فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الذين استوجبوا رحمة الرحمن هم الذين وفِّقُوا للطاعات، فبرحمتِه وصلوا إلى التوفيق للطاعة. وعِبادُ الرحمن الذين يستحقون غدًا رحمته هم القائمون برحمته؛ فبرحمته وصلوا إلى طاعته هكذا بيان الحقيقة، وبطاعتهم وصلوا إلى جَنَّتِه هكذا لسان الشريعة.
ومعنى {هَوْنًا} متواضعين متخاشعين.
ويقال شرْطُ التواضع وحَدُّه ألا يستَحْسِنَ شيئًا من أحواله، حتى قالوا: إذا نَظَرَ إلى رِجْلِه لا يستحسن شِسْعَ نَعْلِهِ، وعلى هذا القياس لا يُساكِنُ أعماله، ولا يلاحظ أحواله.
قوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًَا} قيل سداد المنطق؛ ويقال مَنْ خاطَبَهم بالقَدْح فهم يجاوبونه بالمدح له.
ويقال إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم، والطاعنون فيهم، العائبون لهم قابلوا ذلك بالرِّفق، وحُسْنِ الخُلقِ، والقولِ الحَسَنِ والكلام الطيب.
ويقال يخبرون مَنْ جفاهم أنهم في أمانٍ من المجافاة.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)}.
يبيتون لربهم ساجدين، ويصبحون واجدين؛ فَوَجْدُ صباحهم ثمراتُ سجودِ أرواحهم، كذا في الخبر: «مَنْ كَثُرَتْ صلاتُه بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار» أي عَظُم ماءُ وجهه عند الله، وأحسنُ الأشياء ظاهِرٌ بالسجود مُحَسَّنٌ وباطنٌ بالوجود مُزَيَّنٌ.
ويقال متصفين بالسجود قيامًا بآداب الوجود.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}.
يجتهدون غاية الاجتهاد، ويستفرغون نهاية الوسع، وعند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التَنَصُّل كما قيل:
وما رُمْتُ الدخولَ عليه حتى ** حَلَلْتُ محلة العبد الذليل

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}.
الإسرافُ أن تنفق في الهوى وفي نصيب النّفْس، فأمّا ما كان لله فليس فيه إسراف، والإقتارُ ما كان ادخارًا عن الله. فأمَّا التضييقُ على النَّفْس منعًا لها عن اتباع الشهوات ولتتعودَ الاجتراء باليسير فليس بالاقتار المذموم. اهـ.

.قال ابن القيم:

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التواضع:
قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين قال الحسن: علماء حلماء وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا والهون بالفتح في اللغة: الرفق واللين والهون بالضم: الهوان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان والمضموم صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول فالمؤمن ذلول كما في الحديث: «المؤمن كالجمل الذلول والمنافق والفاسق ذليل وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب والنمام والبخيل والجبار» وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هو من عزة القوة والمنعة والغلبة قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لولده وعلى الكافرين كالسبع على فريسته كما قال في الآية الأخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وهذا عكس حال من قيل فيهم:
كبر علينا وجبنا عن عدوكم ** لبئست الخلتان الكبر والجبن

وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد».
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» وفي الصحيحين مرفوعا: «ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر».
وفي حديث احتجاج الجنة والنار: أن النار قالت: مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وهو في الصحيح وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: العزة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته».
وفي جامع الترمذي مرفوعا عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين فيصيبه ما أصابهم» وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيسلم عليهم وكانت الأمة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت وكان إذا أكل لعق أصابعه الثلاث وكان يكون في بيته في خدمة أهله ولم يكن ينتقم لنفسه قط وكان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب الشاة لأهله ويعلف البعير ويأكل مع الخادم ويجالس المساكين ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما ويبدأ من لقيه بالسلام ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء وكان هين المؤنة لين الخلق كريم الطبع جميل المعاشرة طلق الوجه بساما متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيما بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين لين الجانب لهم وقال: ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو تحرم عليه النار تحرم على كل قريب هين لين سهل رواه الترمذي وقال: حديث حسن وقال: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت رواه البخاري وكان يعوض المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف.
فصل:
سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح ولين الجانب وقال أبو يزيد البسطامي: هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى في الخلق شرا منه وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار.
وقال إبراهيم بن شيبان: الشرف في التواضع والعز في التقوي والحرية في القناعة ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سني وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقول طرقوا للأمير وركب زيد بن ثابت مرة فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: مه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا فقال: أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها فقال: هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا فبعث إلى معاذ حلة مثمنة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها فعاتبه معاذ فقال عمر: لأنك بعت الأولى فقال معاذوما عليك ادفع لي نصيبي وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك وقد يرفق الشاب بالشيخ ومر الحسن بن علي صبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال: اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عير بلالا رضي الله عنه بسواده ثم ندم فألقى بنفسه فحلف: لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.
وقال رجاء بن حيوة قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة فقال: تدري بكم شريت أمك بثلاثمائة درهم وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله أنا وأنت تمشي هذه المشية وقال حمدون القصار: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول: كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزني لأنه لم يكن في تلك السفينة أحد أحقر مني والأخرى: كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال: اخرج فلم أطق فأخذ برجلي وجرني إلى خارج والأخرى: كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذلك وفي رواية: كنت يوما جالسا فجاء إنسان فبال علي وقال بعضهم: رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا فتعجبت منه فقال لي: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه والله أعلم.
فصل:
أول ذنب عصى الله به أبو الثقلين: الكبر والحرص فكان الكبر ذنب إبليس اللعين فآل أمره إلى ما آل إليه وذنب آدم على نبينا وعليه السلام: كان من الحرص والشهوة فكان عاقبته التوبة والهداية وذنب إبليس حمله على الاحتجاج بالقدر والإصرار وذنب آدم أوجب له إضافته إلى نفسه والاعتراف به والاستغفار فأهل الكبر والإصرار والاحتجاج بالأقدار: مع شيخهم وقائدهم إلى النار إبليس وأهل الشهوة: المستغفرون التائبون المعترفون بالذنوب الذين لا يحتجون عليها بالقدر: مع أبيهم آدم في الجنة وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: التكبر شر من الشرك فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى والمشرك يعبد الله وغيره قلت: ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين كما قال الله تعالى في سورة الزمر وفي سورة غافر: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 76]، [الزمر: 72] وفي سورة النحل: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] وفي سورة تنزيل: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] وأخبر أن أهل الكبر والتجبر هم الذين طبع الله على قلوبهم فقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] وقال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر رواه مسلم.
وقال: الكبر بطر الحق وغمص الناس وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 8] تنبيها على أنه لا يغفر الكبر الذي هو أعظم من الشرك وكما أن من تواضع لله رفعه فكذلك من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغره وحقره ومن تكبر عن الانقياد للحق ولو جاءه على يد صغير أو من يبغضه أو يعاديه فإنما تكبره على الله فإن الله هو الحق وكلامه حق ودينه حق والحق صفته ومنه وله فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله: فإنما رد على الله وتكبر عليه والله أعلم.
فصل:
قال صاحب المنازل:
التواضع: أن يتواضع العبد لصولة الحق يعني: أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد والدخول تحت رقه بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بضده فقال: الكبر بطر الحق وغمص الناس فبطر الحق: رده وجحده والدفع في صدره كدفع الصائل وغمص الناس احتقارهم وازدراؤهم ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها ولما كان لصاحب الحق مقال وصولة: كانت النفوس المتكبرة لا تقر له بالصولة على تلك الصولة التي فيها ولاسيما النفوس المبطلة فتصول على صولة الحق بكبرها وباطلها فكان حقيقة التواضع: خضوع العبد لصولة الحق وانقياده لها فلا يقابلها بصولته عليها قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: التواضع للدين وهو أن لا يعارض بمعقول منقولا ولا يتهم للدين دليلا ولا يرى إلى الخلاف سبيلا.