فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّمَ بِحَالِهِ، وَعَلَيْهِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ الرَّائِحَةُ عَنْ صِفَةِ الدَّمَوِيَّةِ.
وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِرِيحِ جِيفَةٍ عَلَى طَرَفَيْهِ وَسَاحِلِهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ، وَلَوْ تَغَيَّرَ بِهَا وَقَدْ وَقَعَتْ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَنْجِيسَهُ لَهُ لِلْمُخَالَطَةِ، وَالْأُولَى مُجَاوَرَةٌ لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ثُمَّ تَرَكَّبَ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ، وَهِيَ الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِقَرَارِهِ كَزِرْنِيخٍ أَوْ جِيرٍ يَجْرِي عَلَيْهِ، أَوْ تَغَيَّرَ بِطُحْلُبٍ أَوْ بِوَرَقِ شَجَرٍ يَنْبُتُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ، لِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ يَعْنِي إذَا وَجَدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ اسْتَعْمَلَهُ؛ لِأَنَّ مَا يُغْلَبُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّوَقِّي مِنْهُ، فَإِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا.
وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُوعَ عَنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا الِاحْتِرَازُ مِنْهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي عَدَالَتِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْكَبَائِرُ يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا قَدَحَتْ فِي الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ فِي الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مُمْكِنًا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الْيَسِيرُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَالِالْتِفَاتِ بِالرَّأْسِ وَحْدَهُ وَالْمُرَاوَحَةِ بَيْنَ الْأَقْدَامِ، وَتَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ، وَتَقْلِيبِ الْيَدِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ.
وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ كُلِّهِ، فَعَلَيْهِ خَرَجَ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَنْ تَغَيُّرِهِ بِمَا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَامْتَنَّ بِإِنْزَالِهِ مِنْ السَّمَاءِ لِيُطَهِّرَنَا بِهِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ»، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ غَيْرُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إبْطَالِ فَائِدَةِ الِامْتِنَانِ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْجَنَابَةَ، فَلَا يُزِيلُ النَّجَسَ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: إنَّ كُلَّ مَائِعٍ طَاهِرٍ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَدْفَعُهَا عَنْ غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيْتِ الْكَثِيرِ لَمْ يُنَجَّسْ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: «إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ».
وَقَوْلُهُ: «إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُفْسِدُ الْمَائِعَ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ سُئِلَ عَنْهُ، فَخَصَّ أَحَدَ صِنْفَيْهِ بِالْجَوَازِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى الْمَنْعِ.
وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ تَفْهَمُونَهَا، فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ كِتَابٍ، وَلَيْسَتْ النَّجَاسَةُ مَعْنًى مَحْسُوسًا، حَتَّى يُقَالَ: كُلَّمَا أَزَالَهَا فَقَدْ قَامَ بِهِ الْفَرْضُ، وَإِنَّمَا النَّجَاسَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمَاءَ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، إذْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ لَأَسْقَطَهُ، وَالْفَرْعُ إذَا عَادَ إلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ بِالْإِسْقَاطِ سَقَطَ فِي نَفْسِهِ.
وَقَدْ كَانَ تَاجُ السُّنَّةِ ذُو الْعِزِّ بْنُ الْمُرْتَضَى الدَّبُوسِيُّ يُسَمِّيهِ فَرْخَ زِنَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمَاءَ إذَا فَضَلَتْ لِلْجُنُبِ مِنْهُ فَضْلَةٌ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ بِهَا، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَجْنَبْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْت مِنْ جَفْنَةٍ، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا.
فَقُلْت: إنِّي قَدْ اغْتَسَلْت مِنْهُ.
فَقَالَ: «إنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ» أَوْ: «إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ».
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا عَلَى أَصْلِهِ فَوَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ فَسَدَ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ».
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَا أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ حَقِيقَتَهُ، وَأَنَّ الْإِنَاءَ يُغْسَلُ عِبَادَةً، لَا لِنَجَاسَةٍ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَسْلَ مَعْدُودٌ بِسَبْعٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ لِلتُّرَابِ فِيهَا مَدْخَلًا، وَلَوْ كَانَ لِنَجَاسَةٍ لَمَا كَانَ لِلتُّرَابِ فِيهَا مَدْخَلٌ، كَالْبَوْلِ، عَكْسُهُ الْوُضُوءُ لَمَّا كَانَ عِبَادَةً دَخَلَ التُّرَابُ مَعَ الْمَاءِ.
وَرَأَى مَالِكٌ طَرْحَ الْمَاءِ تَقَذُّرًا لَا تَنَجُّسًا، أَوْ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْخِلَافِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَأْكُلُ الْأَقْذَارَ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، فَيَكُونُ مِنْ الطَّوَّافِينَ أَوْ الطَّوَّافَاتِ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا وَلَغَتْ السِّبَاعُ فِي الْمَاءِ: كُلُّ حَيَوَانٍ عِنْدَ مَالِكٍ طَاهِرُ الْعَيْنِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَكِنْ تَحَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ أَسْآرَ السِّبَاعِ مَكْرُوهَةٌ، لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ، مِنْ أَنَّهَا تُصِيبُ النَّجَاسَاتِ، وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّوَّافِينَ وَلَا مِنْ الطَّوَّافَاتِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَسْآرُ السِّبَاعِ نَجِسَةٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حِيَاضٍ تَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْكِلَابُ فَقَالَ: «لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا بَقِيَ غَيْرَ شَرَابٍ وَطَهُورٍ».
وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ وَعَمْرًا وَقَفَا عَلَى حَوْضٍ، فَقَالَ عَمْرٌو: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَك السِّبَاعُ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ كَثِيرًا، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا لَكَانَ لِلْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَعَ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي سَقَيْتُكُنَّ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ لَكَرِهْتُنَّ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَاَللَّهِ سَقَيْت مِنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ.
وَهَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَاءَهَا كَانَ كَثِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَحَائِضُ النِّسَاءِ، وَعَذِرَاتُ النَّاسِ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْت قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا، قُلْت: مَا أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الْمَاءُ فِيهَا؟ قَالَ: إلَى الْعَانَةِ.
قُلْت: فَإِذَا نَقَصَ مَاؤُهَا؟ قَالَ: إلَى الْعَوْرَةِ قَالَ أَبُو دَاوُد: فَقَدَّرْتهَا بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ.
وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إلَيْهَا: هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا.
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَأَيْت مَاءَهَا مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ جِدًّا.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَغَيَّرَ مَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ السَّبَخَةِ، فَمَاؤُهَا يَكُونُ قَرَارَهَا.
وَبُضَاعَةُ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَلَهَا يَقُولُ أَبُو أُسَيْدَ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ: نَحْنُ حَمَيْنَا عَنْ بُضَاعَةَ كُلِّهَا وَنَحْنُ بَنَيْنَا مَعْرِضًا هُوَ مُشْرِفُ فَأَصْبَحَ مَعْمُورًا طَوِيلًا قَذَالُهُ وَتَخْرَبُ آطَامٌ بِهَا وَتَقَصَّفُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ أَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ كَوُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
فَمَنَعَ مِنْ وُرُودِ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ، وَأَمَرَ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ فِي الْبَابِ، وَلَوْلَا وُرُودُهُ عَلَى النَّجَاسَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا لَمَا طَهُرَتْ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ: «صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ».
رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَبَايَعَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَامَ فَفَشَجَ يَعْنِي فَرَّجَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَعَجَّلَ النَّاسُ إلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزْرِمُوهُ» ثُمَّ دَعَا بِهِ، فَقَالَ: «أَلَسْت بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟» قَالَ: بَلَى.
قَالَ: «فَمَا حَمَلَك عَلَى أَنْ بُلْت فِي مَسْجِدِنَا؟» قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا ظَنَنْت إلَّا أَنَّهُ صَعِيدٌ مِنْ الصُّعُدَاتِ، فَبُلْت فِيهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِحَفْرِ مَوْضِعِ بَوْلِهِ، وَطَرْحِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: رَأَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدَّلْوَ يَكْفِي لِبَوْلِ الرَّجُلِ فِي إزَالَةِ عَيْنِهِ وَطَهَارَةِ مَوْضِعِهِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ؛ لِأَنَّ الدَّلْوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَعَلَّقَ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، وَجَعَلَهُ تَقْدِيرًا، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ، وَهُوَ مَجْهُولٌ سَاقِطٌ، إذْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ لَعَلَّقَهُ عَلَى مَعْلُومٍ، كَمَا عُلِمَ الصَّاعُ وَالْوَسْقُ، حَتَّى كَانَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ شَرْعًا، الْمُقَدَّرُ بِهِ صَحِيحًا.
وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا زَالَتْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} تَوَقَّفَ جَمَاعَةٌ فِي مَاءِ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ، حَتَّى رَوَوْا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو مَعًا أَنَّهُ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاءُ نَارٍ، وَلِأَنَّهُ طَبَقُ جَهَنَّمَ.
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ حُكْمَهُ حِينَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا يُنْسَبُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ عَلَى نَارٍ، وَالنَّارَ عَلَى مَاءٍ، وَالْمَاءَ عَلَى نَارٍ حَتَّى عَدَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ، وَسَبْعَةَ أَنْوَارٍ.
وَأَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: إنَّمَا هُمَا بَحْرَانِ، فَلَا يَضُرُّك بِأَيِّهِمَا بَدَأْت.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَارِمِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ الْحِيتَانِ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَنْ مَاءِ الْبَحْرِ، فَلَمْ يَرَيَا بِذَلِكَ بَأْسًا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا}.
يعني غطاءً لأن يَسْتُرُ كمَا يستر اللباس.
{وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} فيه وجهان:
أحدهما: لأنه مسبوت فيه، والنائم لا يعقل كالميت، حكاه النقاش.
الثاني: يعني راحة لقطع العمل ومنه سمي يوم السب، لأنه يوم راحة لقطع العمل، حكاه ابن عيسى.
{وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} فيه وجهان:
أحدهما: لانتشار الروح باليقظة فيه مأخوذ من النشر والبعث.
الثاني: لانتشار الناس في معايشهم، قاله مجاهد، وقتادة.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ}.