فصل: تفسير الآيات (63- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (63- 67):

قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزب الشيطان، ولم يصفهم إلى اسم من أسمائه، إيذانًا بإهانتهم لهوائهم عنده، وهم الذين صرح بهم قوله أول السورة {نذيرًا} وختم بالتذكر والشكر إشارة إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه، وأشار إليهم سابقًا بتخصيص الوصف بالفرقان، فأتبع ذلك ذكرهم، فقال عاطفًا على جملة الكلام في قوله: {وإذا قيل لهم} لكنه رفعهم بالابتداء تشريفًا لهم: {وعباد} ويجوز أن يقال ولعله أحسن: أنه سبحانه لما وصف الكفار في هذه السورة بما وصفهم به من الفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعداوتهم له، ومظاهرتهم على خالقهم، ونحو ذلك من جلافتهم، وختم بالتذكر والشكر، وكان التقدير: فعباد الشيطان لا يتذكرون ولا يشكرون، لما لهم من القسوة، عطف على هذا المقدر أضدادهم، واصفًا لهم بأضداد أوصافهم، مبشرًا لهم بضد جزائهم، فقال: {وعباد الرحمن} فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان كل الخلق عباده، وأضافهم إلى صفة وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيرًا لهم؛ ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود، إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بأمر كبير، فقال: {الذين يمشون} وقال: {على الأرض} تذكيرًا بما هم منه وما يصيرون إليه، وحثًا على السعي في معالي الأخلاق للترقي عنه، وعبر عن حالهم بالمصدر مبالغة في اتصافهم بمدلوله حتى كانوا إياه، فقال: {هونًا} أي ذوي هون، أي لين ورفق وسكينة ووقار وإخبات وتواضع، لا يؤذون أحدًا ولا يفخرون، رحمة لأنفسهم وغيرهم، غير متابعين ما هم فيه من الحرارة الشيطانية، فبرؤوا من حظوظ الشيطان، لأن من كان من الأرض وإليها يعود لا يليق به إلا ذلك، والأحسن أن يجعل هذا خبر العباد، ويكون.
{أولئك يجزون الغرفة} [الفرقان: 75] استئنافًا متشوفًا إليه تشوف المستنتج إلى النتيجة.
ولما ذكر ما أثمره العلم من الفعل في أنفسهم، أتبعه ما أنتجه الحلم من القول لغيرهم فقال: {وإذا} دون إن لقضاء العادة بتحقق مدخولها، ولم يقل: والذين كبقية المعطوفات، لأن الخصلتين كشيء واحد من حيث رجوعهما إلى التواضع {خاطبهم} خطابًا ما، بجهل أو غيره وفي وقت ما {الجاهلون} أي الذين يفعلون ما يخالف العلم والحكمة {قالوا سلامًا} أي ما فيه سلامة من كل سوء، وليس المراد التحية- نقل ذلك سيبويه عن أبي الخطاب، قال: لأن الآية فيما زعم مكية، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، ولكنه على قولك: تسليمًا لا خير بيننا وبينكم ولا شرًا-. انتهى.
فلا حاجة إلى ادعاء نسخها بآية القتال ولا غيرها، لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع، وكأنه أطلق الخطاب إعلامًا بأن أكثر قول الجاهل الجهل.
ولما ذكر ما بينهم وبين الخلق من القول والفعل، وكان الغالب على ذلك أن يكون جلوة نهارًا، ذكر ما بينهم وبين خالقهم من ذلك خلوة ليلًا، وذكر هذه المعطوفات التي هي صفات بالواو، تنبيهًا على أن كل واحدة منها تستقل بالقصد لعظم خطرها، وكبر أثرها، فقال: {والذين يبيتون} من البيتوتة: أن يدركك الليل نمت أو لم تنم، وهي خلاف الظلول؛ وأفاد الاختصاص بتقديم {لربهم} أي المحسن إليهم برحمانيته، يحيون الليل رحمة لأنفسهم، وشكرًا لفضله.
ولما كان السجود أشد أركان الصلاة تقريبًا إلى الله، لكونه أنهى الخضوع مع أنه الذي أباه الجاهلون، قدمه لذلك ويعلم بادىء بدء أن القيام في الصلاة فقال: {سجدًا} وأتبعه ما هو تلوه في المشقة تحقيقًا لأن السجود على حقيقته فيتمحص الفعلان للصلاة، فقال: {وقيامًا} أي ولم يفعلوا فعل الجاهلين من التكبر عن السجود، بل كانوا- كما قال الحسن رحمه الله: نهارهم في خشوع، وليلهم في خضوع.
ولما ذكر تهذيبهم لأنفسهم للخلق والخالق، أشار إلى أنه لا إعجاب عندهم، بل هم وجلون، وأن الحامل لهم على ذلك الإيمان بالآخرة التي كذب بها الجاهلون {يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60] وقدموا الدعاء بالنجاة اهتمامًا بدرء المفسدة، وإشعارًا بأنهم مستحقون لذلك وإن اجتهدوا، لتقصيرهم عن أن يقدروه سبحانه حق قدره فقال: {والذين يقولون ربنا} أي أيها المحسن إلينا {اصرف عنا عذاب جهنم} الذي أحاط بنا لا ستحقاقنا إياه إلا أن يتداركنا عفوك ورحمتك، بما توفقنا له من لقاء من يؤذينا بطلاقة الوجه، لا بالتجهم، ثم علل سؤالهم يقولهم: {إن عذابها كان} أي كونًا جبلت عليه {غرامًا} أي هلاكًا وخسرانًا ملحًا محيط بمن تعلق به مذلًا له، دائمًا بمن غرى به، لازمًا له لا ينفك عنه ونحن كنا نسير على من آذانا.
ولما ثبت لها هذا الوصف، أنتج قوله: {إنها ساءت} أي تناهت هي في كل ما يحصل منه سوء، وهي في معنى بئست في جميع المذام {مستقرًا} أي من جهة موضع استقرار {ومقامًا} أي موضع إقامة.
ولما ذكر أفعالهم وأقوالهم فيما بينهم وبين الخلق وقدمه، والخالق وأخره، لأن وجوبه يكون بعد ذلك، ذكر أحوالهم في أموالهم، نظرًا إلى قول الكفرة {أو يلقى إليه كنز} [الفرقان: 8] وهداية إلى طريق الغنى لأنه ما عال من اقتصد، فقال: {والذين إذا أنفقوا} أي للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب {لم يسرفوا} أي يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير، فيضيعوا الأموال في غير حقها فيكونوا إخوان الشياطين الذين هم من النار ففعلهم فعلها {ولم يقتروا} أي يضيقوا فيضيعو الحقوق؛ ثم بين العدل بقوله: {وكان} أي إنفاقهم {بين ذلك} أي الفعل الذي يجب إبعاده.
ولما علم أن ما بين الطرفين المذمومين يكون عدلًا، صرح به في قوله: {قوامًا} أي عدلًا سواء بين الخلقين المذمومين: الإفراط والتفريط، تخلقًا بصفة قوله تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن نزل بقدر ما يشاء} [الشورى: 27] وهذه صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم- كانوا لا يأكلون طعامًا للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوبًا للجمال والزينة، بل كانوا يأكلون ما يسد الجوعة، ويعين على العبادة، ويلبسون ما يستر العورة، ويكنّ من الحر والقر، قال عمر رضى الله عنه: كفى سرفًا أن لا يشتهي الرجل شيئًا إلا اشتراه فأكله. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}.
اعلم أن قوله: {وَعِبَادُ الرحمن} مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة، ويجوز أن يكون خبره {الذين يَمْشُونَ}، واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية، فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات، وقرئ {وَعِبَادُ الرحمن} واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: {الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرئ {يَمْشُونَ} {هَوْنًا} حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشيًا هينًا، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة، والهون الرفق واللين ومنه الحديث «أحبب حبيبك هونًا ما» وقوله: «المؤمنون هينون لينون» والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع، ولا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرًا وبطرًا، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال: {وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} [الإسراء: 37] وعن زيد بن أسلم التمست تفسير {هَوْنًا} فلم أجد، فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض، وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علوًا في الأرض.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَمًا} معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليمًا، فأقيم السلام مقام التسليم، ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت، ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا، ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة، ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل، قال الأصم: {قَالُواْ سَلاَمًا} أي سلام توديع لا تحية، كقول إبراهيم لأبيه: {سلام عَلَيْكَ} [مريم: 47] ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع.
الصفة الثالثة: قوله: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وقياما} واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين: أحدهما: ترك الإيذاء، وهو المراد من قوله: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} والآخر تحمل التأذي، وهو المراد من قوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَمًا} فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار، فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} [السجدة: 16] ثم قال الزجاج: كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقًا، ومعنى {يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ} أن يكونوا في لياليهم مصلين، ثم اختلفوا فقال بعضهم: من قرأ شيئًا من القرآن في صلاة وإن قل، فقد بات ساجدًا وقائمًا، وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعًا بعد العشاء الأخيرة، والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائمًا ويبيت قائمًا، قال الحسن يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفًا من ربهم.
الصفة الرابعة: قوله: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول، وقال الحسن خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرقًا من عذاب جهنم، وقوله: {غَرَامًا} أي هلاكًا وخسرانًا ملحًا لازمًا، ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه، ويقال فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعًا بهن، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الغرام فقال هو الموجع، وعن محمد بن كعب في {غَرَامًا} أنه سأل الكفار ثمن نعمه فما أدوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار، واعلم أنه تعالى وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذانًا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم كقوله: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].