فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} قال: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال ويخاصمهم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه، وقد علم أنه إثم أكل حرام.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن مجاهد في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} قال: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة في الآية قال: لا تدل بمال أخيك إلى الحكام وأنت تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يحل لك شيئًا كان حرامًا عليك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} يعني بالظلم، وذلك أن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض وأراد امرؤ القيس أن يحلف، ففيه نزلت {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وفي قوله: {لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإِثم} يعني طائفة {وأنتم تعلمون} يعني تعلمون أنكم تدعون الباطل.
وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من النار».
وأخرج أحمد عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حقه، وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يكره أن يبيع الرجل الثوب ويقول لصاحبه: إن كرهته فرد معه دينارًا، فهذا مما قال الله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: قلت لعبد الله بن عمرو: هذا ابن عمك يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا وقد قال الله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} إلى آخر الآية. فجمع يديه فوضعهما على جبهته ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {كما كتب} التشبيه في الفرضية لا في الكيفية أي فرض الصيام عليكم كما فرض على الأمم قبلكم، وهذا التشبيه يسمى مرسلا مجملا.
2- {فمن كان منكم مريضا أو على سفر} فيه إيجاز بالحذف أي من كان مريضا فأفطر، أو على سفر فأفطر، فعليه قضاء أيام بعدد ما أفطر.
3- {وعلى الذين يطيقونه} في تفسير الجلالين قدره بحذف لا أي لا يطيقونه، ولا ضرورة لهذا الحذف لأن معنى الآية يطيقونه بجهد شديد، وذلك كالشيخ الهرم، والحامل، والمرضع، فهم يستطيعونه لكن مع المشقة الزائدة، والطاقة اسم لمن كان قادرا على الشيء مع الشدة والمشقة.
4- {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بطباق السلب كما أن بين لفظ {اليسر} و{العسر} طباقا.
5- {الرفث إلى نسائكم} الرفث كناية عن الجماع، وعدي ب {إلى} لتضمنه معنى الإفضاء وهو من الكنايات الحسنة كقوله: {فلما تغشاها} وقوله: {فأتوا حرثكم}.
وقوله: {فالآن باشروهن} قال ابن عباس: إن الله عز وجل كريم حليم يكني.
6- {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} استعارة بديعة شبه كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في العناق والضم، باللباس المشتمل على لابسه قال في تلخيص البيان: المراد قرب بعضهم من بعض واشتمال بعضهم على بعض كما تشتمل الملابس على الأجسام فاللباس استعارة.
7- {الخيط الأبيض من الخيط الأسود} هذه استعارة عجيبة، والمراد بها بياض الصبح وسواد الليل، والخيطان هنا مجاز عن إشراق النهار، وظلمة الليل. وذهب الزمخشري على أنه من التشبيه البليغ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}.
قوله: {بَيْنَكُم}: في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب {تَأْكُلُوا} بمعنى: لا تَتَنَاقَلُوهَا فيما بينكم بالأكل.
والثاني: أنه متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من {أمْوَالِكُمْ} أي: لا تأْكُلُوهَا كائنةً بينكم، وقدَّره أبو البقاء أيضًا بكائنةٍ بينكم، أو دائرةً بينكم؛ وهو في المعنى كقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، وفي تقدير دَائِرَةً- وهو كونٌ مقيَّدٌ- نظرٌ، إلاَّ أن يقال: دلَّت الحال عليه.
قوله: {بالبَاطِلِ} فيه وجهان:
أحدهما: تعلُّقه بالفعل، أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل.
الثاني: أن يكون حالًا؛ فيتعلَّق بمحذوفٍ، ولكن في صاحبها احتمالان.
وأحدهما: أنه المال؛ كأنَّ المعنى: لا تَأْكُلُوهَا ملتبسَةً بالباطِل.
والثاني: أن يكون الضمير في {تَأْكُلُوا} كأنَّ المعنى: لا تَأْكُلُوها مُبْطِلِينَ، أي: مُلْتَبِسينَ بالبَاطِلِ.
قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا} في {تُدْلُوا} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مجزومٌ عطفًا على ما قبله؛ ويؤيِّدجه قراءة أُبيٍّ: {وَلاَ تُدْلُوا} بإعادة لا الناهية.
والثاني: أنه منصوبٌ على الصَّرف، وقد تقدَّم معنى ذلك، وأنه مذهب الكوفِيِّين، وأنه لم يثبت بدليل.
والثالث: أنه منصوبٌ بإضمار أنْ في جواب النهي، وهذا مذهب الأخفش، وجوَّزه ابن عطيَّة والزَّمخشريُّ، ومَكِّيٌّ، وأبو البقاء، قال أبو حيَّان: وأمَّا إعراب الأَخْفَشِ، وتجويزُ الزمخشريِّ ذلك هنا، فتلك مسألة: لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ، وتَشْرَب اللَّبَنَ قال النحويُّون: إذا نصب، كان الكلام نهيًا عن الجمع بينهما، وهذا المعنى: لا يصحُّ في الآية لوجهين:
أحدهما: أنَّ النهي عن الجمع لا يستلزم النَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما على انفراده، والنَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما يستلزم النَّهي عن الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما حصول كلِّ واحدٍ منهما، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً؛ إلا ترى أنَّ أكل المال بالباطل حرامٌ سواءٌ أفرد أم جمع مغ غيره من المحرَّمات؟
والثاني: وهو أقوى: أنَّ قوله: {لِتَأْكُلُوا} علَّةٌ لما قبلها، فلو كان النهيُ عن الجمع، لم تيصحَّ العلّةُ له؛ لأنَّه مركَّبٌ من شيئين، لا تصحُّ العلَّة أن تترتَّب على وجودهما، بل إنما تترتَّب على وجود أحدهما: وهو الإدلالء بالأموال إلى الحكام.
والإدلاء مأخوذٌ من إدلاء الدَّلو، وهو إرساله إلى البئر؛ للاستقاء؛ يقال: أدْلَى دَلْوَهُ إذا أرسلها، ودَلاَهَا: إذا أخْرَجَها، ثم جُعِلَ كُلُّ إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه يقال للمحتجِّ أدْلَى بِحُجَّتِهِ، كأنه يرسلها، ليصل إلى مراده؛ كإدلاء المستقي الدلو؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلانٌ يدلي إلى الميِّت بقرابة، أو رحم؛ إذا كان منتسبًا، فيطلب الميراث بتلك النِّسبة.
و{بِهَا} متعلِّقٌ ب {تُدْلُوا} وفي الباء قولان:
أحدهما: أنها للتعدية، أي لترسلوا بها إلى الحكَّام.
والثاني: أنَّها للسبب؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال؛ إمَّ لعدم بيِّنةٍ عليها، أو بكونها أمانةً؛ كمال الأيتام، والضمير في {بِهَا}: الظاهر أنه للأموال: وقيل: إنه لشهادة الزُّور؛ لدلالة السِّياق عليها، وليس بشيء.
و{مِنْ أَمْوَال} في محلّ نصبٍ صفةً ل {فَرِيقًا} أي: فريقًا كائنًا من أمْوَالِ النَّاس.
قوله: {بالإِثْم} تحتمل هذه الباء: أن تكون للسَّبب، فتتعلَّق بقوله: {لِتَأْكُلُوا} وأن تكون للمصاحبة، فتكون حالًا من الفاعل في {لتَأْكُلُوا} وتتعلق بمحذوفٍ أي: لِتَأْكُلُوا ملتبسين بالإثم.

.فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء:

في تسمية الرَّشوة بالإدلاء وجهان:
أحدهما: أن الرَّشوة تقرِّب البعيد من الحاجة؛ كما أنَّ الدَّلو المملوء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرِّشاء، فالمقصود البعيد يصير قريبًا، بسبب الرَّشوة.
والثاني: أن الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبُّت؛ كمضيِّ الدَّلو في الرِّشاء وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل {لِتَأْكُلُوا} وذلك على رأي من يجيز تعدُّد الحال، وأمَّا من لا يجيز ذلك، فيجعل {بالإثْمِ} غير حالٍ.
والمعنى: وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّكُمْ مُبْطِلُون، ولا شكَّ أن الإقدامَ على القبيح، مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتَّوبيخ أحقُّ. اهـ. باختصار.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في الآيات: أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحًا، وعن عبد قلبه قلبًا، وعن أنثى نفسه نفسًا فإنه كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكن في مقاصة الله تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والأجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، ومنها الصيام، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك، واجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع، ودلائل مفصلة من الجمع، والفرق فمن حضر منكم ذلك الوقت وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له، وبه، وفيه، ومنه، وإليه، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود؛ أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه يريد الله بكم اليسر والوصول إلى مقام التوحيد، والاقتدار بقدرته ولا يريد بكم العسر وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة ولتكلموا عدة المراتب ولتعظموا الله تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع {ولعلكم تشكرون} [البقرة: 185].
بالاستقامة {وإذا سألك عبادي} [البقرة: 186] المختصون بي المنقطعون إليَّ عن معرفتي {فَإِنّي قَرِيبٌ} منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق {أُجِيبُ} من يدعوني بلسان الحال، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله واستعداده {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى} [البقرة: 186] بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين.
ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودًا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} أي لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن} أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء {باشروهن} بقدر الحاجة الضرورية {وابتغوا} بقوة هذه المباشرة {مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 781] في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهمًا منها ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش، وإليه الإشارة بخبر «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولي وقت مع حفصة وزينب»، ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب {وَلاَ تَأْكُلُواْ} أموال معارفكم {بَيْنِكُمْ} بباطل شهوات النفس، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء {لِتَأْكُلُواْ} الطائفة {مّنْ أَمْوَالِ} القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة} وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب، والوقوف في عرفة العرفان، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة، وقيل: الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم، وللصديقين مواقيت مراقباتهم، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا، فهو بين جلال، وجمال، وخضوع، ودلال، نفعنا الله تعالى بهم، وأفاض علينا من بركاتهم.
{وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} أخرج ابن جرير، والبخاري، عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله: {وَلَيْسَ البر} الآية، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية ابن جرير عنه ويعدون فعلهم ذلك برًا فبين لهم أنه ليس ببر {ولكن البر مَنِ اتقى} أي بر من اتقى المحارم والشهوات، أو لكن ذا البر أو البار من اتقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول قل فلابد من الجامع بينهما فأما أن يقال: إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق، فجمع بينهما في الجواب بناءًا على الاجتماع الاتفاقي في السؤال، والأمر الثاني: مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازًا واكتفاءًا بدلالة الجواب عليه، وإيذانًا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه، أو يقال: إن السؤال واقع عن الأهلة فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة مذكور للاستطراد حيث ذكر مواقيت الحج والمذكور أيضًا من أفعالهم فيه إلا الخمس، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الأهلة وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، فالمعنى: وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجبر على مثله، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ} والجامع بينهما أن الأول: قول لا ينبغي، والثاني: فعل لا ينبغي وقعًا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.
{وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} إذ ليس في العدول برًا وباشروا الأمور عن وجوهها، والجملة عطف على {وَلَيْسَ البر} إما لأنه في تأويل لا تأتوا البيوت من ظهورها أو لكونه مقول القول، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول، وقرأ ابن كثير، وكثير بكسر باء البيوت حيثما وقع {واتقوا الله} في تغيير أحكامه كإتيان البيوت من أبوابها والسؤال عما لا يعني، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء، أو في جميع أموركم.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر، فإن من اتقى الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه؛ وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (189):

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتم سبحانه وتعالى البيان لما أراده مما شرعه في شهر الصوم ليلًا ونهارًا وبعض ما تبع ذلك وكان كثير من الأحكام يدور على الهلال لاسيما أحد قواعد الإسلام الحج الذي هو أخو الصوم وكانت الأهلة كالحكام توجب أشياء وتنفي غيرها كالصيام والديون والزكوات وتؤكل بها الأموال حقًا أو باطلًا وكان ذكر الشهر وإكمال العدة قد حرك العزم للسؤال عنه بين ذلك بقوله تعالى: {يسئلونك} وجعل ذلك على طريق الاستئناف جوابًا لمن كأنه قال: هل سألوا عن الأهلة؟ فقيل: نعم، وذلك لتقدم ما يثير العزم إلى السؤال عنها صريحًا فكان سببًا للسؤال عن السؤال عنها، وكذا ما يأتي من قوله: {يسئلونك ماذا ينفقون} [البقرة: 215] {يسئلونك عن الشهر الحرام} [البقرة: 217] {يسئلونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219] بخلاف ما عطف على ما قبله بالواو كما يأتي، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الأنعام ما ينبغي من علم النجوم وما لا ينبغي {عن الأهلة} أي التي تقدم أنه ليس البر تولية الوجه قبل مشارقها ومغاربها: ما سبب زيادتها بعد كونها كالحظ أو الخيط حتى تتكامل وتستوي ونقصها بعد ذلك حتى تدق وتنمحق؟ قال الحرالي: وهي جمع هلال وهو ما يرفع الصوت عند رؤيته فغلب على رؤية الشهر الذي هو الهلال. انتهى.
ولما كان كأنه قيل: ما جوابهم؟ قيل: {قل} معرضًا عنه لما لهم فيه من الفتنة لأنه ينبني على النظر في حركات الفلك وذلك يجر إلى علم تسيير النجوم وما يتبعه من الآثار التي تقود إلى الكلام في الأحكام المنسوبة إليها فتستدرج إلى الإلحاد وقد ضل بذلك كثير من الأمم السالفة والقرون الماضية فاعتقدوا تأثيرها بذواتها وقد قال عليه الصلاة والسلام ناهيًا عن ذلك لذلك: «من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس بابًا من السحر زاد ما زاد» أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ وقال علي رضي الله تعالى عنه: «من طلب علم النجوم تكهن» مرشدًا سبحانه وتعالى إلى ما فيه صلاحهم: {هي مواقيت} جمع ميقات من الوقت وهو الحد الواقع بين أمرين أحدهما معلوم سابق والآخر معلوم به لاحق. وقال الأصبهاني: والفرق بين الوقت والمدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى الزمان، والزمان مدة مقسومة، والوقت الزمان المفروض لأمر ما. {للناس} في صومهم كما تقدم ومعاملاتهم ليعلموا عدد السنين والحساب {والحج} صرح به لأنه من أعظم مداخلها. قال الحرالي: وهو حشر العباد إلى الموقف في شهور آخر السنة، فهو أمر ديني مشعر بختم الزمان وذهابه لما فيه من آية المعاد. انتهى.