فصل: كلام نفيس لابن القيم في باب الحياة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.كلام نفيس لابن القيم في باب الحياة:

قال عليه الرحمة:
فصل قال صاحب المنازل باب الحياة:
قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} استشهاده بهذه الآية في هذا الباب ظاهر جدا فإن المراد بها من كان ميت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان فأحياه الرب تعالى بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه وهي روح معرفته وتوحيده ومحبته وعبادته وحده لا شريك له إذ لا حياة للروح إلا بذلك وإلا فهي في جملة الأموات ولهذا وصف الله تعالى من عدم ذلك بالموت فقال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فأخبر أنه روح تحصل به الحياة وأنه نور تحصل به الإضاءة وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَات ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} فالوحي حياة الروح كما أن الروح حياة البدن ولهذا من فقد هذه الروح فقد فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فحياته حياة البهائم وله المعيشة الضنك وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضى والرزق الحسن وغير ذلك والصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة كما كان بعض العارفين يقول إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وقال غيره إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح فإنه ملكها ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره وهي عكس الحياة الطيبة وهذه الحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار والمعيشة الضنك أيضا تكون في الدور الثلاث فالأبرار في النعيم هنا وهنالك والفجار في الجحيم هنا وهنالك قال الله تعالى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فذكر الله سبحانه وتعالى ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة والإعراض عنه والغفلة ومعصيته كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة.
فصل قال صاحب المنازل:
الحياة في هذا الباب يشار بها إلى ثلاثة أشياء الحياة الأولى حياة العلم من موت الجهل ولها ثلاثة أنفاس نفس الخوف ونفس الرجاء ونفس المحبة قوله الحياة في هذا الباب يريد الحياة الخاصة التي يتكلم عليها القوم دون الحياة العامة المشتركة بين الحيوان كله بل بين الحيوان والنبات وللحياة مراتب ونحن نشير إليها المرتبة الأولى حياة الأرض بالنبات قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} وقال في الماء {أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتا} وجعل هذه الحياة دليلا على الحياة يوم المعاد وهذه حياة حقيقة في هذه المرتبة مستعملة في في كل لغة جارية على ألسن الخاصة والعامة قال الشاعر يمدح عبد المطلب:
بشيبة الحمد أحيا الله بلدتنا ** لما فقدنا الحيا وأجلوز المطر

وهذا أكثر من أن نذكر شواهده المرتبة الثانية حياة النمو والاغتذاء وهذه الحياة مشتركة بين النبات والحيوان الذي يعيش بالغذاء قال الله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وقد اختلف الفقهاء في الشعور هل تحلها الحياة على قولين والصواب أنها تحلها حياة النمو والغذاء دون الحسن والحركة ولهذا لا تنجس بالموت إذ لو أوجب لها فراق النمو والاغتذاء النجاسة لنجس الزرع والشجر لمفارقته هذه الحياة له ولهذا كان الجمهور على أن الشعور لا تنجس بالموت.
المرتبة الثالثة حياة الحيوان المغتذي بقدر زائد على نموه واغتذائه وهي إحساسه وحركته ولهذا يألم بورود الكيفيات المؤلمة عليه وبتفرق الاتصال ونحو ذلك وهذه الحياة فوق حياة النبات وهذه الحياة تقوى وتضعف في الحيوان الواحد بحسب أحواله فحياته بعد الولادة أكمل منها وهو جنين في بطن أمه وحياته وهو صحيح معافى أكمل منها وهو سقيم عليل فنفس هذه الحياة تتفاوت تفاوتا عظيما في محالها فحياة الحية أكمل من حياة البعوضة ومن قال غير هذا فقد كابر الحس والعقل المرتبة الرابعة حياة الحيوان الذي لا يغتذي بالطعام والشراب كحياة الملائكة وحياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها فإن حياتها أكمل من حياة الحيوان المغتذي ولهذا لا يلحقها كلال ولا فتور ولا نوم ولا إعياء قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} وكذلك الأرواح إذا تخلصت من هذه الأبدان وتجردت صار لها حياة أخرى أكمل من هذه إن كانت سعيدة وإن كانت شقية كانت عمله ناصبة في العذاب المرتبة الخامسة الحياة التي أشار إليها المصنف وهي حياة العلم من موت الجهل فإن الجهل موت لأصحابه كما قيل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ** وأجسامهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم ** فليس لهم حتى النشور نشور

فإن الجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}.
وشبههم في موت قلوبهم بأهل القبور فإنهم قد ماتت أرواحهم وصارت أجسامهم قبورا لها فكما أنه لا يسمع أصحاب القبور كذلك لا يسمع هؤلاء وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له كانت ميتة حقيقة وليس هذا تشبيها لموتها بموت البدن بل ذلك موت القلب والروح وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد من كلام لقمان أنه قال لابنه يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل القطر وقال معاذ بن جبل تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدي بأفعالهم وينتهى إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة التفكر فيه يعدل الصيام.
ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابع له يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء رواه الطبراني وابن عبد البر وغيرهما وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والوقف أصح والمقصود قوله لأن العلم حياة القلوب من الجهل فالقلب ميت وحياته بالعلم والإيمان.
فصل المرتبة السادسة حياة الإرادة والهمة وضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى وإرادته ومحبته أقوى فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته فضعف الطلب وفتور الهمة إما من نقصان الشعور والإحساس وإما من وجود الآفة المضعفة للحياة فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة وضعفهما دليل على ضعفها وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة وأخس الناس حياة أخسهم همة وأضعفهم محبة وطلبا وحياة البهائم خير من حياته كما قيل:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ** وليلك نوم والردى لك لازم

وتكدح فيما سوف تنكر غبه ** كذلك في الدنيا تعيش البهائم

تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ** كما غر باللذات في النوم حالم

والمقصود أن حياة القلب بالعلم والإرادة والهمة والناس إذا شاهدوا ذلك من الرجل قالوا هو حي القلب وحياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله.
رأيت الذنوب تميت القلوب ** وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب ** وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين إلا الملو ** ك وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس ولم يربحوا ** ولم يغل في البيع أثمانها

فقد رتع القوم في جيفة ** يبين لذي اللب خسرانها

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول من واظب على يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر أربعين مرة أحيى الله بها قلبه وكما أن الله سبحانه جعل حياة البدن بالطعام والشراب فحياة القلب بدوام الذكر والإنابة إلى الله وترك الذنوب والغفلة الجاثمة على القلب والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قريب يضعف هذه الحياة ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت وعلامة موته أنه لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا كما قال عبد الله بن مسعود أتدرون من ميت القلب الذي قيل فيه:
ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء

قالوا ومن هو قال الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا والرجل هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه إذ أكثر هؤلاء الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية وذلك من موت القلب والروح فإن هذه الحياة الطبيعية شبيهة بالظل الزائل والنبات السريع الجفاف والمنام الذي يخيل كأنه حقيقة فإذا استيقظ عرف أنه كان خيالا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أن الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل واحد ثم جاءه الموت لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء وقد قيل إن الموت موتان موت إرادي وموت طبيعي فمن أمات نفسه موتا إراديا.