فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قد قدمنا الآية التي فيها تفصيل ذلك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54].
قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}.
قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} الآية.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن أي قال لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون، تجاهلوا الرحمن، وقالوا: وما الرحمن، وأنكروا السجود له تعالى، وزادهم ذلك نفورًا عن الإيمان والسجود للرحمن، وما ذكره هنا من أنهم أمروا بالسجود له وحده جل وعلا جاء مذكورًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37:].
وقوله تعالى: {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} [النجم: 62] وقد وبخهم تعالى على عدم امتثال ذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ} [الإنشقاق: 21]. وقوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] وتجاهلهم للرحمن هنا أجابهم عنه تعالى بقوله: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 14].
وقوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]. وقد قدمنا طرفًا من هذا في الكلام على هذه الآية؛ وقد قدمنا أيضًا أنهم يعلمون أن الرحمن هو الله، وأن تجاهلهم له تجاهل عارف، وأدلة ذلك. وقوله هنا: وزادهم نفورًا، جاء معناه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41].
وقوله تعالى: {بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)}.
صحيح أن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] لكن لا يعني هذا أن يهلك رسول الله نفسه في دعوتهم، ويألم أشد الألم لعدم إيمانهم؛ لأن مهمة الرسول البلاغ، وقد أسف رسول الله لحال قومه حتى خاطبه ربه بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6].
وما أمره الله بجهاد الكفار والمنافقين إلا ليحفزه، فلا يترك جُهْدًا إلا بذله معهم، وإلاّ فأنت عندي مُبشِّر ومُنذِر {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا} [الفرقان: 56] أي: بالخير قبل أوانه ليتلفت الناس إلى وسائله {وَنَذِيرًا} [الفرقان: 56] أي: بالشر قبل أوانه ليحذره الناس، ويجتنبوا أسبابه ووسائله.
ثم يوجه رب العزة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، في آية أخرى: يقول تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40].
يعني: غير قادرين على دَفْع الثمن؛ لأنهم بخلاء وعندهم كزازة؟ أو لا يريدون أنْ يُخرِجوا من جيوبهم شيئًا تنتفع أنت به؟ مع أنك لم تسألهم أجرًا، فهل يعني ذلك أن النبي كان من المفروض أن يسألهم أجرًا؟
قالوا: نعم؛ لأنه إذا قدَّم إنسانٌ لإنسان شيئًا نافعًا، فعليه أن يدفع له أجرًا بمقتضى التبادل والمعاوضة، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم: لقد قدَّمتُ إليكم جميلًا يفترض أن لي عليه أجرًا، لكني لا أريد منكم أجرًا، والمسألة من عندي تفضُّل.
وما هو الأجر؟ الأجر: جُعْلٌ يقابل عملًا، والثمن: جعل يقابل تملُّكًا، وقيمة هذا الجُعْل تختلف باختلاف مشقة العمل، وطُول زمنه، ومهارة العامل فيما يقتضيه العمل ومخاطر ما يقتضيه العمل.
فكل مسألة من هذه ترفع من قيمة الأجر، فحين تسافر مثلًا تحتاج إلى شيَّال يحمل لك الحقائب، فتعطيه الأجر الذي يتناسب ومجهوده، فإن استأجرت سيارة وسِرْتَ بها مسافة فلابد أن الأجر سيزيد؛ لأنه أخَذ مجهودًا ووقتًا أكثر، فإن احتجتَ مثلًا سباكًا ليصلح لك شيئًا فسوف ترى ما في هذا العمل من المشقة، ولا تبخل عليه بأكثر من سابقيه.
وربما كان العمل في نظرك بسيطًا لا يستغرق وقتًا، لكنه يحتاج إلى مهارة. هذه المهارة ليست وليدة اللحظة، ولكنها مجهود ونتيجة عوامل من التعلُّم والخبرة حتى وصل صاحبها إلى هذه المهارة.
فالمهندس مثلًا الذي يُصمِّم لك منزلك في ساعة أو ساعتين، ومع ذلك يطلب مبلغًا كبيرًا، لماذا؟ لأنه لا يتقاضى أجرًا على هذا الوقت، إنما على سنواتٍ طويلة من الدراسة والمجهود والتحصيل، حتى وصل إلى هذه المهارة.
إذن: كل أجر يُقدَّر بما يقابله من عمل، ويتناسب مع ما يقتضيه العمل من وقت ومجهود ومشقة ومخاطرة ومهارة. إلخ.
وإذا كان الأمر كذلك فانظروا إلىعمل الرسول وإلى مدى إفادتكم من رسالته، انظروا إلى المنهج الذي جاءكم به، وكيف أنه يريحكم مع أنفسكم، ويريحكم مع المجتمع، ويريحكم مع ربكم عز وجل، ويريحكم من شرور أنفسكم، ومن شرور الناس جميعًا.
إذن: للرسول عمل كبير ومجهود عظيم، لو قدَّرْتَ له أجرًا لكان كذلك عظيمًا. إن الإنسان إذا أَجَّر مثلًا حارسًا يحرسه بالليل، كم يدفع له؟ فالنبي يأتيك بمنهج يحرسك ويحميك في نفسك وفي مالك وفي عِرْضك وفي كل ما تملك، ولا يحميك من فئة معينة إنما يحميك من الناس أجمعين.
بل إن حماية منهج الله لك لا تقتصر على الدنيا، إنما تتعدَّى إلى الآخرة، فتحميك فيها حماية ممتدة لا نهايةَ لها، فإنْ قدَّرْت لهذه الحماية أجرًا، فكم يكون؟
إنما أنا أقول لك: لا أريد أجرًا، لا كراهيةً في الأجر، بل لأنك أنت أيها الإنسان لا تستطيع تقدير هذا العمل أو تقييم الأجر عليه، أمَّا الذي يُقدِّر ذلك فهو ربِّي الذي بعثني، وأنت أيها العبد مهما قدَّمْتَ لي من أجر على ذلك فهو قليل.
وحكينا قصة الرجل الطيب الذي قابلناه في الجزائر، يقف على الطريق يُلوِّح لسيارة تحمله، فوقفنا وفتحنا له الباب ليركب معنا، وقبل أن يركب قال: بكَمْ؟ يعني: الأجرة. فقال له صاحبي: لله، فقال الرجل: إذن فهي غالية جدًا. هذا هو المعنى في قوله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29].
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] فما العلاقة بين الأجر وبين {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72]؟
كأن المسلم ينبغي عليه أن يعمل العمل، لا لمن يعمل له، ولكن يعمله لله ليأخذ عليه الأجر الذي يناسب هذا العمل من يده تعالى، إنما إنْ أخذه من صاحبه فهو كالذي فعل ليقال وقد قيل وانتهتْ المسألة، وربما حتى لا يُشكر على عمله.
لذلك وردتْ هذه العبارة على ألسنة كل الرسل: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109] وليس هناك آية طلب فيها الأجر الظاهر إلا هذه الآية التي نحن بصددها: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57].
وقوله تعالى: {إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23].
ومعنى: {إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] أي: سبيلًا للمثوبة، وسبيلًا للأجر من جهاد في سبيل الله، أو صدقة على الفقراء. إلخ.
وقوله: {إِلاَّ مَن شَاءَ} [الفرقان: 57] تدل على التخيير في دَفْع الأجر، فالرسول لا يأخذ إلا طواعية، والأجر: {أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] من الجهاد والعمل الصالح، فكأن أجر الرسول العمل للغير، لتأخذ أنت الأجر من الله، فالرسول لا يأخذ شيئًا لنفسه.
ونلحظ في آيات الأَجْر أنها جاءت مرة {أَجْرًا} [الأنعام: 90] ومرة {مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] والبعض يرى أن {من} هنا زائدة، وهذا لا يُقال في كلام الله، عَيْب أن نتهم كلام الله بأن فيه زيادة، فكلُّ حرف فيه له معناه.
وسبق أن ضربنا لمِنْ هذه مثلًا بقولنا: ما عندي مال، وما عندي من مال. فالأولى نفَتْ أنْ يكون عندك مالٌ يُعتدُّ به، لكن قد يكون عندك القليل منه، أما القول الثاني فيعني نَفْي المال مطلقًا بدايةً مِمَّا يقال له مال، إذن: فأيّهما أبلغ في النفي؟ فمِنْ هنا تفيد العموم.
لذلك يقول تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] لماذا؟ لأنه سيعطيك ويُكافئك على قَدْره هو، وبما يناسب جُودَه تعالى وكرمه الذي لا ينفد، أما الإنسان فسيعطيك على قَدْره وفي حدود إمكاناته المحدودة.
مَلْحظ آخر في هذه المسألة في سورة الشعراء، وهي أحفَلُ السُّور بذِكْر مسألة الأجر، حيث تعرَّضَتْ لموكب الرسل، فذكرت ثمانية هم: موسى وهارون وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
تلحظ أن كل هؤلاء الرسل قالوا: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109] عدا إبراهيم وموسى عليهما السلام لم يقولا هذه الكلمة، لماذا؟
قالوا: لأنك حين تطلب أجرًا على عمل قمتَ به لا يكون هناك ما يُوجب عليك أنْ تعمل له مجانًا، فأنت لا تتقاضى أجرًا إنْ عملتَ مثلًا مجاملةً لصديق، وكذلك إبراهيم عليه السلام أول ما دعا إلى الإيمان دعا عمه آزر، ومثل هذا لا يطلب منه أجرًا، وموسى عليه السلام أول ما دعا دعا فرعون الذي احتضنه وربَّاه في بيته، ولو طلب منه أجرًا لقال له: أيّ أجر وقد ربَّيتك وو. إلخ.
الآية الأخرى في الاستثناء هي قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] فكأن المودة في القربى أجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رسالته، لكن أيُّ قُرْبى: قُرْبى النبي أم قُرْباكم؟
لا شكَّ أن النبي الذي يجعل حُبَّ القريب للقريب ورعايته له هو أجره، يعني بالقُرْبى قُرْبى المسلمين جميعًا، كما قال عنه ربُّه عَزَّ وجَلَّ: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)}.
الحق تبارك وتعالى يُطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم يا محمد لا تهتم بكثرة الكفار ومكرهم بك وتعاونهم مع شياطين الإنس والجن؛ لأن هؤلاء سيتساقطون ويموتون، إما بأيديكم، أو بعذاب من عند الله، وعلى فَرْض أنهم عاشوا فلن تغلب قوتهم وحِيلُهم قوة الله تعالى ومكره، وإنْ توكلوا على أصنام لا تضر ولا تنفعَ، فتوكل أنت على الله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
والعاقل لا يتوكل إلا عل مَنْ يثق به ويضمن معانوته، وأنه سيوافقك في كل ما تريد، لكن ما جدوى أنْ تتوكل على أحد ليقضي لك مصلحة، وفي الصباح تسمع خبر موته؟
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن ينصِّح خَلْقه: إنْ أردتَ أنْ تتوكل فتوكل على مَنْ ينفعك ولا يتركك، على مَنْ يظل على العهد معك لا يتخلى عنك، على مَنْ لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. هذه هي الفِطْنة.
لكن ما جدوى أن تتوكل على مَنْ ليس فيه حياة؟ وعلى فرض أن فيه حياةً دائمة فلا تضمن ألا يتغير قلبه عليك؟.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] سبِّح يعني: نزِّه، والتنزيه تضعه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلله وجود، ولك وجود، لكن وجوده تعالى ليس كوجودك، ولله صفة ولك نفس الصفة، لكن صفته تعالى ليست كصفتك، ولله تعالى فعل، ولك فعل، لكن فعله تعالى ليس كفعلك.