فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)}.
{الليل} [الفرقان: 47] يعني: الظلْمة لا الظل، فالظلمة هي التي منعتْ النور، وإياك أن تظن أن الظلمة ضد النور، وتحاول أنت أن تنسخ الظلمة بنور من عندك، وهذه آفة الحضارة الآن أنْ جعلتَ الليل نهارًا.
وقد تنبه العلماء أخيرًا إلى مدى ضرر الأشعة على صحة الإنسان، لذلك جاء في الحديث الشريف: «أطفئوا المصابيح إذا رقدتم» فالشعاع له عمل وقت حركتك، لكن ساعة نومك وراحتك ليس له مهمة، بل هو ضار في هذا الوقت.
والحق تبارك وتعالى يمتنُّ علينا بالليل والنهار، فيقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 71- 72].
إذن: فلليل مهمة، وللنهار مهمة يُوضِّحها هنا الحق سبحانه بقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاسًا} [الفرقان: 47] أي: ساترًا، كما أن اللباس يستر الجسم، والنوم ردع ذاتي يقهر الكائن الحي، وليس ردعًا اختياريًا.
لذلك تلاحظ أنك إنْ أردت أنْ تنامَ في غير وقت النوم تتعب وترهق، أمّا إنْ أتاك النوم فتسكن وتهدأ، ومن هنا قالوا: النوم ضيف ثقيل إنْ طلبته أَعْنَتكَ، وإنْ طلبك أراحك.
لذلك ساعة يطلبك النوم تنام مِلْء جفونك، ولو على الحصى يغلبك النوم فتنام، وكأن النوم يقول لك: اهمد واسترح، فلم تَعُدْ صالحًا للحركة، أما مَنْ غالب هذه الطبيعة فأخذ مثلًا حبوبًا تساعده على السهر، فإنْ سهر ليلة نام بعدها ليلتين، كما أن الذي يغالب النوم تأتي حركته مضطربة غير متوازنة.
فعليك إذن أن تخضع لهذه الطبيعة التي خلقك الله عليها وتستسلم للنوم إنْ ألحَّ عليك، ولا تكابر لتقوم في الصباح نشيطًا وتستأنف حركة حياتك قويًا صالحًا للعمل وللعطاء.
وللصوفية في النوم مَلْحظ دقيق يُبْنَى على أن الكون كله غير المختار مُسبِّح لربه، كما قاله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وعليه، فذرات الكافر في ذاتها مؤمنة، يؤلمها ويغيظها أن صاحبها عَاصٍ أو كافر فتطيعه، وهي كارهة لفعله بدليل أنها ستشهد عليه يوم القيامة، فإنْ كانت مُسخِّرة لمراداته في الدنيا فإنها ستتحرر من هذه الإرادة في الآخرة.
فاللسان مُسخَّر لصاحبه، إنْ شاء نطق به الشهادتين، وإنْ شاء نطق به كلمة الكفر؛ لأنه مقهور لإرادته، أما في القيامة فلا إرادة إلا للحق تبارك وتعالى.
وفي النوم ترتاح هذه الجوارح وهذه الذرات من سيئات صاحبها ومن ذنوبه، تستريح من نكده وإكراهه لها على معصية الله. فالنوم رَدْع طاقيّ، فلم يَعُد الإنسان صالحًا للحركة، ولا للتعايش السالم مع جوارحه، لقد كثُرتْ ذنوبه ومعاصيه حتى ضاقتْ بها الجوارح، فيأتي النوم ليريحها.
وهذه الظاهرة نشاهدها مثلًا في موسم الحج، يقول لك الحاج: يكفيني أنْ أنامَ في اليوم ساعة أو ساعتين لماذا؟ لأن السيئات في هذا المكان قليلة، فجوارحك في راحة وانسجام معك فلا تحملك على النوم، أمّا العاصي فلا يكفيه أن ينام عشرة ساعات؛ لأن جوارحه وأعضاءه مُتْعَبة متضايقة من أفعاله.
وهذه نُفسِّر بها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه ذلك لأن جوارحه صلى الله عليه وسلم تصحبه خير صُحْبة، فهي في طاعة دائمة مستمرة، فكيف تحمله على أنْ ينام؟
والخالق عز وجل يعامل الناس على المعنى العام، فالنفوس دائمًا ميَّالة للشر جانحة للسوء؛ لذلك تتعب الطاقة وتتعب الجوارح، وكأن الله تعالى يريد إحداث هُدْنة للتعايش بينك وبين جوارحك، نَمْ لتصبح نشيطًا.
ومعنى {والنوم سُبَاتًا} [الفرقان: 47] السّبْت أي: القطْع. فمعنى {سُبَاتًا} [الفرقان: 47] يعني: قاطعًا للحركة، لا انقطاعًا نهائيًا، إنما انقطاعًا مُسْتأنفًا لحركة أفضل، وبدن أقوى وأصحّ، فالذي يقضي ليله ساهرًا يقوم من نومه مُتْعبًا مُضطربًا، على خلاف مَنْ جعل وقت النوم للنوم؛ لأن الخالق عز وجل جعل نومك بالليل على قَدْر ما تتحرك بالنهار، فإنْ أردتَ حركة مُتزنة نشيطة وقوية فنَمْ على مقدار هذه الحركة.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ النهار نُشُورًا} [الفرقان: 47] النشور مثل الشُّكور: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9] أي: شكر، وكذلك النشور أي نشر، والنشر يعني الانطلاق في الأرض بالحركة، كما في قوله تعالى: {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10].
ثم يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح} قلنا: إن الرياح إذا جاءت هكذا بصيغة الجمع دلَّتْ على الخير، وإنْ جاءتْ مفردة فهي آتية بالشر، وإذا نظرتَ إلى الجبال العالية وإلى ناطحات السحاب تقول: ما الذي يقيم هذه المباني العالية، فلا تميل؟ الذي يسمكها هو الهواء الذي يحيط بها من كل ناحية، ولو فرَّغْتَ الهواء من أحد نواحيها تنهار فورًا.
إذن: فالريح من هنا، ومن هنا، ومن هنا، فهي رياح متعددة تُصلِح ولا تُفسِد، وتُحدِث هذا التوازن الذي نراه في الكون، أمّا الريح التي تأتي من ناحية واحدة فهي مدمرة مهكلة، كما جاء في قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6].
وقال الحق سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].
ومعنى {بُشْرًا} [الفرقان: 48] بسكون الشين، مع أنها في الأصل بُشُرًا مثل رُسُل، فلما خُفِّفَتْ صارت بُشْرًا، والبُشْرى هي الإخبار بما يسرُّ قبل زمنه، فلا تقول يبشر إلا في الخير، وكان العربي ساعة تمر عليه الرياح يعرف كم بينه وبين المطر، فيحكم على مجيء المطر بحركة الرياح الطرية التي تداعب خدّه.
وقوله سبحانه: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48] يقال: بين يديك يعني: أمامك. والمراد هنا المطر الذي يسبق رحمة الله.
ثم قول تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] السماء لها معنى لُغوي، ومعنى شرعي. فهي لغةً: كل ما علاك، وشرعًا: هي هذه السماء العالية والتي تتكون من سبع سموات، لكن أينزل المطر من السماء أم من جهة السماء؟
المطر ينزل من الغمام من جهة السماء، والغمام أصله من الأرض نتيجة عملية البخر الذي يتجمع في طبقات الجو، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43].
إذن: فرحمة الله هي الماء الذي خلق الله منه كلّ شيء حيٍّ.
وقوله تعالى: {مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] الطَّهُور: الماء الطاهر في ذاته، المطهِّر لغيره، فالماء الذي تتوضأ به طاهر ومطهر، أما بعد أنْ تتوضأ به فهو طاهر في ذاته غير مُطهِّر لغيره، وماء السماء طاهر ومُطهر؛ لأنه مُصفّى مُقطّر، والماء المقطر أنقى ماء.
بالإضافة إلى أن الماء قِوَام الحياة، منه نشرب ونسقي الزرع والحيوان والطير، فالماء يعطيك الحياة ويعطيك الطهارة.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ}.
قوله تعالى: {بَلْدَةً مَّيْتًا} [الفرقان: 49] أي: أرض بلدة مَيْت، وفرْق بين ميْت وميِّت: الميْت هو الذي مات بالفعل، والميِّت هو الذِّي يئول أمره إلى الموت، وإنْ كان ما يزال على قيد الحياة، ومن ذلك قوله تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30].
والأرض الميْتة هي الجرداء الخالية من النبات، فإذا نزل عليها الماء أحياها بالنبات، كما في قوله سبحانه: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
وقوله تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49] يُقال سقاه وأسقاه: أسقاه: أعدَّ له ما يستقى منه، وإنْ لم يشرب الآن، لكن سقاه يعني: ناوله ما يشربه، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21].
أمّا في المطر فيقول سبحانه: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22] أي: أعددناه لِسُقْياكم إنْ أردتم السُّقْيا.
ومعنى {وَأَنَاسِيَّ} [الفرقان: 49] جمع إنسان، وأصلها أناسين، وخُفِّفَتْ إلى أناسيّ.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} التصريف: التحويل والتغيير، والمعنى حَوّلناه من هنا إلى هنا، ومع كل هذه العبر والآيات {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: 50] فالكافرون بآيات الله كثير لا يلتفتون إلى آيات الله، حتى بعد أنْ تقدَّم العلم وتقدَّمتْ الحضارة الإنسانية، ووقف الناس على كثير من الآيات.
فالحق تبارك وتعالى يُصرِّف المطر إلى بلاد بغزارة، فإنْ شاء أصابها الجفاف والجدب حتى تموت مزروعاتهم وحيواناتهم. إذنْ: ليست المسألة بيئة باردة أو كثيرة الأمطار، إنما المسألة مرادات خالق، ومرادات حق.
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)} يريد الحق تبارك وتعالى أن يمتنّ على رسوله صلى الله عليه وسلم مِنَّةَ، فيقول له: المسألة ليست قلةَ رسل عندنا حتى نرسل رسولًا للناس كافة وللزمن كله، ونحن نستطيع أن نُخفِّف عنك ونبعث في كل قرية رسولًا يُخفِّف عنك عبء الرسالة، لكنّا نريد لك أنْ تنال شرف الجهاد وشرف المكافحة، فجمعناها كلها لك إلى أنْ تقوم الساعة.
ونستفيد من هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى حين يَهَبُ الطاقات لا يعنى هذا أن الطاقة هي التي تحكم قدرته في الأمر أن يبعث في كل قرية رسولًا، إنما يقدر أن يرسل رسولًا ويعطيه طاقة تتحمل هذا كله.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلاَ تُطِعِ الكافرين وَجَاهِدْهُمْ} أي: ما دُمْنا قد جمعنا لك كل القرى، وحمّلناك الرسالة العامَة في كل الزمان وفي كل المكان، فعليك أن تقف الموقف المناسب لهذه المهمة {فَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الفرقان: 52] إنْ لوَّحُوا لك بالملك أو بالمال أو بالجاه والشرف، واعلم أن ما أعده الله لك وما ادخره لك فوق هذا كله.
وحين يقول سبحانه لرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {فَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الفرقان: 52] فإنه يعذره أمامهم، فالرسول ينفذ أوامر الله.
وَنَهْى الرسول عن طاعة الكافرين لا يعني أنه صلى الله عليه وسلم يطيعهم، فهذه كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] فكيف يطلب الإيمان ممَّنْ ناداهم بالإيمان؟ إنه تحصيل حاصل. قالوا المعنى: أنت آمنتَ قبل أن أقول لك هذه الكلمة، وأقولها لك الآن لتُواصل إيمانًا جديدًا بالإيمان الأول، وإياك أنْ ينحلّ عنك الإيمان. إذن: إذا طُلِب الموجود فالمراد استدامة الوجود.
وقوله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان: 52] أي: بما جاءك من القرآن {جِهَادًا كَبيرًا} [الفرقان: 52] واعلم أنك غالب بأمر الله عليهم، ولا تقُلْ: إن هناك تيارَ إشراك وكفر وإيمان، وسوف أعطيك مثلًا كونيًا في أهم شيء في حياتك، وهو الماء. اهـ.