فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ} الْآيَةَ.
رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك، قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ؛ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: {وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ} إلَى قَوْلِهِ: {أَثَامًا}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ}.
يعني لا يجعلون لله تعالى شريكًا، ولا يجعلون بينهم وبينه في العبادة وسيطًا.
{وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} يعني حرم قتلها، وهي نفس المؤمن والمعاهد.
{إِلاَّ بِالْحَقِّ} والحق المستباح به قتلها، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امرئ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِِإِحْدَى ثَلاَثٍ: كُفرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْل نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ».
{وَلاَ يَزْنُونَ} والزنى إتيان النساء المحرمات في قبل أو دبر، واللواط زنى في أحد القولين وهو في القول الثاني موجب لقتل الفاعل والمفعول به، وفي إتيان البهائم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه كالزنى في الفرق بين البكر والثيب.
الثاني: أنه يوجب قتل البهيمة ومن أتاها للخبر المأثور فيه.
الثالث: أنه يوجب التعزير. فجمع في هذه الآية بين ثلاث من الكبائر الشرك وقتل النفس والزنى، روى عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أو قال غيري: أي ذنب أعظم عند الله؟ قال: «أَن تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قال: ثم أي؟ قال: «أَن تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قال: ثم أيّ.؟ قال: «أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ» قال فأنزل الله ذلك.
{وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} يعني هذه الثلاثة أو بعضها.
{يَلْقَ أَثَامًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الأثام العقوبة قاله بلعام بن قيس:
جزى اللَّه ابن عروة حيث أمسى ** عقوقًا والعقوق له أثام

الثاني: أن الأثام اسم واد في جهنم، قاله ابن عمر، وقتادة، ومنه قول الشاعر:
لقيت المهالك في حربنا ** وبعد المهالك تلقى أثاما

الثالث: الجزاء، قاله السدي، وقال الشاعر:
وإن مقامنا ندعو عليكم ** بأبطح ذي المجاز له أثامُ

{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قاله قتادة.
الثاني: أنها الجمع بين عقوبات الكبائر المجتمعة.
الثالث: أنها استدامة العذاب بالخلود.
{وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي يخلد في العذاب بالشرك.
{مُهَانًا} بالعقوبة.
{إِلاَّ مَن تَابَ} يعني من الزنى.
{وَءَامَنَ} يعني من الشرك.
{وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} يعني بعد السيئات.
{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: في الدنيا يبدلهم بالشرك إيمانًا، وبالزنى إحصانًا وبذكر الله بعد نسيانه، وبطاعته بعد عصيانه، وهذا معنى قول الحسن، وقتادة.
الثاني: أنه في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته فيبدل الله السيئات حسنات، قاله أبو هريرة.
الثالث: أنه يبدل الله عقاب سيئاته إذا تاب منها بثواب حسناته إذا انتقل إليها، قاله ابن بحر.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لما تقدم قبل التوبة.
{رَحِيمًا} لما بعدها.
وحكى الكلبي أن وحشيًا وهو عبد عتبة بن غزوان كتب بعد وقعة أحد وقَتْلِ حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: هل من توبة؟ فإن الله أنزل بمكة إياسي من كل خير {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ} الآية وإن وحشيًا قد فعل هذا كله، وقد زنى وأشرك وقتل النفس التي حرم الله، فأنزل الله {إلاَّ مَن تَابَ} أي من الزنى وآمن بعد الشرك وعمل صالحًا بعد السيئات، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال وحشي: هذا شرط شديد ولعلي لا أبقى بعد التوبة حتى أعمل صالحًا، فكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من شيء أوسع من هذا؟ فأنزل الله.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي. فأرسل وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنى لأخاف أن لا أكون في مشيئة الله، فأنزل الله في وحشي وأصحابه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرًُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] الآية. فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {والذين لا يدعون} الآية. إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحًا، وفي نحو هذه الآية قال عبد الله بن مسعود: قلت يومًا يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»، قلت ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك»، قلت ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: والقتل والزنا يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين ولهم من الوعيد بقدر ذلك، والحق الذي تقتل به النفس هو قتل النفس والكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان والكفر الذي لم يتقدمه إيمان في الحربيين، والأثام في كلام العرب العقاب وبه فسر ابن زيد وقتادة هذه الآية ومنه قول الشاعر: الوافر:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ** عقوقًا والعقوق له أثام

أي جزاء وعقوبة، وقال عكرمة وعبد الله بن عمرو ومجاهد إن {أثامًا} واد في جهنم هذا اسمه وقد جعله الله عقابًا للكفرة، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يضاعفْ ويخلدْ} جزمًا، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر والحسن {يضعّفْ} بشد العين وطرح الألف وبالجزم في {يضعَفْ ويخلدْ}، وقرأ طلحة بن سليمان {نضعِّف} بضم النون وكسر العين المشددة {العذابَ} نصب {ويخلد} جزم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {يضاعفُ ويخلدُ} بالرفع فيهما، وقرأ طلحة بن سلمان {وتخلد} بالتاء على معنى مخاطبة الكافر بذلك، وروي عن أبي عمرو {ويُخلَّد} بضم الياء من تحت وفتح اللام قال أبو علي وهي غلط من جهة الرواية {ويضاعفْ} بالجزم بدل من {يلق} قال سيبويه مضاعفة العذاب هي الأثام قال الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

البيت.
وقوله: {إلا من تاب} الآية لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين، فقال جمهور العلماء له التوبة وجعلت هذه الفرقة قاعدتها قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك} [النساء: 48] فجعل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من الذنوب، ويتأولون الخلود الذي في آية القتل في سورة النساء بمعنى الدوام إلى مدة كخلد الدول ونحوه، وروى أبو هريرة في أن التوبة لمن قتل حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إن هذه الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة، وقاله سعيد بن جبير، وقال ابن عباس وغيره لا توبة للقاتل، قال ابن عباس وهذه الآية إنما أريد بالتوبة فيها المشركون وذلك أنها لما نزلت {إلا من تاب} الآية، ونزلت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53]، فما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحه بها وبسورة الفتح، وقال غير ابن عباس ممن قال بأن لا توبة للقاتل إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء قاله زيد بن ثابت، ورواه أيضًا سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال أبو الجوزاء صحبت ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه فما سمعته يقول إن الله تعالى يقول لذنب لا أغفره وقوله تعالى: {يبدل الله سيئاتهم حسنات}.
معناه يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة فيكون ذلك سببًا لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو في يوم القيامة، وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي يقتضي أن الله تعالى يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة من الموحدين بدل سيئات حسنات، وذكره الترمذي والطبري وهذا تأويل ابن المسيب في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهو معنى كرم العفو، وقرأ ابن أبي عبلة {يبْدِل} بسكون الباء وتخفيف الدال.
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}.
أكد بهذه الألفاظ أمر التوبة والمعنى {ومن تاب} فإنه قد تمسك بأمر وثيق وهكذا، كما تقول لمن تستحسن قوله في أمره لقد قلت يا فلان قولًا، فكذلك الآية معناها مدح المتاب كأنه قال فإنه يجد بابًا للفرج والمغفرة عظيمًا. اهـ.