فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا، يكون الرجل على هيئة قبيحة، ثم يبدله الله بها خيرا.
وقال سعيد بن جبير: أبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم بقتال المسلمين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات.
وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما.
وهذا قول أبي العالية، وقتادة، وجماعة آخرين.
والقول الثاني: أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار. فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته، كما ثبتت السنة بذلك، وصحت به الآثار المروية عن السلف، رحمهم الله تعالى- وهذا سياق الحديث- قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سُوَيْد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة: يؤتى برجل فيقول: نَحّوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا؟ فيقول: نعم- لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا- فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة. فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها هاهنا» قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وانفرد به مسلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن يزيد، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زرعة، عن شُرَيْح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك. فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان، وكتبهن حسنات، فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة، ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، فتلك مائة».
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت- يعني: ابن يزيد أبو زيد- حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: يعطى رجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاته، فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات.
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود، حدثنا أبو العَنْبَس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات، قيل: مَنْ هم يا أبا هريرة؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات.
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر، حدثنا أبو حمزة، عن أبي الضيف- وكان من أصحاب معاذ بن جبل- قال: يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف: المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين، ثم أصحاب اليمين. قلت: لِمَ سموا أصحاب اليمين؟ قال: لأنهم عملوا الحسنات والسيئات، فأعطوا كتبهم بأيمانهم، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا- قالوا: يا ربنا، هذه سيئاتنا، فأين حسناتنا؟. فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات، فعند ذلك قالوا: {هاؤم اقرؤوا كتابيه}، فهم أكثر أهل الجنة.
وقال علي بن الحسين زين العابدين: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال: في الآخرة.
وقال مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات: [رواهما ابن أبي حاتم، وروى ابن جرير، عن سعيد بن المسيب مثله].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو جابر، أنه سمع مكحولا يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله، رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلمتَ؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن الله غافر لك ما كنت كذلك، ومبدل سيئاتك حسنات. فقال: يا رسول الله، وغَدَراتي وفَجَراتي؟ فقال: وغَدرَاتك وفَجَراتك» فَوَلّى الرجل يهلل ويكبر. وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة، عن صفوان بن عَمْرو، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي فَرْوَةَ- شَطْب- أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فقال: «أسلمتَ؟ فقال: نعم، قال: فافعل الخيرات، واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلها. قال: وغَدرَاتي وفَجَراتي؟ قال: نعم. قال فما زال يكبر حتى توارى».
ورواه الطبراني من طريق أبي فَروة الرهاوي، عن ياسين الزيات، عن أبي سلمة الحِمْصي، عن يحيى بن جابر، عن سلمة بن نفيل مرفوعًا.
وقال أيضًا: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان، عن فُلَيْح الشماس، عن عبيد بن أبي عبيد عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاءتني امرأة فقالت: هل لي من توبة؟ إني زنيت وولدت وقتلته. فقلت لا ولا نَعمت العين ولا كرامة. فقامت وهي تدعو بالحسرة. ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئسما قلت! أما كنت تقرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} فقرأتها عليها. فخرَّت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا» هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي رجاله مَنْ لا يُعرف والله أعلم. وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزَامي بسنده بنحوه، وعنده: فخرجت تدعو بالحسرة وتقول: يا حسرتا! أخلق هذا الحسن للنار؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تَطَلَّبها في جميع دور المدينة فلم يجدها، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته، فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرت ساجدة، وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا وتوبة مما عملت. وأعتقت جارية كانت معها وابنتها، وتابت إلى الله عز وجل، ثم قال تعالى مخبرًا عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان، جليل أو حقير، كبير أو صغير: فقال: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أي: فإن الله يقبل توبته، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، أي: لمن تاب إليه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والذين لا يدعون} الآية.
سأل ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها {والذين لا يدعون} الآية.
وقيل: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركون قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، فقالوا: إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت إلى {غفورًا رحيمًا}.
وقيل: نزولها قصة وحشي في إسلامه في حديث طويل.
قال الزمخشري: نفي هذه التقبيحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه.
وقال ابن عطية: إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحًا. انتهى.
وتقدم تفسير نظير {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق} في سورة الأنعام.
وقرئ {يُلق} بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة وابن مسعود وأبو رجاء يلقى بألف، كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقر الألف.
والآثام في اللغة العقاب وهو جزاء الإثم.
قال الشاعر:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ** عقوق والعقوق له آثام

أي حد وعقوبة وبه فسره قتادة وابن زيد.
وقال عبد الله بن عمرو ومجاهد وعكرمة وابن جبير: آثام واد في جهنم هذا اسمه جعله الله عقابًا للكفرة.
وقال أبو مسلم: الآثام الإثم، ومعناه {يلق} جزاء آثام، فأطلق اسم الشيء على جزائه.
وقال الحسن: الآثام اسم من أسماء جهنم.
وقيل: بئر فيها.
وقيل: جبل.
وقرأ ابن مسعود: يلق أيامًا جمع يوم يعني شدائد.
يقال: يوم ذو أيام لليوم العصيب.
وذلك في قوله: {ومن يفعل ذلك} يظهر أنه إشارة إلى المجموع من دعاء إله وقتل النفس بغير حق والزنا، فيكون التضعيف مرتبًا على مجموع هذه المعاصي، ولا يلزم ذلك التضعيف على كل واحد منها.
ولا شك أن عذاب الكفار يتفاوت بحسب جرائمهم.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يُضاعف له العذاب} مبنيًا للمفعول وبألف {ويخلد} مبنيًا للفاعل.
والحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك إلاّ أنهم شددوا العين وطرحوا الألف.
وقرأ أبو جعفر أيضًا وشيبة وطلحة بن سليمان نضعف بالنون مضمومة وكسر العين مشددة {العذاب} نصب.
وطلحة بن مصرف {يضاعف} بالياء مبنيًا للفاعل {العذاب} نصب.
وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعًا أي وتخلد أيها الكافر.
وقرأ أبو حيوة {ويُخلد} مبنيًا للمفعول مشدد اللام مجزومًا.
ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففًا.
وقرأ أبو بكر عن عاصم {يضاعف} {ويخلد} بالرفع عنهما وكذا ابن عامر والمفضل عن عاصم {يضاعف} {ويخلد} مبنيًا للمفعول مرفوعًا مخففًا.
والأعمش بضم الياء مبنيًا للمفعول مرفوعًا مخففًا.
والأعمش بضم الياء مبنيًا للمفعول مشددًا مرفوعًا فالرفع على الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من {يلق}.
كما قال الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطبًا جزلًا ونارًا تأججًا

والضمير في {فيه} عائد على العذاب، والظاهر أن توبة المسلم القاتل النفس بغير حق مقبولة خلافًا لابن عباس، وتقدم ذلك في النساء وتبديل سيئاتهم حسنات هو جعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة ويكون ذلك سبب رحمة الله إياهم قاله ابن عباس.
وابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وردوا على من قال هو في يوم القيامة.
وقال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة، ولكن السيئة تُمْحَى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يحبط عملة وتثبت عليه السيئات.
وتأول ابن مسيب ومكحول أن ذلك يوم القيامة وهو بمعنى كرم العفو.
وفي كتاب مسلم إن الله يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئات حسنات.
وقالا تُمحى السيئة ويثبت بدلها حسنة.
وقال القفال والقاضي: يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما.
{إلاّ من تاب} استثناء متصل من الجنس، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه {يضاعف له العذاب} فيصير التقدير {إلاّ من تاب وعمل عملًا صالحًا} فلا يضاعف له العذاب.
ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعًا أي لكن من تاب وآمن عمل صالحًا {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} وإذا كان كذلك فلا يلقى عذابًا ألبتة و{سيئاتهم} هو المفعول الثاني، وهو أصله أن يكون مقيدًا بحرف الجر أي بسيئاتهم.
و{حسنات} هو المفعول الأول وهو المصرح كما قال تعالى: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين} وقال الشاعر:
تضحك مني أخت ذات النحيين ** أبدلك لله بلون لونين

سواد وجه وبياض عينين ** الظاهر أن {ومن تاب} أي أنشأ التوبة فإنه يتوب إلى الله أي يرجع إلى ثوابه وإحسانه
قال ابن عطية {ومن تاب} فإنه قد تمسك بأمر وئيق.
كما تقول لمن يستحسن قوله في أمر: لقد قلت يا فلان قولًا فكذلك الآية معناها مدح المتاب، كأنه قال: فإنه يجد الفرج والمغفرة عظيمًا.
وقال الزمخشري: ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإن بذلك تائب إلى الله الذي يعرف حق التائبين، ويفعل بهم ما يستوجبون، والله يحب التوّابين ويحب المتطهرين.
وقيل: من عزم على التوبة فإنه يتوب إلى الله فليبادر إليها ويتوجه بها إلى الله.
وقيل {من تاب} من ذنوبه فإنه يتوب إلى من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
وقيل: {ومن تاب} استقام على التوبة فإنه يتوب إلى الله أي فهو التائب حقًا عند الله. اهـ.