فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض، واستعلاءه على العرش:
{الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرًا}.
وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعًا. فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي، ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض. وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس. والخلق لا يقتضي إلا توجه الإرادة الإلهية المرموز له بلفظة: كن فتتم الكينونة فيكون. ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي. أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ {ثم} لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة. رتبة الاستواء والاستعلاء.
ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمة: {الرحمن}. ومع الرحمة الخبرة: {فاسأل به خبيرًا} الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء. فإذا سألت الله، فإنما تسأل خبيرًا، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين، يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار:
{وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورًا}!
وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول؛ تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول صلى الله عليه وسلم فهم لا يوقرون ربهم، فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية، فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا؟ وهم ينفرون من اسم الله الكريم، ويزعمون أنهم لا يعرفون اسم {الرحمن} ويسألون عنه بما، زيادة في الاستهتار.
{قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ}. ولقد بلغ من تطاولهم واستخفافهم أن يقولوا: ما نعرف الرحمن إلا ذاك باليمامة. يعنون به مسيلمة الكذاب!
ويرد على تطاولهم هذا بتمجيد اللّه سبحانه وتكبيره والتحدث ببركته وعظمته، وعظمة خلقه، وآياته المذكرة به في هذا الخلق العظيم.
{تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيها سِراجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا}.
والبروج- على الأرجح- منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة. والفخامة هنا تقابل في الحس ذلك الاستخفاف في قولة المشركين: {وَمَا الرَّحْمنُ} فهذا شيء من خلقه ضخم هائل عظيم في الحس وفي الحقيقة وفي هذه البروج تنزل الشمس ويسميها {سِراجًا} لما تبعث به من ضوء إلى أرضنا وغيرها.
وفيها القمر المنير الذي يبعث بنوره الهادئ اللطيف.
ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما. وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس، وفيهما الكفاية:
{لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا}. ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس، ويخلف أحدهما أخاه، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات. بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة.
جاء في كتاب: الإنسان لا يقوم وحده، العلم يدعو إلى الإيمان: تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة. ولم لا؟ عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات. وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار. وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض! فتبارك الذي خلق السماوات والأرض، وخلق كل شيء فقدره تقديرا. وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}.
أخرج الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في قوله: {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا} قال: هي هذه الاثنا عشر برجًا. أولها الحمل، ثم الثور، ثم الجوزاء، ثم السرطان، ثم الأسد، ثم السنبلة، ثم الميزان، ثم العقرب، ثم القوس، ثم الجدي، ثم الدلو، ثم الحوت.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا} قال: قصورًا على أبواب السماء فيها الحرس.
وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن جرير عن يحيى بن رافع {جعل في السماء بروجًا} قال: قصورًا في السماء.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية {جعل في السماء بروجًا} قال: القصور. ثم تأوّل هذه الآية {ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 78].
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {جعل في السماء بروجًا} قال: البروج النجوم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {جعل في السماء بروجًا} قال: النجوم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي صالح {جعل في السماء بروجًا} قال: النجوم الكبار.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا} قال: هي النجوم. وقال عكرمة: إن أهل السماء يرون نور مساجد الدنيا كما يرون أهل الدنيا نجوم السماء.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة {وجعل فيها سراجًا} قال: هي الشمس.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {وجعل فيها سراجًا} بكسر السين على معنى الواحد.
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن: أنه كان يقرأ {سراجًا}.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابراهيم النخعي: أنه كان يقرأ {وجعل فيها سرجًا وقمرًا منيرًا}.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} قال: أبيض وأسود.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {جعل الليل والنهار خلفة} قال: هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا {لمن أراد أن يذكر} قال: يذكر نعمة ربه عليه فيهما {أو أراد شكورًا} قال: شكور نعمة ربه عليه فيهما.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد {جعل الليل والنهار خلفة} قال: يختلفان. هذا أسود وهذا أبيض، وإن المؤمن قد ينسى بالليل ويذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {جعل الليل والنهار خلفة} يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، ومن فاته شيء من النهار أن يعمله أدركه بالليل.
وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن الحسن: أن عمر أطال صلاة الضحى فقيل له: صنعت اليوم شيئًا لم تكن تصنعه فقال: إنه بقي عليَّ من وردي شيء وأحببت أن أتمه. أو قال اقضيه. وتلا هذه الآية {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {جعل الليل والنهار خلفة} يقول: جعل الليل خلفًا من النهار، والنهار خلفًا من الليل، لمن فرط في عمل أن يقضيه.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن {جعل الليل والنهار خلفة} قال: إن لم يستطع عمل الليل عمله بالنهار، وإن لم يستطع عمل النهار عمله بالليل. فهذا خلفة لهذا.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في قوله: {جعل الليل والنهار خلفة} قال: من عجز بالليل كان له في أول النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له في الليل مستعتب.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة؛ أن سلمان جاءه رجل فقال: لا أستطيع قيام الليل قال: إن كنت لا تستطيع قيام الليل فلا تعجز بالنهار قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفس محمد بيده أن في كل ليلة ساعة؛ لا يوافقها رجل مسلم يصلي فيها، يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه» قال قتادة: فأروا الله من أعمالكم خيرًا في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيتان تحملان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان بكل موعود، إلى يوم القيامة.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {لمن أراد أن يذكر} مشددة.
وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه كان يقرأ {لمن أراد أن يذكر}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {سِرَاجًا} قرأ الجمهورُ بالإِفراد، والمرادُ به الشمسُ، ويؤيِّده ذِكْرُ القمرِ بعدَه. والأخَوان {سُرُجًا} بضمتين جمعًا، نحو حُمُر في حِمار. وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات. وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفًا له كقولِه: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد انتظامِهما في الملائكةِ. وقرأ الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفًا. والحسن والأعمش والنخعي وعاصم في روايةِ عصمة و{قُمْرًا} بضمةٍ وسكونٍ، وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْراء. والمعنى: وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا، فحذف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه ب {منيرا}. ولو لم يَعْتَبِرْه لقال: منيرةً، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان:
يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ ** بردى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ

الأصل: ماء بَرَدَى، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ: يُصَفِّقُ بالياءِ مِنْ تحتُ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ تُصَفِّقُ بالتاء مِنْ فوقُ. على أنَّ بيتَ حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه:
ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها

مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}.
قوله: {خِلْفَةً} فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ ثانٍ. والثاني: أنه حالٌ بحَسَبِ القَوْلَيْن في {جَعَل}. وخِلْفَة يجوزُ أن يكونَ مصدرًا مِنْ خَلَفَه يَخْلُفه، إذا جاء مكانَه، وأَنْ يكونَ اسمَ هيئةٍ كالرِّكْبَةِ، وأَنْ يكونَ من الاختلافِ كقولِه:
ولها بالماطِرُوْنَ إذا ** أكلِ النملُ الذي جَمَعا

خِلْفةً حتى إذا ارتَبَعَتْ ** سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيعًا

في بيوتٍ وَسْطَ دَسْكَرةٍ ** حَوْلَها الزيتونُ قد يَنَعا

ومثلُه قول زهير:
بها العِيْنُ والآرام يَمْشِيْنَ خِلْفَةً

وأَفْرَدَ {خِلْفَةً} قال أبو البقاء: لأنَّ المعنى: يَخْلُفُ أحدُهما الآخرَ، فلا يتحقَّق هذا إلاَّ منهما. انتهى.
والشُّكور: بالضم مصدرٌ بمعنى الشُكر، وبالفتحِ صفةُ مبالغةٍ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}.
زيَّنَ السماء الدنيا بمصابيح، وخلَق فيها البروجَ، وبَثَّ فيها الكواكب، وصان عن الفطورِ والتشويش أقطارَها ومناكبَها، وأدار بقدرته أفلاكها، وأدام على ما أراد إمساكها.
وكما أثبت في السماء بروجًا أثبت في سماء قلوب أوليائه وأصفيائه بروجًا؛ فبروجُ السماء معدودة وبروج القلب مشهودة.
وبروجُ السماء بيوتُ شمسها وقمرها ونجومها، وبروجُ القلب مطالعُ أنوارها ومشارِقُ شموسها ونجومها. وتلك النجوم هي نجوم القلوب كالعقل والفهم والبصيرة والعلم، وقمرُ القلوبِ المعرفةُ.
قمرُ السماء له نقصان ومحاق، وفي بعض الأحايين هو بَدْرٌ بوصف الكمال، وقمر المعرفة أبدًا له إشراق وليس له نقصان أومحاق، ولذا قال قائلهم:
دع الأقمارَ تخبو أو تنير ** لها بَدْرٌ تذلُّ له البدور

فأمّا شمسُ القلوب فهي التوحيد، وشمسُ السماءِ تغرب ولكن شمسَ القلوب لا تغيب ولا تغرب، وفي معناه قالوا:
إن شمسَ النهارِ تغرب بالليل ** وشمسُ القلوب ليست تغيب

ويصحُّ أن يقال إن شمس النهار تغرب بالليل، وشمس القلوب سلطانُها في الضوء والطلوع بالليل أتمُّ.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}.
الأوقاتُ متجانِسةٌ، وتفضيلُها بعضها على بعضٍ على معنى أنَّ الطاعة في البعض أفضل والثوابُ عليها أكثر. والليلُ خلفَ النهار والنهارُ خلفَ الليلِ، فَمَنْ وقع له في طاعة الليل خَلَلٌ فإذا حضر بالنهار فذلك وجود جُبْرانه، وإن حصل في طاعة النهار خللٌ فإذا حضر بالليل ففي ذلك إتمامٌ لنقصانه. اهـ.