فصل: تفسير الآيات (53- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبخار الماء عادة لايكاد يري إلا إذا تعرض لعمليات التكثف علي هيئة قطيرات دقيقة من الماء تظل عالقة بأجزاء من الغلاق الغازي للأرض علي هيئة الندي أو الضباب بالقرب من سطح الأرص، وعلي هيئة السحب المختلفة في نطاق التغيرات المناخية المحيطة بالأرض، وقد تصل تلك السحب إلي الأجزاء السفلي من نطاق التطبق الذي يعلوه.
وقد تتحول قطرات الماء في هذه المستويات العليا إلي كل من البرد والثلج، أو تنمو إلي أحجام تمكنها من النزول إلي الأرض مطرا حسب مشيئة الله وتقديره.
وعند نزول المطر إلي الأرض قد يتدفق فوق سطحها علي هيئة السيول الجارفة التي قد تؤدي إلي دمار شامل في المناطق الصحراوية، وإلي فيضانات مغرقة بالأنهار والجداول.
كذلك يتسلل قدر من ماء المطر إلي التربة، أو يصل إلي طبقات صخرية عالية المسامية والنفاذية فيتحرك رأسيا بالجاذبية الأرضية إلي أسفل حتي يصل إلي مخزون الماء تحت سطح الأرض فيعمل علي تجديد عذوبته، وتعويض مايفيض أو يضخ منه.
وهذه الدورة المائية المعجزة يتم بواسطتها تطهير الماء، وتلطيف جو الأرض، وتوفير نسبة معينة من الرطوبة، في كل من غلافها الغازي وتربتها فتسمح للكائنات الحية بما تحتاجه منها.
وبواسطة هذه الدورة المائية تتم تسوية سطح الأرض، وشق الفجاج والسبل فيه، ويتم تفتيت الصخور، وتكوين كل من التربة والصخور الرسوبية، وخزن قدر من ماء المطر فيها وفي غيرها من صخور قشرة الأرض، وتركيز عدد من الخامات الاقتصادية.
ماء السماء ماء طهور إن دورة الماء حول الأرض لها فوائد كثيرة من أبرزها تطهير هذا الماء من عوالقه وشوائبه المختلفة، فحينما ينزل ماء المطر علي الأرض ويجري علي سطحها فانه يحمل معه من نفاياتها كما كبيرا إلي أحواض البحار والمحيطات في عملية تنظيف وتطهير مستمرة لسطح الأرض، وغسل لأدرانها المختلفة، والماء في جريانه علي سطح الأرض يذيب كل مايمكن اذابته من مكوناتها من مختلف العناصر والمركبات، كما يحمل ملايين الاطنان من العوالق غير المذابة والتي تترسب علي طول مجاري الانهار والأودية ودالاتها وفوق قيعان البحار والمحيطات والبحيرات وغيرها من التجمعات المائية، وفي هذه الأوساط المائية يحيا ويموت بلايين الكائنات الحية ولذلك يتعفن الماء غير الجاري في التجمعات المائية المحدودة بسرعة كبيرة وبدرجات أقل في البحار الواسعة والمحيطات، ويزيد من تلوث هذه الأوساط المائية مايدفع إليها من مخلفات المصانع والمنازل.
وحينما تبخر أشعة الشمس هذا الماء فإنه يتطهر مما فيه من الملوثات، ويصعد إلي الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي علي هيئة بخار ماء نقي طاهر من كل ماكان فيه من أدران وأوساخ وأملاح.
وهذه هي عملية التطهير الرئيسية لماء الأرض، ولذلك فان أنقي صورة للماء الطبيعي هي ماء المطر، علي الرغم من أنه عند نزوله من السماء قد يذيب نسبة ضئيلة من مكونات الغلاف الغازي للأرض كما قد يحمل معه نسبة لاتكاد تدرك من ذرات بعض الأملاح اللازمة لصحة الإنسان وغيره من الكائنات الحية، وذلك لأن الماء الصافي تماما قد يكون ضارا بجسم الانسان، ولايفسد ماء السماء إلا الملوثات التي قد يطلقها الإنسان، وذلك من مثل أكاسيد الكبريت التي تسبب نزول مايسمي بالأمطار الحمضية أو إطلاق بعض الغبار المشع كالذي ينتج من التجارب النووية أو من التسرب من المنشئات القائمة علي مثل هذا النشاط كالمفاعلات النووية من مثل ماحدث في كل من مفاعل تشرنوبل النووي في الاتحاد السوفيتي السابق ابريل 1986م والذي أدي إلي سقوط أمطار مليئة بالاشعاع عبر كل من أوروبا والمشرق العربي وأثر علي كل من الإنسان والحيوان والنبات في المنطقة، ومفاعل جزيرة الأميال الثلاثة Three MilesIsland ومفاعلات شمال اسكتلندا قبل وبعد ذلك التاريخ.
والرسوبيات الملحية التي تقدر بملايين الأطنان بين مختلف التتابعات الصخرية المكونة لقشرة الأرض هي من بقايا عملية تطهير ماء الأرض بتبخيره ثم تكثيفه في الغلاف الغازي للأرض بطريقة مستمرة، ونسب الملوحة المتباينة في كل مياه الأرض المالحة والمتزايدة بمرور الزمن هي من نواتج عملية التبخير تلك وهي مستمرة مابقيت الأرض حتي لا يفسد ماؤها بتراكم الأملاح والنفايات وافرازات الكائنات الحية المختلفة وتكدس بقاياها بعد موتها، وتحلل تلك البقايا وتعفنها. وعلي ذلك فالمصدر الرئيسي للماء النقي علي سطح الأرض هو ماء المطر.
وحتي الماء المخزون تحت سطح الأرض فان ملوحته تزداد باستمرار مع الزمن لإذابته من أملاح الصخور المختزن فيها أو لتبخره، وتركيزنسبة مابه من أملاح مذابة، ولاتتجدد عذوبة هذا الماء ونسبة الأوكسجين فيه إلا بما يصل إليه من ماء المطر.
من هذا الاستعراض يتضح بجلاء أن القرآن الكريم قد وصف في عدد من آياته حقيقة اخراج كل ماء الأرض- علي كثرته- من داخل الأرض، وهي حقيقة لم يدركها الانسان إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، كما وصف دورة الماء حول الأرض بدقة علمية فائقة وأثبت أن مختلف صور الماء علي سطح الأرض ناتج من هذه الدورة المائية التي يطهر بها ربنا تبارك وتعالى هذا السائل المهم والذي يعتبر ضرورة من ضرورات الحياة بطريقة مستمرة عن طريق تبخيره إلي الغلاف الغازي المحيط بالأرض ثم تكثيفه منه وانزاله ماء طهورا بتقدير من الله تعالى وحسب مشيئته وارادته.
وهذه حقائق لم تصل إلي علم الانسان إلا بعد نزول القرآن الكريم بأكثر من عشرة قرون علي الأقل، ولم تثبت علميا إلا في خلال القرون الثلاثة الماضية، وحتي وصولها في هذا التاريخ إلي علم الانسان يعتقد أن مصدره كان القرآن الكريم، وأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم التي نقلت إلي الحضارة الغربية عبر عمليات الترجمة من التراث الإسلامي في كل من بلاد الأندلس، وصقلية، وإيطاليا، وبلاد الشام في أثناء الحروب الصليبية.
وفي ذلك من الاثباتات المادية القاطعة بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق وأن سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم كان موصولا بالوحي، ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض، علي الرغم من كفر الكافرين، ومحاجة المعاندين، وادعاءات المبطلين، فالحمدلله الذي انزل القرآن {أنزله بعلمه}، وتعهد بحفظه فحفظه بنصه ومعناه ومعجزاته، وبلغة وحيه في صفائه الرباني واشراقاته النورانية التي لاينكرها إلا جاحد، وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين والحمدلله رب العالمين أولا وآخرا وقبل وبعد كل شيء. اهـ.

.تفسير الآيات (53- 55):

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر تصريف الفرقان، ونشره في جميع البلدان، بعد إثارة الرياح ونشر السحاب، وخلط الماء بالتراب، لجمع النبات وتفريقه، أتبعه- تذكيرًا بالنعمة، وتحذيرًا من إحلال النقمة- الحجز بين أنواع الماء الذي لا أعظم امتزاجًا منه، وجمع كل نوع منها على حدته، ومنعه من أن يختلط بالآخر مع اختلاط الكل بالتراب المتصل بعضه ببعض، فقال عائدًا إلى أسلوب الغيبة تذكيرًا بالإحسان بالعطف على ضمير الرب في آية الظل: {وهو} أي وحده {الذي مرج البحرين} أي الماءين الكثيرين الواسعين بأن جعلهما مضطربين كما تشاهدونه من شأن الماء؛ وقال الرازي: خلى بينهما كأنه أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج، وأصل المرج يدل على ذهاب ومجيء واضطراب والتباس.
ولما كان الاضطراب موجبًا للاختلاط، وكانت ال دائرة بين العهد والجنس، تشوف السامع إلى السؤال عن ذلك، فأجيب بأن المراد جنس الماء الحلو والملح، لأن البحر في الأصل الماء الكثير، وبأنه سبحانه منعهما من الاختلاط، مع الموجب له في العادة، بقدرته الباهرة، وعظمته القاهرة، فقال: {هذا عذب} أي حلو سائغ {فرات} أي شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة، لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض وما كان في بطنها {وهذا ملح} شديد الملوحة {أجاج} أي مر محرق بملوحته ومرارته، لا يصلح لسقي ولا شرب، ولعله أشار بأداة القرب في الموضعين تنبيهًا على وجود الموضعين، مع شدة المقاربة، لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب منه جدًا خرج الماء عذبًا جدًا {وجعل} أي الله سبحانه {بينهما برزخًا} أي حاجزًا من قدرته مانعًا من اختلاطهما.
ولما كانا يلتقيان ولا يختلطان، كان كل منهما بالاختلاط في صورة الباغي على الآخر، فأتم سبحانه تقرير النعمة في منعهما الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ، تشبيهًا لكل منهما بالمتعوذ، ليكون الكلام- مع أنه خبر- محتملًا للتعوذ، فيكون من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة فقال: {وحجرًا} أي منعًا {محجورًا} أي ممنوعًا من أن يقبل رفعًا، كل هذا التأكيد إشارة إلى جلالة هذه الآية وإن كانت قد صارت لشدة الإلف بها معرضًا عنها إلى الغاية، لتعرف بها قدرته، وتشكر نعمته.
ولما ذكر تعالى قدرته في منع الماء من الاختلاط، أتبعه القدرة على خلطه، لئلا يظن أنه ممتنع، تقريرًا للفعل بالاختيار، وإبطالًا للقول بالطبائع، فقال معبرًا بالضمير كما تقدمه حثًا على استحضار الأفعال والصفات التي تقدمت، لتعرف الحيثية التي كرر الضمير لأجلها: {وهو} أي وحده {الذي خلق من الماء} بخلطه مع الطين {بشرًا} كما تشاهدونه يخلق منه نباتًا وشجرًا وورقًا وثمرًا {فجعله} أي بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة، والتدوير في أدوار التربية {نسبًا} أي ذكرًا ينسب إليه {وصهرًا} أي أنثى يصاهر- أي يخالط بها إلى الذكر، فقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين: عذبا وملحًا، وخلط ماء الذكر بماء الأنثى متى أراد فصور منه آدميًا، ومنعه من ذلك إذا أراد، كما أنه ميز بين العذب والملح ويخلط بينهما إذا أراد بعلمه الشامل وقدرته التامة {وكان ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك {قديرًا} على كل شيء قدرته على ما ذكر من إبداع هذه الأمور المتباعدة من مادة واحدة فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق، سهل الأخلاق، ويخذل من يشاء فيجعله مرير الأخلاق كثير الشقاق، أو ملتبس الأخلاق، عريقًا في النفاق، فارغب إلى هذا الرب الشامل القدرة، التام العلم.
ولما أثبت له بهذه الأدلة القدرة على كل شيء، قال معجبًا منهم في موضع الحال من {ربك} عودًا إلى تهجين سيرتهم في عبادة غيره، معبرًا بالمضارع، إشارة إلى أنهم لو فعلوا ذلك مرة لكان في غاية العجب، فكيف وهو على سبيل التجديد والاستمرار؟ ومصورًا لحالهم زيادة في تبشيعها: {ويعبدون} أي الكفرة {من دون} أي ممن يعلمون أنه في الرتبة دون {الله} المستجمع لصفات العظمة، بحيث إنه لا ضر ولا نفع إلا وهو بيده.
ولما كان هذا السياق لتعداد نعمه سبحانه، وكان الحامل للإنسان على الإذعان رجاء الإحسان، أو خوف الهوان، وكان رجاء الإحسان مقبلًا به إلى المحسن في السر والإعلان، قدم النفع فقال: {ما لا ينفعهم} أي بوجه.
ولما كان الخوف إنما يوجب الإقبال ظاهرًا فقط، أتبعه قوله: {ولا يضرهم} أي أصلًا في إزالة نعمة من نعم الله عنهم، فلا أسخف عقلًا ممن يترك من بيده كل نفع وضر وهو يتقلب في نعمه، في يقظته ونومه، وأمسه ويومه، ويقبل على من لا نفع بيده ولا ضر أصلًا؛ وأظهر في موضع الضمير بيانًا للوصف الحامل على ما لا يفعله عاقل، وأفرد تحقيرًا لهم فقال: {وكان الكافر} مع علمه بضعفه وعجزه.
ولما كان الكافر لا يمكن أن يصافي مسلمًا ما دام كافرًا، وكانت مصافاته لغيره حاصلة إما بالفعل أو بالقوة، عدت مصارمته لغيره عدمًا، فكانت مصارمته خاصة بأولياء الله، وكان ذلك أشد لذمه، دل عليه بتقديم الجار فقال: {على ربه} أي المحسن إليه لا غيره {ظهيرًا} معينًا لشياطين الإنس والجن على أولياء الله، والتعبير ب {على} دال على أنه وإن كان مهينًا في نفسه حقيرًا فاعل فعل العالي على الشيء القوي الغليظ الغالب له، المعين عليه، من قولهم: ظهر الأرض لما علا منها وغلظ، وأمر ظاهر لك، أي غالب، والظاهر: القوي والمعين، وذلك لأنه يجعل لما يعبده من الأوثان نصيبًا مما تفرد الله بخلقه، ثم يجعل لها أيضًا بعض ما كان سماه لله، ويعاند أولياء الله من الأنبياء وغيرهم، وينصب لهم المكايد والحروب، ويؤذيهم بالقول والفعل، مع علمه بأن الله معهم لما يشاهدونه من خرقه لهم العوائد، فكان هذا فعل من لا يعبأ بالشيء {لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوًا كبيرًا} [الفرقان: 21] {أن لا تعلوا على الله} [الدخان: 19] وهو في الحقيقة تهكم بالكفار، لأنهم يفعلون ما يلزم عليه هذا اللازم الذي لا يدور في خلد عاقل. اهـ.