فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لازمًا، قاله ابن عيسى، ومنه الغريم لملازمته وأنشد الأعشى:
إن يعاقب يكن غَرامًا وإن يع ** طر جزيلًا فإنه لا يبالي

الثاني: شديدًا، قاله ابن شجرة، ومنه سميت شدة المحنة غرامًا قال بشر بن أبي خازم:
ويوم الجفار ويوم النسا ** ر كانا عذابًا وكان غراما

الثالث: ثقيلًا، قاله قطرب، ومنه قوله تعالى: {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [القلم: 46].
الرابع: أنهم أغرموا بالنعيم في الدنيا عذاب النار، قال محمد بن كعب: إن الله سأل الكفار عن فأغرمهم فأدخلهم جهنم.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لم ينفقواْ في معصية الله، والإِسراف النفقة في المعاصي، قاله ابن عباس.
الثاني: لم ينفقوا كثيرًا فيقول الناس قد أسرفوا، قاله إبراهيم.
الثالث: لا يأكلون طعامًا يريدون به نعيمًا ولا يلبسون ثوبًا يريدون به جمالًا، قاله يزيد بن أبي حبيب، قال: هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت قلوبهم على قلب رجل واحد.
الرابع: لم ينفقوا نفقة في غير حقها فإن النفقة في غير حقها إسراف، قاله ابن سيرين.
{وَلَمْ يَقْتُرُواْ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لم يمنعوا حقوق الله فإن منع حقوق الله إقتار، قاله ابن عباس.
الثاني: لا يعريهم ولا يجيعهم، قاله إبراهيم.
الثالث: لم يمسكوا عن طاعة الله، قاله ابن زيد.
الرابع: لم يقصروا في الحق، قاله الأعمش.
روى معاذ بن جبل قال: لما نزلت هذه الآية سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة في الإسراف والإقتار ما هو، فقال: من منع من حق فقد قتر، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف.
{وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامًَا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني عدلًا، قاله الأعمش.
الثاني: أن القوام: أن يخرجوا في الله شطر أموالهم، قاله وهب.
الثالث: أن القوام: أن ينفق في طاعة الله ويكف عن محارم الله.
ويحتمل رابعًا: أن القوام ما لم يمسك فيه عزيز ولم يقدم فيه على خطر، والفرق بين القَوام بالفتح والقِوام بالكسر، ما قاله ثعلب: أنه بالفتح الاستقامة والعدل، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَعِبَادُ الرحمن}.
والعباد والعبيد بمعنى إلا أن العباد يستعمل في مواضع التنويه، وسمي قوم من عبد القيس العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب، وقيل لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عبد الله وإليهم ينسب عدي بن زيد العبادي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {وعبد الرحمن}، ذكره الثعلبي، وقوله: {الذين يمشون على الأرض} عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم نذكر من ذلك العظم لاسيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال، {هونًا}، بمعنى أمره كله هون أي لين، قال مجاهد، بالحلم والوقار، وقال ابن عباس بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال الحسن حلمًا إن جهل عليهم لم يجهلوا، وذهبت فرقة إلى أن {هونًا} مرتبط بقوله: {يمشون على الأرض} أي المشي هو هون، ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي {هونًا} مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بيّناه وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش {هونًا} رويدًا وهو ذئيب أطلس.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفا في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم «من مشى منكم في طمع فليمش رويدًا» إنما أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده، ألا ترى أن المبطلين المتحيلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذمًا لهم [أبي جعفر المنصور]: [مجزوء الرمل].
كلهم يمشي رويدا ** كلهم يطلب صيدا

وقال الزهري سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه.
قال القاضي أبو محمد يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط وقال زيد بن أسلم كنت أسأل عن تفسير قوله: {الذين يمشون على الأرض هونًا} فما وجدت في ذلك شفاء، فرأيت في النوم من جاءني فقال هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهذا تفسير في الخلق، و{هونًا} معناه رفقًا وقصدًا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أجب حبيبك هونًا ما» الحديث وقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}. اختلف في تأويل ذلك، فقالت فرقة ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلامًا بهذا اللفظ أي سلمنا سلامًا وتسليمًا ونحو هذا، فيكون العامل فيه فعلًا من لفظه على طريقة النحويين، والذي أقول إن {قالوا} هو العامل في {سلامًا} لأن المعنى {قالوا} هذا اللفظ، وقال مجاهد معنى {سلامًا} قولًا سديدًا، أي يقول للجاهل كلامًا يدفعه به برفق ولين ف {قالوا} على هذا التأويل عامل في قوله: {سلامًا} على طريقة النحويين وذلك أنه بمعنى قولًا، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يختص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه، ورجح به أن المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالتسليم على الكفار والآية مكية فنسختها آية السيف.
قال الفقيه الإمام القاضي: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي كان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يومًا بمحضر المأمون وعنده جماعة: كنت أرى عليًا في النوم فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول علي بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها، فكنت أقول له إنما تدّعي هذا الأمر بإمرة ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، فقال المأمون وبماذا جاوبك قال: فكان يقول لي سلامًا سلامًا، قال الراوي وكان إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت فنبه المأمون على الآية من حضره وقال هو والله يا عمي علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب فحزن إبراهيم واستحيا وكانت رؤياه لا محالة صحيحة.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)}.
هذه آية فيها تحريض على القيام بالليل للصلاة، قال الحسن لما فرغ من وصف نهارهم وصف في هذه ليلهم، وقال بعض الناس من صلى العشاء الآخر وشفع وأوتر فهو داخل في هذه الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: إلا أنه دخول غير مستوفى، وقرأ أبو البرهسم {سجودًا وقيامًا}. ومدحهم تعالى بدعائه في صرف {عذاب جهنم} من حيث ذلك دليل على صحة عقدهم وإيمانهم ومن حيث أعمالهم بحسبه، و{غرامًا} معناه ملازمًا، وقيل مجحفًا ومنه غرام الحب ومنه المغرم ومنه قول الأعشى: الخفيف:
إن يعاقب يكن غرامًا وإن يعـ ** ـط جزيلًا فإنه لا يبالي

وقول بشر أبي حازم: المتقارب:
ويوم النسار ويوم الجفار ** كانا عناء وكانا غراما

وقرأ جمهور الناس {مُقامًا} بضم الميم من الإقامة ومنه قول الشاعر:
حيوا المقام وحيوا ساكن الدار

وقرأ فرقة {مَقامًا} بفتح الميم من قام يقوم فجنهم ضد مقام كريم والأول أفصح وأشهر.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}.
اختلف المفسرون في هذه الآية في الإنفاق، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة، وإن أسرف، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه، وأن المقتر هو الذي يمنع حقًا عليه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال عون بن عبد الله بن عتبة الإسراف أن تنفق مال غيرك. ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر، والوجه أن يقال أن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقًا آخر أو عيالًا ونحو هذا وأن لا يضيق أيضًا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوسطها، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعامًا للذة، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين، ثم تلا الآية، وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفًا ألا يشتهي شيئًا إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {يُقتِروا} بضم الياء وكسر التاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم {يَقتِروا} بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الياء، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء، وقرأ أبو عمرو {والناس قَوامًا} بفتح القاف، أي معتدلًا، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغًا وسدادًا وملاك حال، و{قوامًا} خبر {كان} واسمها مقدر أي الإنفاق، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله: {بين ذلك}. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وعبادُ الرَّحمن الذين يَمْشُون} وقرأ عليّ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن السميفع: {يُمَشَّون} برفع الياء وفتح الميم والشين وبالتشديد.
وقال ابن قتيبة: إِنما نسبهم إِليه لاصطفائه إِياهم، كقوله: {ناقةُ الله} [الأعراف: 73]، ومعنى {هَوْنًا} مشيًا رويدًا.
ومنه يقال: أَحْبِبْ حبيبك هَوْنًا ما.
وقال مجاهد: يمشون بالوقار والسكينة.
{وإِذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} أي: سَدادًا.
وقال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جهل عليهم حَلُموا.
وقال مقاتل بن حيّان: {قالوا سلامًا} أي: قولًا يسْلَمون فيه من الإِثم.
وهذه الآية محكمة عند الأكثرين.
وزعم قوم: أن المراد بها أنهم يقولون للكفار: ليس بيننا وبينكم غير السلام، ثم نُسخت بآية السيف.
قوله تعالى: {والذين يَبيتون لربِّهم} قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم؛ يقال: بات فلان قلِقًا، إِنما المبيت إِدراك الليل.
قوله تعالى: {كان غرامًا} فيه خمسة أقوال متقارب معانيها.
أحدها: دائمًا، رواه أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: موجِعًا، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: مُلِحًّا، قاله ابن السائب؛ وقال ابن جريج: لا يفارق.
والرابع: هلاكًا، قاله أبو عبيدة.
والخامس: أن الغرام في اللغة: أشدُّ العذاب، قال الشاعر:
وَيَوْمَ النِّسار وَيَوْمَ الجِفا ** رِكانَا عذابًا وكانَا غَرَامًا

قاله الزجاج.
قوله تعالى: {ساءت مُسْتَقَرًّا} أي: بئس موضع الاستقرار وموضع الإِقامة هي. قوله تعالى: {والذين إِذا أنفقوا لم يُسْرِفوا ولم يقتروا} وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {يَقْتِروا} مفتوحة الياء مكسورة التاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {يَقْتُروا} بفتح الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: {يُقْتِروا} بضم الياء وكسر التاء. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أن الإِسراف: مجاوزة الحدِّ في النفقة، والإِقتار: التقصير عمّا لابد منه، ويدل على هذا قولُ عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سَرَفًا أن يأكل كلَّ ما اشتهى.
والثاني: أنَّ الإِسراف: الإِنفاق في معصية الله وإِن قَلَّ، والإِقتار: منع حق الله تعالى، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج في آخرين.
قوله تعالى: {وكان} يعني الإِنفاق {بين ذلك} أي: بين الإِسراف والإِقتار {قَوَامًا} أي: عَدْلًا؛ قال ثعلب: القَوام، بفتح القاف: الاستقامة والعَدْل، وبكسرها: ما يدوم عليه الأمر ويستقرّ. اهـ.