فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمّةً مثل الكافرين لأن هذا الوصف يُشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة.
والسلام يجوز أن يكون مصدرًا بمعنى السلامة، أي لا خير بيننا ولا شرّ فنحن مُسلمون منكم.
ويجوز أن يكون مرادًا به لفظ التحية فيكون مستعملًا في لازمه وهو المتارَكة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحيةِ أنه يؤذن بالتأمين، أي عدم لإهاجة، والتأمين: أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامَه، فتكون الآية في معنى قوله.
{وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55].
قال ابن عطية: وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يومًا بحضرة المأمون وعنده جماعة: كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له: من أنت؟ فكان يقول: عليٌّ بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عُبورها فكنت أقول: إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأةٍ ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغةً كما يُذكر عنه، قال المأمون: وبماذا جاوبك؟ قال: فكان يقول لي: سَلامًا.
قال الراوي: فكأنَّ إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبتْ عنه في ذلك الوقت، فنبه المأمونُ على الآية من حضره وقال: هو والله يا عمّ عليّ بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخُزي إبراهيم واستحيا.
ولأجل المناسبة بين الصيغتين عطفت هذه على الصلة الأولى.
ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في الصفات بعدها.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)}.
عطف صفة أخرى على صفتيهم السابقتين على حدّ قول الشاعر:
إلى الملِك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المُزدحم

وإعادة الموصول لتأكيد أنهم يُعرفون بهذه الصلة، والظاهر أن هذه الموصولات وصلاتها كلها أخبار أو أوصاف لعباد الرحمان.
روي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ {الذين يمشون على الأرض هَوْنًا} [الفرقان: 63] قال: هذا وصف نهارهم، ثم إذا قرأ {والذين يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا} قال: هذا وصف ليلهم.
والقِيام: جمع قَائم كالصِحاب، والسجود والقيام ركنا الصلاة، فالمعنى: يبيتون يصلّون، فوقع إطناب في التعبير عن الصلاة بركنيها تنويهًا بكليهما.
وتقديم {سجدًا} على {قيامًا} للرعي على الفاصلة مع الإشارة إلى الاهتمام بالسجود وهو ما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أقرب ما يكونُ العبد من ربه وهو ساجد» وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيري التهجد كما أثنى الله عليهم بذلك بقوله: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16].
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}.
دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربّهم لينجوا من العذاب، فالمراد بصرف العذاب: إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح وتوفيره واجتناب السيئات.
وجملة {إن عذابها كان غرامًا} يجوز أن تكون حكاية من كلام القائلين.
ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى معترضة بين اسمي الموصول، وعلى كل فهي تعليل لسؤال صرف عذابها عنهم.
والغرام: الهلاك المُلِحّ الدائِم، وغلب إطلاقه على الشر المستمر.
وجملة {إنها ساءت مستقرًا ومقامًا} يجوز أن تكون حكاية لكلام القائلين فتكون تعليلًا ثانيًا مؤكّدًا لتعليلهم الأول، وأن تكون من جانب الله تعالى دون التي قبلها فتكون تأييدًا لتعليل القائلين.
وأن تكون من كلام الله مع التي قبلها فتكون تكريرًا للاعتراض.
والمستقَرّ: مكان الاستقرار.
والاستقرار: قوة القرار.
والمقام: اسم مكان الإقامة، أي ساءت موضعًا لمن يستقر فيها بدون إقامة مثل عصاة أهل الأديان ولمن يقيم فيها من المكذبين للرسل المبعوثين إليهم.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}.
أفاد قوله: {إذا أنفقوا} أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال: والذين ينفقون وإذا أنفقوا. إلخ.
وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه لأن الإنفاق الواجب لا يذمّ الإسراف فيه، والإنفاق الحرام لا يُحمد مطلقًا بَلْهَ أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله: {إذا أنفقوا} إشعارًا بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجبًا عليهم.
والإسراف: تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفَق عليه.
وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافًا} في سورة النساء (6)، وقوله: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} في سورة الأنعام (141).
والإقتار عكسه، وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويُغْلُون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر.
وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم وهي في معلّقة طرفة وفي معلقة لبيد وفي ميمية النابغة، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك، قال الشاعر مادحًا:
مفيد ومتلاف إذا ما أتيتُه ** تهلَّل واهتز اهتزاز المهند

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {ولا يُقتِروا} بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقْتار وهو مرادف التقتير.
وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر من باب ضَرَب وهو لغة.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصَر.
والإقتار والقَتْر: الإجحاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفَق عليه.
وكان أهل الجاهلية يُقْتِرون على المساكين والضعفاء لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك.
وقد تقدم ذلك عند قوله: {كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدَيْن} [البقرة: 180].
والإشارة في قوله: {بين ذلك} إلى ما تقدم بتأويل المذكور، أي الإسراف والإِقتار.
والقَوام بفتح القاف: العدل والقصد بين الطرفين.
والمعنى: أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق، وأما الإقتار فمن شأنه إمساكُ المال فيُحرم من يستأهله.
وقوله: {بين ذلك} خبرُ {كَان} و{قَوامًا} حال موكِّدة لمعنى {بين ذلك}.
وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عِوَج فيه.
ويجوز أن يكون {قَواما} خبر {كان} و{بين ذلك} ظرفا متعلقًا به.
وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس.
قال القرطبي: والقَوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولًا} [الإسراء: 37].
قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] الآية.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)}.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أن عباده الصالحين، يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، يعبدون الله، ويصلون له بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليل سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] وقوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلًا مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 16- 18]. وقوله تعالى: {يِبِيتُونَ} قال الزجاج: بات الرجل يبيت: إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم، قال زهير:
فبتنا قيامًا عند رأس جوادنا ** يزاولنا عن نفسه ونزاوله

انتهى بواسطة نقل القرطبي.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)}.
الأظهر أن معنى قوله: كان غرامًا: أي كان لازمًا دائمًا غير مفارق، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا أي لازم له، مولع به.
وهذا المعنى دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37] و[التوبة: 68]. وقوله: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75]. وقوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] وقوله تعالى: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ: 30]. وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 162] و[آل عمران: 88] وقوله: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]. وقوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]. وقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال ابن زيد: الغرام الشر. وقال أبو عبيدة: الهلاك. قاله القرطبي. وقول الأعشى:
إن يعاقب يكن غرامًا وإن يعـ ** ـط جزيلًا فإنه لا يبال

يعني يكن عذابه دائمًا لازمًا. وكذلك قول بشر بن أبي حازم:
ويوم النسار ويوم الجفا ** ركانا عذابًا وكان غراما

وذلك هو الأظهر أيضًا في قول الآخر:
وما أكلة إن نلتها بغنيمة ** ولا جوعة إن جعتها بغرام

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}.
قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر: ولم يقتروا بضم الياء المثناة التحتية وكسر التاء مضارع أقتر الرباعي، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو: ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية، وكسر المثناة الفوقية مضارع قتر الثلاثي كضرب، وقرأه عاصم وحمزة، والكسائي، ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية، وضم المثناة الفوقية مضارع قتر الثلاثي كنصر، والإقتار على قراءة نافع وابن عامر، والقتر على قراءة الباقين معناهما واحدن وهو التضييق المخل بسد الخلة اللازم، والإسراف في قوله تعالى{لم يسرفوا} مجاوزة الحد في النفقة.
واعلم أن أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة، أن الله مدح عباده الصالحين بتوسطهم في إنفاقهم، فلا يجاوزون الحد بالإسراف في الإنفاق، ولا يقترون أي لا يضيقون فيبخلون بإنفاق القدر اللازم.
وقال بعض أهل العلم: الإسراف في الآية: الإنفاق في الحرام والباطل، والاقتار منع الحق الواجب، وهذا المعنى وإن كان حقًا فالأظهر في الآية هو القول الأول.