فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}.
لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالًا عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما، ووصف نفسه بالرحمن، وسألوا هم فيه عما وضع في السماء من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار لبادروا بالسجود والعبادة للرحمن، ثم نبههم على مالهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها.
والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب وهي منازل الكواكب السيارة وهي الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.
سميت بذلك لشبهها بما شبهت به.
وسميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البرج من التبرج لظهوره.
وقيل: البروج هنا القصور في الجنة.
قال الأعمش.
وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها {في السماء} قصورًا.
وقال أبو صالح: البروج هنا الكواكب العظام.
قال ابن عطية: والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل.
والضمير في {فيها} الظاهر أنه عائد على {السماء}.
وقيل: على البروج، فالمعنى وجعل في جملتها {سراجًا}.
وقرأ الجمهور {سراجًا} على الإفراد وهو الشمس.
وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش والأخوان سُرُجًا بالجمع مضموم الراء وهو يجمع الأنوار، فيكون خص القمر بالذكر تشريفًا.
وقرأ الأعمش أيضًا والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء.
وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم {وقُمرًا} بضم القاء وسكون الميم فالظاهر أنه لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب.
وقيل: جمع قمراء أي ليلة قمراء كأنه قال: وذا قمر منير لأن الليلة تكون قمراء بالقمر، فأضافه إليها ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه قول حسان:
بردى يصفق بالرحيق السلسل

يريد ماء بردى.
فمنيرًا وصف لذلك المحذوف كما قال يصفق بالياء من تحت، ولو لم يراع المضاف لقال: تصفق بالتاء وقال: {منيرًا} أي مضيئًا ولم يجعله {سراجًا} كالشمس لأنه لا توقد له.
وانتصب {خلفة} على الحال.
فقيل: هو مصدر خلف خلفة.
وقيل: هو اسم هيئة كالركبة ووقع حالًا اسم الهيئة في قولهم: مررت بماء قعدة رجل، وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر.
والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ومنه قوله: {واختلاف الليل والنهار} ويقال: بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرًا إلى متبرزه ومن هذا المعنى قول زهير:
بها العيس والآرام يمشين خلفة

وقول الآخر:
يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبًا:
ولها بالما طرون إذا ** أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتفعت ** سكنت من جلق بيعا

في بيوت وسط دسكرة ** حولها الزيتون قد ينعا

وقيل {خلفة} في الزيادة والنقصان.
وقال مجاهد وقتادة والكسائي: هذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير.
{لمن أراد أن يذكر}.
قال عمر وابن عباس والحسن: معناه {لمن أراد أن يذكر} ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه.
وقال مجاهد وغيره: أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم.
وقال الزمخشري: وعن أُبي بن كعب يتذكر والمعنى.
لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لابد لانتقالهما من حال إلى حال وتغيرهما من نافل ومغير، ويستدل بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على النعمة من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من العبادة أتى به في الآخر.
وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن عليّ وطلحة وحمزة تذكر مضارع ذكر خفيفًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{تَبَارَكَ الذي جَعَلَ في السماء بُرُوجًا}.
هي البروجُ الاثنا عشرَ، سُّمِّيتْ به، وهي القُصور العاليةُ لأنَّها للكواكبِ السَّيارةِ كالمنازلِ الرَّفيعةِ لسُكَّانِها. واشتقاقُه من البُرجِ لظهورِه {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} هي الشَّمسُ لقوله تعالى: {وجعل الشَّمسَ سراجًا} وقرئ {سُرُجًا} وهي الشَّمسُ والكواكبُ الكبارُ {وَقَمَرًا مُّنِيرًا} مُضيئًا بالليَّل وقرئ قُمْرًا أي ذات قمرٍ وهي جمعُ قَمراءَ ولما أنَّ اللَّياليَ بالقمرِ تكونُ قمراءَ أُضيف إليها ثمَّ حُذفَ وأُجريَ حكمُه على المضافِ إليهِ القائمِ مقامَهُ كما في قولِ حسَّانَ رضَي الله عنْهُ:
بردى يُصفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلسلِ

أي ماءُ بَردى ويُحتمل أنَّ يكونَ بمعنى القمرِ كالرَّشدِ والرُّشدِ والعَرَبِ والعُرْبِ.
{وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً}.
أي ذَوَي خلفةٍ يخلفُ كلٌّ منهما الآخرَ بأنْ يقومَ مقامَه فيما ينبغي أنْ يَعملَ فيه أو بأنْ يَعتِقبا كقولِه تعالى: {واختلاف الليل والنهار} وهي اسمٌ للحالةِ من خلفَ كالرِّكبةِ والجِلسةِ من رَكِبَ وجَلَس. {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي يتذكَّر آلاءَ الله عزَّ وجلَّ ويتفكَّر في بدائعِ صُنَعهِ فيعلم أنَّه لابد لها من صانعٍ حكيمٍ واجبِ الذَّاتِ رحيمٍ للعبادِ {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي أنْ يشكَر الله تعالى على ما فيهما من النِّعمِ أو ليكونا وقتينٍ للذَّاكرينَ مَن فاتَهُ وِرْدُه في أحدِهما تدارَكه في الآخرةِ. وقرئ أنْ يذكُرَ من ذَكَر بمعنى تذكَّر. اهـ.

.قال الألوسي:

{تَبَارَكَ الذي جَعَلَ في السماء بُرُوجًا}.
الظاهر أنها البروج الإثنا عشر المعروفة وأخرج ذلك الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهي في الأصل القصور العالية وأطلقت عليها على طريق التشبيه لكونها للكواكب كالمنازل الرفيعة لساكنيها ثم شاع فصار حقيقة فيها، وعن الزجاج أن البرج كل مرتفع فلا حاجة إلى التشبيه أو النقل.
واشتقاقه من التبرج بمعنى الظهور، والذي يقتضيه مشرب أهل الحديث أنها في السماء الدنيا ولا مانع منه عقلًا لاسيما إذا قلنا بعظم ثخنها بحيث يسع الكواكب وما تقتضيه على ما ذكره أهل الهيئة وهي عندهم أقسام الفلك الأعظم المسمى على ما قيل بالعرش ولم يرد فيما أعلم إطلاق السماء عليه وإن كان صحيحًا لغة سميت بأسماء صور من الثوابت في الفلك الثامن وقعت في محاذاتها وقت اعتبار القسمة وتلك الصور متحركة بالحركة البطيئة كسائر الثواب، وقد قارب في هذه الأزمان أن تخرج كل صورة عما حاذته أولًا وابتداؤها عندهم من نقطة الاعتدال الربيعي وهي نقطة معينة من معدل النهار لا تتحرك بحركة الفلك الثامن ملاقية لنقطة أخرى من منقطة البروج تتحرك بحركته وإذا لم يتحرك مبدأ البروج بتلك الحركة لم يتحرك ما عداها، وقد جعل الله تعالى ثلاثة منها ربيعية وهي الحمل والثور والجوزاء وتسمى التوأمين أيضًا، وثلاثة صيفية وهي السرطان والأسد والسنبلة وتسمى العذراء أيضًا وهذه الستة شمالية وثلاثة خريفية وهي الميزان والعقرب والقوس ويسمى الرامي أيضًا، وثلاثة شتوية وهي الجدي والدلو ويسمى الدالي وساكب الماء أيضًا والحوت تسمى السمكتين وهذه الستة جنوبية، ولحلو الشمس في كل من الأثني عشر يختلف الزمان حرارة وبرودة الليل والنهار طولًا وقصرًا وبذلك يظهر بحكم جري العادة في عالم الكون والفساد آثار جليلة من نضج الثمار وإدراك الزروع ونحو ذلك مما لا يخفى، ولعل ذلك هو وجه البركة في جعلها.
وأما ما يزعمه أهل الأحكام من الآثار إذا كان شيء منها طالعًا وقت الولادة أو شروع في عمل من الأعمال أو وقت حلول الشمس نقطة الحمل الذي هو مبدأ السنة الشمسية في المشهور فهو محض ظن ورجم بالغيب وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك مفصلًا، ولهم في تقسيمها إلى مذكر ومؤنث وليلي ونهاري وحار وبارد وسعد ونحس إلى غير ذلك كلام طويل ولعلنا نذكر شيئًا منه بعد أن شاء الله تعالى، ومن أراده مستوفى فليرجع إلى كتبهم، ثم الظاهر أن البروج المجعولة مما لا دخل للاعتبار فيها، والمذكور في كلام أهل الهيئة أنها حاصلة من اعتبار فرض ست دوائر معلومة قاطعة للعالم فيكون للاعتبار دخل فيها وإن لم تكن في ذلك كأنياب الأغوال لوجود مبدأ الانتزاع فيها فإن كان الأمر على هذا الطرز عند أهل الشرع بأن يعتبر تقسيم ما هي فيه إلى اثنتي عشرة قطعة وتسمى كل قطعة برجا فالظاهر أن المراد بجعله تعالى إياها جعل ما يتم به ذلك الاعتبار ويتحقق به أمر التفاوت والاختلاف بين تلك البروج، وفيه من الخير الكثير ما فيه، وقيل: إن في الآية إيماء إلى أن اعتبار التقسيم كان عن وحي، والمشهور أن من اعتبر ذلك أولًا هرمس وهو على ما قيل ادريس عليه السلام فتأمل.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس، وقيل: هي القصور في الجنة، قال الأعمش: وكان أصحاب عبد الله يقرؤون في السماء قصورًا، وتعقب بأنه يأباه السياق لأن الآية قد سيقت للتنبيه على ما يقوم به الحجة على الكفرة الذين لا يسجدون للرحمن جل شأنه وبيان أنه المستحق للسجود ببيان آثار قدرته سبحانه وكماله جل جلاله، والظاهر أن يكون ذلك بذكر أمور مدركة معلومة لهم وتلك القصور ليست كذلك، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد أنها النجوم، وروي ذلك عن قتادة أيضًا، وعن أبي صالح تقييدها بالكبار وأطلق عليها ذلك لعظمها وظهورها لاسيما التي من أول المراتب الثلاثة للقدر الأول من الأقدار الستة.
وأنت تعلم أنه لم يعهد إطلاق البروج على النجوم فالأولى أن يراد بها المعنى الأول المروى عن ابن عباس الذي هو أظهر من الشمس {وَجَعَلَ فِيهَا} أي في السماء، وقيل: في البروج {سِرَاجًا} هي الشمس كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجًا} [نوح: 16] وقرأ عبد الله. وعلقمة. والأعمش. والأخوان {سِرَاجًا} بالجمع مضموم الراء، وقرأ الأعمش أيضًا. والنخعي. وابن وثاب كذلك إلا أنهم سكنوا الراء وهو على ما قيل من قبيل: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] لأن الشمس لعظمها وكمال إضاءتها لأنها سرج كثيرة أو الجمع باعتبار الأيام والمطالع، وقد جمعت لهذين الأمرين في قول الشاعر:
لمعان برق أو شعاع شموس

وعلى هذا القول تتحد القراءتان، وقال بعض الأجلة: الجمع على ظاهره، والمراد به الشمس والكواكب الكبار، ومنهم من فسره بالكواكب الكبار، واعترض على الأول بأنه يلزم تخصيص القمر بالذكر في قوله تعالى: {وَقَمَرًا مُّنِيرًا} بعد دخوله في السرج، والمناسب تخصيص الشمس لكمال مزيتها على ما سواها.