فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والالتفات إلى نون العظمة للإيذان بعظم قدر هذا الجعل لما يستتبعه من المصالح التي لا تحصى أو لما في الجعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الظل والشمس من الدوران المطرد المنبىء عن السببية من مزيد الدلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة، وثم إما للتراخي الرتبي ويعلم وجهه مما ذكر، وإما للتراخي الزماني كما هو حقيقة معناها بناءً على طول الزمان بين ابتداء الفجر وطلوع الشمس.
{ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا}.
عطف على {مَدَّ} [الفرقان: 45] داخل في حكمه أيضًا أي ثم أزلناه بعد ما أنشأناه ممتدًا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه أو بإيقاعه كذلك ومحوناه على مهل قليلًا قليلًا حسب سير الشمس، وهذا ظاهر على القول بأن المراد بالظل ظل الشاخص من جبل ونحوه، وأما على القول بأن المراد به ما بين الطلوعين فلأنه إذا عم لا يزول دفعة واحدة بطلوع الشمس في أفق لكريوة الأرض واختلاف الآفاق فقد تطلع في أفق ويزول ما عند أهله من الظل وهي غير طالعة في أفق آخر وأهله في طرف من ذلك الظل ومتى ارتفعت عن الأفق الأول حتى بانت من أفقهم زال ما عندهم من الظل فزوال الظل بعد عمومه تدريجي كذا قيل.
وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن زواله تدريجي نظرًا إلى أفق واحد أيضًا بناءً على أنه يبقى منه بعد طلوع الشمس ما لم يقع على موقعه شعاعها لمانع جبل ونحوه ويزول ذلك تدريجًا حسب حركة الشمس ووقوع شعاعها على ما لم يقع عليه ابتداء طلوعها، وكأن التعبير عن تلك الإزالة بالقبض وهو كما قال الطبرسي: جمع الأجزاء المنبسطة لما أنه قد عبر عن الأحداث بالمد.
وقوله سبحانه: {إِلَيْنَا} للتنصيص على كون مرجع الظل إليه عز وجل لا يشاركه حقيقة أحد في إزالته كما أن حدوثه منه سبحانه لا يشاركه حقيقة فيه أحد، وثم يحتمل أن تكون للتراخي الزماني وأن تكون للتراخي الرتبي نحو ما مر، ومن فسر الظل بما كان يوم خلق الله تعالى السماء كالقبة ودحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها جعل معنى {ثُمَّ جَعَلْنَا} [الفرقان: 45] الخ ثم خلقنا الشمس وجعلناها مسلطة على ذلك الظل وجعلناها دليلًا متبوعًا له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد وينقص ويمتد ويقلص ثم قبضناه قبضًا سهلًا لا عسر فيه.
ويحتمل أن يكون قبضه عند قيام الساعة بقرينة إلينا وكذا {يَسِيرًا} وذلك بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، والتعبير بالماضي لتحققه ولمناسبة ما ذكر معه، وثم للتراخي الزماني وفيه ما فيه كما أشرنا إليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}.
استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن من عند الله أنزله على رسوله، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار متصل بقوله: {وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] الآية.
وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة {واتخَذَوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئًا} [الفرقان: 3] الآية.
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض} [الفرقان: 6].
وما عطف عليه {قل أذلك خير} [الفرقان: 15] {وما أرسلنا قبلَك من المرسلين} [الفرقان: 20] {وكفى بربك هاديًا} [الفرقان: 31] فكلها مخاطبات للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جُعل مَدُّ الظل وقبْضُه تمثيلًا لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطَفْرَة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرَى القياسسِ للتدليل على أن تنزيل القرآن منجَّمًا جارٍ على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود، وذلك ما دل عليه قوله سابقًا {كذلك لنُثَبّت به فؤادك} [الفرقان: 32].
فكان في قوله: {ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظّل} الآية زيادةٌ في التعليل على ما في قوله: {كذلك لِنُثبّت به فؤادك} [الفرقان: 32].
ويستتبع هذا إيماءً إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظلَّلة إذ قال تعالى: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا} فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبَّه بحال امتداد ظلمة الظل، وصار ما كان مظلّلًا ضاحيًا بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجًا حتى ينعدم الفيء.
فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجَّمًا بهيئة مدّ الظل مدرّجًا ولو شاء لجعله ساكنًا.
وكان نظْمُها بحمله على حقيقة تركيبه مفيدًا العبرة بمد الظل وقبضِه في إثبات دقائق قدرة الله تعالى، وهذان المُفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة.
وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس، وتقلّص ضلال الكفر بانقباض الظل بعد أن كان مديدًا قبل طلوع الشمس.
وبهذه النكتة عُطف قوله: {ثم قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا} إلى قوله: {وجعل النهار نشورًا} [الفرقان: 47].
والاستفهام تقريري فهو صالح لطبقات السامعين: مِن غافل يُسأل عن غفلته ليُقِرَّ بها تحريضًا على النظر، ومِن جَاحد يُنكَر عليه إهماله النظر، ومن موفق يُحَثّ على زيادة النظر.
والرؤية بصرية، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدّي إلى المرْئي بحرف إلى.
والمدّ: بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال: مد الحبل ومد يده، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل.
ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالةً من أحوال الذات تصحّ رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى: {ألم ترَ كيفَ فَعَل ربّك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقًا} [نوح: 15]، وصحّ تعديته إلى اسم الذات مقيّدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف أو صلة نحو {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكًا} [البقرة: 246].
والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها، فالمقصود من آية سورة الفيل: الامتنان على أهل مكة بما حلّ بالذين انتهكوا حرمتَها من الاستئصال، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لِما تشتمل عليه من عجيب المنافع، وكذلك الآيتان الأخِيرتان.
وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحقّ لله تعالى، أوثرَ تعلق فعل الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئًا كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدَل منه.
وأما قوله في سورة نوح (15) {ألم تَروا كيف خلق الله} دون أن يقال: ألم تروا رَبَّكم كيف خلق، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غيرَ مرة فعَلِم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق.
وعلى كل فإن {كيف} هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محلّ بدل الاشتمال من {ربك}، والتقدير: ألم ترَ إلى ربك إلى هيئة مده الظل.
وقد تقدم ذكر خروج {كيف} عن الاستفهام عند قوله تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} في سورة آل عمران (6)، فإنه لا يخلو النهار من وجود الظل.
وفي وجود الظل دقائقُ من أحواللِ النظام الشمسي فإن الظل مقدار محدد من الظلمة يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاعُ فينطبع على المكان مقدار من الظل مقدَّر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة، ويكون امتداد تلك الظلمة المكيَّفية بكيفية ذلك الجسم متفاوتًا على حسب تفاوت بُعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل ومختلفًا باستواء المكان وتحدُّبه، فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو المعبر عنه بالمَدّ في هذه الآية لأنه كلما زاد مقدار الظلمة المكيّفية لكيفية الحائل زاد امتداد الظل.
فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة.
وقد أفاد هذا المعنى كاملًا فعلُ {مَدّ}.
وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل فكلّما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهةٍ كان الظل أوسع، وإذا اتجهت إليه مرتفعةً عنه تقلّص ظلّه رويدًا رويدًا إلى أن تصير الأشعة مُسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه فيزول ظِله تمامًا أو يكاد يزول، وهذا معنى قوله تعالى: {ولو شاء لجعله ساكنًا} أي غير متزايد لأنه لما كان مدّ الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتدادِ اسم السكون بأن يلازم مقدارًا واحدًا لا ينقص ولا يزيد، أي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سَمت واحد تُجاه أشعة الشمس فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالُها حالة واحدة فتنعدم فوائد عظيمة.
ودلت مقابلة قوله: {مد الظل} بقوله: {لجعله ساكنًا} على حالة مطوية من الكلام، وهي حالة عموم الظل جميع وجه الأرض، أي حالة الظلمة الأصلية التي سبقت اتجاه أشعة الشمس إلى وجه الأرض كما أشار إليه قول التوراة: وكانت الأرض خالية، وعلى وجه القمر ظلمة ثم قال: وقال الله ليكن نور فكان نور وفصل الله بين النور والظلمة إصحاح واحد من سفر الخروج، فاستدلال القرآن بالظل أجدى من الاستدلال بالظلمة لأن الظلمة عدم لا يكاد يحصل الشعور بجمالها بخلاف الظل فهو جامع بين الظلمة والنور فكلا دلالتيه واضحة.
وجملة {ولو شاء لجعله ساكنًا} معترضة للتذكير بأن في الظل منّة.
وقوله: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا} عطف على جملة {مد الظل} وأفادت {ثُمّ} أن مدلول المعطوف بها متراخ في الرتبة عن مدلول المعطوف عليه شأن {ثُم} إذا عطفت الجملة.
ومعنى تراخي الرتبة أنها أبعد اعتبارًا، أي أنها أرفع في التأثير أو في الوجود فإن وجود الشمس هو علة وجود الظّل للأجسام التي على الأرض والسبب أرفع رتبة من المسبّب، أي أن الله مد الظل بأن جعل الشمس دليلًا على مقادير امتداده.
ولم يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحًا شافيًا.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {ثم جعلنا} لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله تعالى: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا} ارتقاء في المنّة.
والدليل: المرشد إلى الطريق والهادي إليه، فجُعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثلَ صُوى الطريق، وجعلت الشمس من حيث كانت سببًا في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مَراحلَ، بطريقة التشبيه البليغ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها.
وتعدية {دليلًا} بحرف على تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر:
إلا عليّ دليل

وشمل هذا حالتي المد والقبض.
وجملة {ثم قبضناه إلينا} إلخ عطف على جملة {مد الظل}، أو على جملة {جعلنا الشمس عليه دليلًا} لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلًا على الظل.
و{ثم} الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي، لأن مضمون جملة {قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا} أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون {جعلنا الشمس عليه دليلًا} إذ في قبض الظل دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على امتداده فكانت أعجب إذ هي عملٌ ضدٌّ للعمل الأول، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر.