فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورد بأنه بعد تسليم دخوله في السرج خص بالذكر لأن سنيهم قمرية ولذا يقدم الليل على النهار وتعتبر الليلة لليوم الذي بعدها فهم أكثر عناية به مع أنه على ما ذكره يلزمه ترك ذكر الشمس وهي أحق بالذكر من غيرها والاعتذار عنه بأنها لشهرتها كأنها مذكورة ولذا لم تنظم مع غيرها في قرن لا يجدي.
والقمر معروف ويطلق عليه بعد الليلة الثالثة. إلى آخر الشهر، قيل: وسمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب، وفي الصحاح لبياضه وفي وصفه ما يشعر بالاعتناء به.
وعلى الفرق المشهور بين الضوء والنور يكون في وصفه بمنيرًا دون مضيئًا إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد من غيره وهو الشمس بل قال غير واحد: إن نور جميع الكواكب مستفاد منها وإن لم يظهر اختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها كما في نور القمر.
وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم {وَقَمَرًا} بضم القاف وسكون الميم؛ واستظهر أبو حيان أنها لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب، وقيل: هو جمع قمراء وهي الليلة المنيرة بالقمر والكلام على حذف مضاف أي وذا قمر أي صاحب ليال قمر، والمراد بهذا الصاحب القمر نفسه ويكون قوله سبحانه: {مُّنِيرًا} صفة لذلك المضاف المحذوف لأن المحذوف قد يعتبر بعد حذفه كما في قول حسان رضي الله تعالى عنه:
بردى يصفق بالرحيق السلسل

فإنه يريد ماء بردى ولذا قال يصفق بالياء من تحت ولو لم يراع المضاف لقال تصفق بالتاء.
{وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً}.
أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه وروي هذا عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقيل: بأن يعقبه ويجيء بعده وهو اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس.
ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل أو حال إن كان بمعنى خلق.
وجعله بعضهم بمعنى اختلافًا والمراد الاختراف في الزيادة والنقصان كما قيل أو في الوساد والبياض كما روي عن مجاهد أو فيما يعم ذلك وغيره كما هو محتمل؛ وفي البحر يقال: بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرًا إلى متبرزه.
ومن هذا المعنى قول زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة ** واطلاؤها ينهضن من كل مجثم

وقول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبًا:
ولها بالماطرون إذا ** أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتفعت ** سكنت من جلق بيعا

في بيوت وسط دسكرة ** حولها الزيتون قد نبعا

انتهى وجوز عليه أن يكون المراد يذهب كل منهما ويجيء كثيرًا واعتبار المضاف المقدر على حاله وكذا فيما قبله وفي القاموس الخلف والخلفة بالكسر المختلف وعليه لا حاجة إلى تقدير المضاف.
والمعنى جعلهما مختلفين والإفراد لكونه مصدرًا في الأصل {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي ليكونا وقتين للمتذكر من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركة في الآخر، وروي هذا عن جماعة من السلف، وروي الطيالسي وابن أبي حاتم أن عمر رضي الله تعالى عنه أطال صلاة الضحى فقيل له: صنعت شيئًا لم تكن تصنعه قال: إنه بقي على من وردى شيء فأحببت أن أتمه أو قال: أقضيه وتلا هذه الآية.
وكأن التذكر مجاز عن أداء ما فات وهو مما يتوقف الأداء عليه، وفي الكلام تقدير كما أشير إليه.
ويجوز أن يكون تقدير معنى لا إعراب {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أن يشكر الله تعالى بأداء نوع من العبادة لم يكن وردًا له.
وفي مجمع البيان المعنى لمن أراد النافلة بعد أداء الفريضة، ويجوز أن يكون المعنى لمن أراد أن يتذكر ويتفكر في بدائع صنع الله تعالى فيعلم أنه لابد لما ذكر من صانع حكيم واجب الذات ذي رحمة على العباد أو أراد أن يشكر الله سبحانه على ما فيهما من النعم وهو وجه حسن يكاد لا يلتفت لغيره لو لم يكن مأثورًا، والظاهر أن اللام على هذا صلة {جَعَلَ} ولما كان ظهور فائدة ذلك لمن أراد التذكر أو أراد الشكر اقتصر عليه، وجوز أن تكون للتعليل و{أَوْ} للتنويع على معنى الاشتمال على هذين المعنيين أو للتخيير على معنى الاستقلال بكل ولا منع من الاجتماع.
وفائدة هذا الأسلوب إفادة الاستقلال ولو ذكر الواو بدلها لتوهم المعية، ولعل في التعبير أولًا بأن والفعل دون المصدر الصريح كما في الشق الثاني مع أنه أخصر إيماء إلى الاعتناء بأمر التذكر فتذكر.
وقرأ أبي بن كعب {إن يَتَذَكَّرُ} وهو أصل ليذكر فابدل التاء ذالا وأدغم.
وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة {أَن يَذَّكَّرَ} مضارع ذكر الثلاثي بمعنى تذكر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}.
استئناف ابتدائي جعل تمهيدًا لقوله: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوْنًا} [الفرقان: 63] الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة، وافتتحت كل دعامة منها ب {تبارك الذي} إلخ كما تقدم في صدر السورة.
وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع.
وتقدم {تبارك} أول السورة (1) وفي قوله: {تبارك الله رب العالمين} في الأعراف (54).
والبروج: منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون.
وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجًا} في أول سورة الحجر (16).
والامتنان بها لأن الناس يُوقّتون بها أزمانهم.
وقرأ الجمهور {سراجًا} بصيغة المفرد.
والسراج: الشمس كقوله: {وجعل الشمس سراجًا} في سورة نوح (16).
ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} [الفرقان: 62].
وقرأ حمزة والكسائي {سُرُجًا} بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم، فيكون امتنانًا بحسن منظرها للناس كقوله: {ولقد زيّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5].
والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6].
والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج: المصباح الزاهر الضياء.
والمقصود: أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج، أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر.
ودلالة خلق البروج وخلق الشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل، وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}.
الاستدلال هذا بما في الليل والنّهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور، وبرد وحر، مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر، وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله: {وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا والنوم سباتًا وجعل النهار نشورًا} [الفرقان: 47]، فهذه دلالة أخرى ونعمة أخرى والحِكَم في المخلوقات كثيرة.
والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافيًا فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله: {وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا إلى قوله وكان ربك قديرًا} [الفرقان: 47 54].
والخِلفة بكسر الخاء وسكون اللام: اسم لما يَخلف غيره في بعض ما يصلح له.
صيغ هذا الاسم على زنة فِعْلة لأنه في الأصل ذو خلفة، أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسمًا، قال زهير:
بها العين والآرام يَمشِينَ خِلفَةً ** وأطلاؤها ينهَضْن من كل مُجْثَم

أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا.
فالمعنى: جعل الليل خلفة والنهارَ خلفة: أي كلَّ واحد منهما خِلفة عن الآخر، أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر.
واللام في {لمن أراد أن يذكر} لام التعليل وهي متعلقة ب {جعل}، فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذّكر أو أراد شُكورًا.
والتذكر: تفعّل من الذِكر، أي تكلف الذكر.
والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين، وجاء بمعنى: تذكر فائت أو منسي، ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر.
والشكور: بضم الشين مصدر مرادف الشكر، والشكر: عرفانُ إحسان المحسن.
والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى.
فتفيد الآية معنى: لينظرَ في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لابد لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا والنوم سباتًا وجعل النهار نشورًا} [الفرقان: 47] فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم، وتفيد معنى: ليتداركَ الناسِي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيَه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله.
روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يومًا فقيل له: صنعت شيئًا لم تكن تصنعه؟ فقال: إنه بَقي عليَّ من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} الآية.
ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكرًا له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع.
وجيء في جانب المتذكرين بقوله: {أن يذكر} لدلالة المضارع على التجدد.
واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله: {أو أراد شكورًا} لأن الشكر يحصل دفعة.
ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل {أراد} إذ لا يلتئم عطف {شكورًا} على {أن يذكر}.
وقرأ الجمهور {أن يذَّكر} بتشديد الذال مفتوحة، وأصله: يتذكر فأدغمت التاء في الذال لتقاربهما.
وقرأ حمزة وخلف {أن يَذْكُر} بسكون الذال وضم الكاف وهو بمعنى المشدّد إلاّ أن المشدّد أشدّ عملًا، وكِلا العملين يستدركان في الليل والنهار. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}.
قد قدمنا كلام أهل العلم في معنى تبارك في أول هذه السورة الكريمة.
والبروج في اللغة: القصور العالية، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآية، فقال بعضهم: هي الكواكب العظام. قال ابن كثير: وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالحن والحسن، وقتادة، ثم قال: وقيل هي قصور في السماء للحرس. ويروى هذا عن علي، وابن عباس، ومحمد بن كعب، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن مهران الأعمش، وهو رواية عن أبي صالح أيضًا، والقول الأول أظهر اللهم إلا أن تكون الكواكب العظام، هي قصور للحرس فيجتمع القولان، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ} [تبارك: 5]. اهـ. محل الغرض من كلام ابن كثير.