورًا واستحرن بسحرة ** فهنّ لوادي الرسّ كاليد للفم

والرسّ أيضًا: الإصلاح بين الناس، والإفساد بينهم، فهو: من الأضداد.
وقيل: هم أصحاب حنظلة بن صفوان، وهم الذين ابتلاهم الله بالطائر المعروف بالعنقاء {وَقُرُونًا بَيْنَ ذلك كَثِيرًا} معطوف على ما قبله، والقرون جمع قرن أي: أهل قرون، والقرن مائة سنة، وقيل: مائة وعشرون.
وقيل: القرن أربعون سنة، والإشارة بقوله: {بَيْنَ ذلك} إلى ما تقدّم ذكره من الأمم.
وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك.
{وَكُلًا ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} قال الزجاج: أي: وأنذرنا كلا ضربنا لهم الأمثال، وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة، فجعله منصوبًا بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأن حذرنا، وذكرنا، وأنذرنا في معنى: ضربنا، ويجوز أن يكون معطوفًا على ما قبله، والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف، وهو الأمم أي: كل الأمم ضربنا لهم الأمثال أما {كَلاَّ} الأخرى: فهي منصوبة بالفعل الذي بعدها، والتتبير: الإهلاك بالعذاب.
قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتتته فقد تبرته.
وقال المؤرج، والأخفش: معنى {تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} دمرنا تدميرًا، أبدلت التاء والباء من الدال والميم {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} هذه جملة مستأنفة مبينة لمشاهدتهم لآثار هلاك بعض الأمم.