فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والنسب لا يخلو من أُبوّة وبُنوّة وأُخُوة لأولئك وبنوةٍ لتلك الأُخوة.
وأما الصهر فهو: اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة، ويسمى أيضًا مصاهرة لأنه يكون من جهتين، وهو آصرة اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه، فصهر الرجل قرابة امرأته، وصهر المرأة قرابة زوجها، ولذلك يقال: صاهر فلان فلانًا إذا تزوج من قرابته ولو قرابةً بعيدة كقرابة القبيلة.
وهذا لا يخلو عنه البشر المتزوج وغير المتزوج.
ويطلق الصهر على مع له من الآخر علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في موضع الوصف فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل، وأما قريب زوج المرأة فهو خَتَن لها أو حَمٌ.
ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيدًا.
وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله: {وكان ربك قديرًا}، أي عظيم القدرة إذْ أوجد من هذا الماء خَلْقًا عظيمًا صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} [الحجرات: 13].
وفي تركيب {وكان ربك قديرًا} من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له مُتصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل {كَان}، وما في صيغة قدير من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}.
الواو للحال، وهذا مستعمل في التعجيب من استمرارهم في الشرك، أُعقب ذكر ما نفع الله به الناس من إلطافه بهم في تصاريف الكائنات إذ جعل لهم الليل والنهار، وخلق لهم الماء فأنبت به الزرع وسقى به الناس والأنعام، مع ما قارنه من دلائل القدرة بذكر عبادتهم ما لا ينفع الناس عَوْدًا إلى حكاية شيء من أحوال مشركي مكة.
ونفي الضرّ بعد نفي النفع للتنبيه على انتفاء شبهة عَبَدة الأصنام في شركهم لأن موجب العبادة إما رجاء النفع وإما اتقاء ضر المعبود وكلاهما منتف عن الأصنام بالمشاهَدة.
والتعبير بالفعل المضارع للدلالة على تجدد عبادتهم الأصنام وعدم إجداء الدلائل المقلعة عنها في جانبهم.
وجملة {وكان الكافر على ربه ظهيرًا} تذييل لما قبله، فاللام في تعريف {الكافر} للاستغراق، أي كل كافر على ربّه ظهير.
وجعل الخبر عن الكافر خبرًا ل {كان} للدلالة على أن اتصافه بالخبر أمر متقرر معتاد من كل كافر.
والظهير: المظاهر، أي المعين، وتقدم في قوله تعالى: {ولو كان بعضُهم لبعض ظهيرًا} في سورة الإسراء وهو فعيل بمعنى مُفاعل، أي مظاهر مثل حكيم بمعنى مُحكم، وعَوين بمعنى معاون.
وقول عمر بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السّميع

أي المُسمع.
قال في الكشاف: ومجيء فعيل بمعنى مُفاعل غير عزيز.
وهو مشتق من: ظاهر عليه، إذا أعان من يُغالبه على غلَبه، وأصله الأصيل مشتق من اسم جامد وهو اسم الظهر من الإنسان أو الدابة لأن المُعاون أحدًا على غلب غيره كأنه يحمل الغالب على المغلوب كما يَحمل على ظهر الحامل، جعل المشرك في إشراكه مع وضوح دلالة عدم استئهال الأصنام للإلهية كأنه ينصر الأصنام على ربه الحق.
وفي ذكر الربّ تعريض بأن الكافر عاقّ لمولاه.
وعن أبي عبيدة: ظَهير بمعنى مَظهور، أي كُفر الكافر هَيّن على الله، يعني أي فعيلًا فيه بمعنى مفعول، أي مظهور عليه وعلى هذا يكون {على} متعلقًا بفعل {كان} أي كان على الله هيّنًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ}.
اعلم أن لفظة: مرج تطلق في اللغة إطلاقين.
الأول: مرج بمعنى أرسل وخلى. من قولهم: مرج دابته إذا أرسلها إلى المرج، وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وكانت لا يزال بها أنيس ** خلال مروجها نعم وشاء

وعلى هذا فالمعنى: أرسل البحرين وخلاهما لا يختلط أحدهما بالآخر.
والإطلاق الثاني مرج بمعنى: خلط، ومنه قوله تعالى: {يا أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق: 5] أي مختلط، فعلى القول الأول: فالمراد بالبحرين الماء العذب في جميع الدنيا، والماء الملح في جميعها.
وقوله: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} يعني به ماء الآبار، والأنهار والعيون في أقطار الدنيا.
وقوله: {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي البحر الملح، كالبحر المحيط، وغيره من البحار التي هي ملح أجاج، وعلى هذا التفسير فلا إشكال.
وأما على القول الثاني بأن مرج بمعنى خلط، فالمعنى: أنه يوجد في بعض المواضع اختلاط الماء الملح والماء العذب في مجرى واحد، ولا يختلط أحدهما بالآخر، بل يكون بينهما حاجز من قدرة الله تعالى، وهذا محقق الوجود في بعض البلاد، ومن المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي بجنب مدينة سانلويس، وقد زرت مدينة سانلويس عام ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية، واغتسلت مرة في نهر السنغال، ومرة في المحيط، ولم آت محل اختلاطهما، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقاة أنه جاء إلى محل اختلاطهما، وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذبًا فراتًا، وبالأخرى ملحًا أجاجًا، والجمع في مجرى واحد، لا يختلط أحدهما بالآخر. فسبحانه جل وعلا ما أعظمه، وما أكمل قدرته.
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] وقوله تعالى: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19- 20] أي لا يبغي أحدهما على الآخر فيمتزج به، وهذا البرزخ الفاصل بين البحرين المذكور في سورة الفرقان، وسورة الرحمن قد بين الله تعالى في سورة النمل أنه حاجز حجز به بينهما، وذلك في قوله جل وعلا: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزًا أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النمل: 16] وهذا الحاجز هو اليبس من الأرض، الفاصل بين الماء العذب، والماء الملح على التفسير الأول.
وأما على التفسير الثاني فهو حاجز من قدرة الله غير مرئي للبشر، وأكد شدة حجزه بينهما بقوله هنا: {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا}، والظاهر أن قوله هنا: حجرًا أي منعًا، حرامًا قدريًا وأن محجورًا توكيد له أي منعًا شديدًا للاختلاط بينهما، وقوله: {هذا عَذْبٌ} صفة مشبهة من قولهم: عذب الماء بالضم فهو عذب. وقوله فرات صفة مشبهة أيضًا، من فرت الماء بالضم، فهو فرات، إذا كان شديد العذوبة. وقوله: وهذا ملح، صفة مشبهة أيضًا من قولهم: ملح الماء بالضم والفتح فهو ملح.
قال الجوهري في صحاحه: ولا يقال مالح إلا في لغة ردية. اهـ.
وقد أجاز ذلك بعضهم واستدل له بقول القائل:
ولو تفلت في البحر والبحر مالح ** لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا

وقوله: أجاج: صفة مشبهة أيضًا من قولهم: أج الماء يؤج أجوجًا فهو أجاج: أي ملح مر، فالوصف بكونه أجاجًا يدل على زيادة المرارة على كونه ملحًا، والعلم عند الله تعالى.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}.
قال الزمخشري في الكشاف في تفسير هذه الآية الكريمة: فقسم البشر قسمين، ذوي نسب أي ذكورًا ينسب إليهم فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلانة، وذوات صهر أي إناثًا يصاهر بهن كقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39]، {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} حيث خلق من النطفة الواحدة بشرًا نوعين ذكر وأنثى. انتهى منه.
هذا التفسير الذي فسر به الآية يدل له ما استدل عليه به وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 37- 39] وهو دليل على أن آية الفرقان هذه بينتها آية القيامة المذكورة، وفي هذه الآية الكريمة أقوال أخر غير ما ذكره الزمخشري.
منها: ما ذكر ابن كثير قال: فجعله نسبًا وصهرًا، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصهر صهرًا، وانظر بقية الأقوال في الآية في تفسير القرطبي والدر المنثور للسيوطي.
مسألة:
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة: أن بنت الرجل من الزنى، لا يحرم عليه نكاحها. قال ابن العربي المالكي في هذه الآية: والنسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى، على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقًا مطلقًا، ولم يكن نسبًا محققًا، ولذلك لم يدخل تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] بنته من الزنى، لأنها ليست. ببنت له في أصح القولين لعلمائنا، وما يحرم من الحلال، لا يحرم من الحرام، لأن الله امتن بالنسب، والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما، فلا يلحق الباطل بهما، ولا يساويهما انتهى منه. بواسطة نقل القرطبي عنه.
وقال القرطبي: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى، أو أخته أو بنت ابنه من زنى: فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، وأجازن ذلك آخرون منهم: عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى في النساء مجودًا. انتهى منه.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: الخلاف في هذه المسألة مشهور معروف، وأرجح القولين دليلًا فيما يظهر أن الزنى لا يحرم به حلال، فبنته من الزنى ليست بينًا له شرعًا، وقد أجمع أهل العلم أنها لا تدخل في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] فالإجماع على أنها ترث، ولا تدخل في آيات المواريث، دليل صريح على أنها أجنبية منه، وليست بنتًا شرعًا، ولكن الذي يظهر لنا أنه لا ينبغي له أن يتزوجها بحال. وذلك لأمرين:
الأول: أن كونها مخلوقة من مائة، يجعلها شبيهة شبهًا صوريًا بابنته شرعًا وهذا الشبه القوي بينهما ينبغي أن يزعه عن تزويجها.
الأمر الثاني: أنه لا ينبغي له أن يتلذذ بشيء سبب وجوده معصيته لخالقه جل وعلا، فالندم على فعل الذنب الذي هو ركن من أركان التوبة، لا يلائم التلذذ بما هو ناشئ عن نفس الذنب، وما ذكره عن الشافعي من أنه يقول: إن البنت من الزنى لا تحرم، هو مراد الزمخشري بقوله:
وإن شافعيًا قلت قالوا بأنني ** أبيح نكاح البنت والبنت تحرم

تنبيه:
اعلم أنما ذكره صاحب الدر المنثور عن قتادة مما يقتضي أنه استنبط من قوله تعالى في هذه الآية: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} أن الصهر كالنسب في التحريم، وأن كل واحد منهما تحرم منهما تحرم به سبع نساء، لم يظهر لي وجهه، ومما يزيده عدم ظهور ضعف دلالة الاقتران عند أهل الأصول، كما تقدم إيضاحه مرارًا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} تقدم إيضاحه في سورة الحج وغيرها.
قوله تعالى: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيرًا}. الظهير في اللغة: المعين، ومنه قوله تعالى: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17].
ومعنى قوله في هذه الآية الكريمة: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيرًا} على أظهر الأقوال، وكان الكافر معينًا للشيطان، وحزبه من الكفرة على عداوة الله ورسله، فالكافر من حزب الشيطان يقاتل في سبيله أولياء الله الذين يقاتلون في سبيل الله، فالكافر يعين الشيطان وحزبه في سعيهم، لأن تكون كلمة الله ليست في العليا، وهذا المعنى دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان} [النساء: 76] الآية، ومعلوم أن الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، المقاتلين في سبيل الله، أنه على ربه ظهير.
وقوله تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} [يس: 74- 75] على قول من قال: إن الجند المحضرون هم الكفار، يقاتلون عن آلهتهم ويدافعون عنها، ومن قاتل عن الأصنام مدافعًا عن عبادتها، فهو على ربه ظهير، وكونه ظهيرًا على ربه أي معينًا للشيطان، وحزبه على عداوة الله ورسله، ككونه عدوًا له المذكور في قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت: 19] ومعلوم بالضرورة أن جميع الخلق لو تعاونوا على عداوة الله لا يمكن أن يضروه بشيء وإنما يضرون بذلك أنفسهم: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد} [فاطر: 15]. اهـ.