فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}.
يريد بالجنة مبشرًا ونذيرًا من النار؛ وما أرسلناك وكيلًا ولا مسيطرًا.
{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحي.
و{مِن} للتأكيد.
{إِلاَّ مَن شَاءَ} لكن من شاء؛ فهو استثناء منقطع، والمعنى: لكن من شاء {أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا} بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق.
ويجوز أن يكون متصلًا ويقدّر حذف المضاف؛ التقدير: إلا أجر {مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا} باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} تقدم معنى التوكل في آل عمران وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزّه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء.
والتسبيح التنزيه، وقد تقدم.
وقيل: {وَسَبِّحْ} أي صلّ له؛ وتسمى الصلاة تسبيحًا.
{وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي عليمًا فيجازيهم بها.
قوله تعالى: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} تقدم في الأعراف.
و{الَّذِي} في موضع خفض نعتًا للحيّ.
وقال: {بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهن؛ لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين؛ كقول القُطَامِيّ:
ألم يحزنك أن حبال قيس ** وتغلب قد تباينتا انقطاعًا

أراد وحبال تغلب فثنّى، والحبال جمع؛ لأنه أراد الشيئين والنوعين.
{الرحمن فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه.
وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن؛ كما قال تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع} [المعارج: 1] وقال الشاعر:
هَلاَّ سألتِ الخيل يابنة مالك ** إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

وقال عَلْقَمة بن عَبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ** خبيرٌ بأدواء النساءِ طبيبُ

أي عن النساء وعما لم تعلمي.
وأنكره عليّ بن سليمان وقال: أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن؛ لأن في هذا إفسادًا لمعاني قول العرب: لو لقيت فلانًا للقيك به الأسد؛ أي للقيك بلقائك إياه الأسد.
المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرًا.
وكذلك قال ابن جبير: الخبير هو الله تعالى.
ف {خَبِيرًا} نصب على المفعول به بالسؤال.
قلت: قول الزجاج يخرّج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله؛ أي فاسأل عنه خبيرًا، أي عالمًا به، أي بصفاته وأسمائه.
وقيل: المعنى فاسأل له خبيرًا، فهو نصب على الحال من الهاء المضمرة.
قال المهدوِيّ: ولا يحسن حالًا إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسئول، ولا يصح كونها حالًا من الفاعل؛ لأن الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره.
ولا يكون من المفعول؛ لأنّ المسئول عنه وهو الرحمن خبير أبدًا، والحال في أغلب الأمر يتغير وينتقل؛ إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة؛ مثل: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] فيجوز.
وأما {الرَّحْمَنُ} ففي رفعه ثلاثة أوجه: يكون بدلًا من المضمر الذي في {اسْتَوَى}.
ويجوز أن يكون مرفوعًا بمعنى هو الرحمن.
ويجوز أن يكون مرفوعًا بالابتداء وخبره {فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا}.
ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحيّ الذي لا يموت الرحمنِ؛ يكون نعتًا.
ويجوز النصب على المدح.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} أي لله تعالى.
{قَالُواْ وَمَا الرحمن} على جهة الإنكار والتعجب، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب.
وزعم القاضي أبو بكر ابن العربيّ أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدلّ على ذلك بقوله: {وَما الرَّحْمنُ} ولم يقولوا ومن الرحمن.
قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} [الرعد: 30].
{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هذه قراءة المدنيين والبصريين؛ أي لما تأمرنا أنت يا محمد.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وقرأ الأعمش وحمزة والكسائيّ: {يأْمُرُنَا} بالياء.
يعنون الرحمن؛ كذا تأوّله أبو عبيد، قال: ولو أقرّوا بأنّ الرحمن أمرهم ما كانوا كفارًا.
فقال النحاس: وليس يجب أن يتأوّل عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم {أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنا} النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب تناولًا.
{وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورًا عن الدِّين.
وكان سفيان الثوريّ يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعًا ما زاد عداك نفورًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وما أرسلناك إلاّ مبشرًا ونذيرًا}.
سلّي نبيه بذلك أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإنما أنت رسول تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة بالنار، ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين.
ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلًا لوجوه التهم بقوله: {قل لا أسألكم عليه من أجر} أي لا أطلب مالًا ولا نفعًا يختص بي.
والضمير في {عليه} عائد على التبشير والإنذار، أو على القرآن، أو على إبلاغ الرسالة أقوال.
والظاهر في {إلاّ من شاء} أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور.
فعلى هذا قيل بعباده {لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا} فليفعل.
وقيل: لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه فهو مسئولي.
وقيل: هو متصل على حذف مضاف تقديره: إلاّ أجر من اتخذ إلى ربه سبيلًا أي إلاّ أجر من آمن أي الأجر الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله، لأنه تعالى يأجرني على ذلك.
وقيل: إلاّ أجر من آمن من يعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي لا أسألكم أجرًا إلاّ الإنفاق في سبيل الله، فجعل الإنفاق أجرًا.
ولما أخبر أنه فطم نفسه عن سؤالهم شيئًا أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به واعتماده عليه فهو المتكفل بنصره وإظهار دينه.
ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي التوكل في قوله: {الحي الذي لا يموت} لأن هذا المعنى يختص به تعالى دون كل حي كما قال: {كل شيء هالك إلاّ وجهه} وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقرونًا بالثناء عليه لأن التنزيه محله اعتقاد القلب والمدح محله اللسان الموافق للأعتقاد.
وفي الحديث: «من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. وهي الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان».
{وكفى به بذنوب عباده خبيرًا} أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم.
وفي هذه الجملة تسلية للرسول ووعيد للكافر.
وفي بعض الأخبار كفى بك ظَفرًا أن يكون عدوك عاصيًا وهي كلمة يراد بها المبالغة تقول: كفى بالعلم جمالًا.
وكفى بالأدب مالًا، أي حسبك لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم.
ولما أمره بالتوكل والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على القدرة التامة وهو إيجاد هذا العالم.
وتقدم الكلام في نظير هذا الكلام واحتمل {الذي} أن يكون صفة للحي الذي لا يموت.
ويتعين على قراءة زيد بن عليّ {الرحمن} بالجر وأما على قراءة الجمهور {الرحمن} بالرفع فإنه يحتمل أن يكون {الذي} صفة للحي و{الرحمن} خبر مبتدأ محذوف.
ويحتمل أن يكون {الذي} مبتدأ و{الرحمن} خبره.
وأن يكون {الذي} خبر مبتدأ محذوف، و{الرحمن} صفة له.
أو يكون {الذي} منصوبًا على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون {الرحمن} مبتدأ.
و{فاسأل} خبره تخريجه على حد قول الشاعر:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم

وجوزوا أيضًا في {الرحمن} أن يكون بدلًا من الضمير المستكن في {استوى}.
والظاهر تعلق به بقوله: {فاسال} وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن.
و{خبيرًا} من صفات الله كما تقول: لقيت بزيد أسدًا ولقيت بزيد البحر، تريد أنه هو الأسد شجاعة، والبحر كرمًا.
والمعنى أنه تعالى اللطيف العالم الخبير والمعنى {فاسأل} الله الخبير بالأشياء العالم بحقائقها.
قال ابن عطية: و{خبيرًا} على هذا منصوب إما بوقوع السؤال، وإما على الحال المؤكدة.
كما قال: {وهو الحق مصدقًا} وليست هذه الحال منتقلة إذا الصفة العلية لا تتغير. انتهى.
وبني هذا الإعراب على أنه كما تقول: لو لقيت فلانًا للقيت به البحر كرمًا أي لقيت منه.
والمعنى {فاسأل الله} عن كل أمر وكونه منصوبًا على الحال المؤكدة على هذا التقدير لا يصح إنما يصح أن يكون مفعولًا به، ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن، أي {فاسأل} عنه {خبيرًا} كما قال الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ** بصير بأدواء النساء طبيب

وهو قول الأخفش والزجاج.
ويكون {خبيرًا} ليس من صفات الله هنا، كأنه قيل: اسأل عن الرحمن الخبراء جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة، وإن جعلت {به} متعلقًا بخبيرًا كان المعنى {فاسأل} عن الله الخبراء به.
وقال الكلبي معناه {فاسأل} خبيرًا به و{به} يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، وذلك الخبير هو الله تعالى لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق ذلك فلا يعلمها إلاّ الله.
وعن ابن عباس: الخبير جبريل وقدم لرءوس الآي.
وقال الزمخشري: الباء في {به} صلة سل كقوله: {سأل سائل بعذاب} كما يكون عن صلته في نحو {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} أو صلة {خبيرًا} به فتجعل {خبيرًا} مفعولًا أي، فسل عنه رجلًا عارفًا يخبرك برحمته، أو فسل رجلًا خبيرًا به وبرحمته، أو فسل بسؤاله خبيرًا.
كقولك، رأيت به أسدًا أي رأيت برؤيته، والمعنى إن سألته وجدته خبيرًا بجعله حالًا عن به تريد فسل عنه عالمًا بكل شيء.
وقيل: {الرحمن} اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه.