فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)}.
في هذا الشوط يدع مقولات المشركين وجدالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليبدأ جولة في مشاهد الكون ومجاليه، يوجه إليها قلب الرسول ويصل بها مشاعره. وهذا الاتصال كاف وحده ليدفع خاطره عن مضايقات المشركين الصغيرة؛ ويفتح قلبه على تلك الآفاق الوسيعة التي يتضاءل معها كيد الكائدين وعداوة المجرمين.
والقرآن يوجه القلوب والعقول دائمًا إلى مشاهد هذا الكون؛ ويربط بينهما وبين العقول والقلوب. ويوقظ المشاعر لاستقبالها بحس جديد متفتح، يتلقى الأصداء والأضواء، وينفعل بها ويستجيب، ويسير في هذا الكون ليلتقط الآيات المبثوثة في تضاعيفه، المنثورة في أرجائه، المعروضة في صفحاته، ويرى فيها يد الصانع المدبر، ويستشعر آثار هذه اليد في كل ما تقع عليه عينه، وكل ما يلمسه حسه، وكل ما يلتقطه سمعه؛ ويتخذ من هذا كله مادة للتدبر والتفكر، والاتصال بالله، عن طريق الاتصال بما صنعت يداه.
وحين يعيش الإنسان في هذا الكون مفتوح العين والقلب، مستيقظ الحس والروح، موصول الفكر والخاطر؛ فإن حياته ترتفع عن ملابسات الأرض الصغيرة، وشعوره بالحياة يتسامى ويتضاعف معًا. وهو يحس في كل لحظة أن آفاق الكون أفسح كثيرًا من رقعة هذه الأرض؛ وأن كل ما يشهده صادر عن إرادة واحدة، مرتبط بناموس واحد، متجه إلى خالق واحد؛ وإن هو إلا واحد من هذه المخلوقات الكثيرة المتصلة بالله؛ ويد الله في كل ما حوله، وكل ما تقع عليه عينه، وكل ما تلمسه يداه.
إن شعورًا من التقوى، وشعورًا من الأنس، وشعورًا من الثقة لتمتزج في حسه، وتفيض على روحه، وتعمر عالمه، فتطبعه بطابع خاص من الشفافية والمودة والطمأنينة في رحلته على هذا الكوكب حتى يلقى الله. وهو يقضي هذه الرحلة كلها في مهرجان من صنع الله وعلى مائدة من يد الصانع المدبر الجميل التنسيق.
وفي هذا الدرس يتنقل السياق من مشهد الظل اللطيف، ويد الله تمده ثم تقبضه في يسر ولطف. إلى مشهد الليل وما فيه من نوم وسبات، والنهار وما فيه من حركة وانبعاث. إلى مشهد الرياح تبشر بالرحمة ثم يعقبها الماء المحيي للموات. إلى مشهد البحرين الفرات والأجاج وبينهما برزخ يمنعهما ويحجز بينهما فلا يختلطان. ومن ماء السماء إلى ماء النطفة، وإذا هو بشر يصرف الحياة. إلى مشهد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. إلى مشهد البروج في السماء وما فيها من سراج مضيء وقمر منير. إلى مشهد الليل والنهار يتعاقبان على مدار الزمان.
وفي خلال هذه المشاهد الموحية يوقظ القلب وينبه العقل إلى تدبر صنع الله فيها؛ ويذكر بقدرته وتدبيره؛ ويعجب معه إشراك المشركين، وعبادتهم مالا ينفعهم ولا يضرهم، وجهلهم بربهم وتطاولهم عليه، وتظاهرهم على الكفر والجحود والنكران.
فإذا هو تصرف عجيب مريب في وسط هذا الحشد المعروض من آيات الله، ومشاهد الكون الذي خلقه الله.
فلنعش نحن لحظات في ذلك المهرجان الذي يدعونا الخالق البارىء المصور إليه في طول الحياة.
{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنًا ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا ثم قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا}.
إن مشهد الظل الوريف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان. وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن، وتمسح على القرح والألم، وتهدهد القلب المتعب المكدود، أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعدما ناله من استهزاء ولأواء؟ وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة، وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد، في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين؛ ولم يؤذن له بعد في مقابلة الاعتداء بمثله وفي رد الأذى والتهجم والاستهزاء؟! إن هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو البلسم المريح، والظل الظليل، والروح المحيي في هجير الكفر والجحود والعصيان. وإن الظل وبخاصة في هجير الصحراء المحرق لهو المشهد الذي يتناسق مع روح السورة كلها وما فيها من أنداء وظلال.
والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفية التدبير تمده في رفق، وتقبضه في لطف: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}. {ثم قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا}.
والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار. وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس، فتتغير أوضاعه وامتداداته وأشكاله؛ والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها، وتميز مساحته وامتداده وارتداده. ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظة لطيفة شفيفة، وهي تتتبع صنع البارئ اللطيف القدير، وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب، وهي تطول وتطول، وتمتد وتمتد. ثم في لحظة. لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعًا. لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال. أين تراها ذهبت؟ لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها. لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي. ظل الليل والظلام!
إنها يد القدرة القوية اللطيفة. التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال.
{ولو شاء لجعله ساكنًا}. فبناء الكون المنظور على هذا النسق، وتنسيق المجموعة الشمسية هذا التنسيق هو الذي جعل الظل متحركًا هذه الحركة اللطيفة. ولو اختلف ذلك النسق أقل اختلاف لاختلفت آثاره في الظل الذي نراه. لو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا يقبض. ولو كانت سرعتها أبطأ أو أسرع مما هي عليه لكان الظل في امتداده وقبضه أبطأ أو أسرع.
فتنسيق الكون المنظور على ناموسه هذا هو الذي يسمح بظاهرة الظل، ويمنحها خواصها التي نراها.
وهذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم، ونمر بها غافلين، هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائمًا في ضمائرنا، وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي افقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة. وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب.
ومن مشهد الظل إلى مشهد الليل الساتر، والنوم الساكن، والنهار وما فيه من حركة ونشور:
{وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا والنوم سباتًا وجعل النهار نشورًا}.
والليل يستر الأشياء والأحياء فتبدو هذه الدنيا وكأنها تلبس الليل وتتشح بظلامه فهو لباس. وفي الليل تنقطع الحركة ويسكن الدبيب وينام الناس وكثير من الحيوان والطيور والهوام. والنوم انقطاع عن الحس والوعي والشعور. فهو سبات. ثم يتنفس الصبح وتنبعث الحركة، وتدب الحياة في النهار. فهو نشور من ذلك الموت الصغير، الذي يتداول الحياة على هذه الأرض مع البعث والنشور مرة في كل دورة من دورات الأرض الدائبة التي لا يصيبها الكلال. وهي تمر بالبشر وهم غافلون عما فيها من دلالة على تدبير الله، الذي لا يغفل لحظة ولا ينام.
ثم ظاهرة الرياح المبشرة بالمطر وما يبثه من حياء:
{وهو الذي أرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورًا لنحيي به بلدة ميتًا ونسقيه مما خلقنا أنعامًا وأناسي كثيرًا}.
والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة، وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض. ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه، ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكًا صحيحًا كاملًا. وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه، وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب، ويستبشرون بها؛ ويحسون فيها رحمة الله إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان.
والتعبير يبرز معنى الطهارة والتطهير: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} وهو بصدد ما في الماء من حياة. {لنحيي به بلدة ميتًا ونسقيه مما خلقنا أنعامًا وأناسي كثيرًا} فيلقي على الحياة ظلًا خاصًا. ظل الطهارة. فالله سبحانه أراد الحياة طاهرة نقية وهو يغسل وجه الأرض بالماء الطهور الذي ينشئ الحياة في الموات ويسقي الأناسي والأنعام.
وعند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلتفت إلى القرآن النازل من السماء كذلك لتطهير القلوب والأرواح؛ وكيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للأرواح:
{ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورًا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا}.
{ولقد صرفناه بينهم ليذكروا}. فعرضناه عليهم في صور شتى، وأساليب متعددة، ولفتات متنوعة؛ وخاطبنا به مشاعرهم ومداركهم، وأرواحهم وأذهانهم؛ ودخلنا عليهم به من كل باب من أبواب نفوسهم، وبكل وسيلة تستجيش ضمائرهم.. {ليذكروا}. فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر. والحقيقة التي يحاول القرآن ردهم إليها مركوزة في فطرتهم، أنساهم إياها الهوى الذي اتخذوا منه إلهًا.. {فأبى أكثر الناس إلا كفورًا}.
ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم إذن ضخمة شاقة؛ وهو يواجه البشرية كلها وأكثرها أضله الهوى، وأبى إلا الكفر ودلائل الإيمان حاضرة..
{ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا}.
فتوزع المشقة، وتخف المهمة. ولكن الله اختار لها عبدًا واحدًا، هو خاتم الرسل؛ وكلفه إنذار القرى جميعًا، لتتوحد الرسالة الأخيرة، فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة، وأعطاه القرآن ليجاهدهم به:
{فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا}.
وإن في هذا القرآن من القوة والسلطان، والتأثير العميق، والجاذبية التي لا تقاوم، ما كان يهز قلوبهم هزًا، ويزلزل أرواحهم زلزالًا شديدًا؛ فيغالبون أثره بكل وسيلة فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلًا.
ولقد كان كبراء قريش يقولون للجماهير: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} وكانت هذه المقالة تدل على الذعر الذي تضطرب به نفوسهم ونفوس أتباعهم من تأثير هذا القرآن؛ وهم يرون هؤلاء الأتباع كأنما يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوهما محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فتنقاد إليه النفوس، وتهوى إليه الأفئدة.
ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة، وهم في نجوة من تأثير هذا القرآن. فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روعتهم ما أمروا هذا الأمر، وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير، الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير!
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حُدِّث: أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل ابن هشام، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسًا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه. ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها؛ وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.