فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ أبو بكر عن عاصم {يضاعف وَيَخْلُدْ} بالرفع فيهما، وكذا ابن عامر: والمفضل عن عاصم {يضاعف وَيَخْلُدْ} مبنيًا للمفعول مرفوعًا مخففًا.
والأعمش بضم الياء مبنيًا للمفعول مشددًا مرفوعًا وقد عرفت وجه الجزم، وأما الرفع فوجهه الاستئناف، ويجوز جعل الجملة حالًا من فاعل {يَلْقَ} [الفرقان: 68]، والمعنى يلق أثامًا مضاعفًا له العذاب، ومضاعفته مع قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] وقوله سبحانه: {وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] قيل لانضمام المعصية إلى الكفر، ويدل عليه قوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ} فإن استثناء المؤمن يدل على اعتبار الكفر في المستثنى منه. وأورد عليه أن تكرر لا النافية يفيد نفي كل من تلك الأفعال بمعنى لا يوقعون شيئًا منها فيكون {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} [الفرقان: 68] بمعنى ومن يفعل شيئًا من ذلك ليتحد مورد الإثبات والنفي فلا دلالة على الانضمام، والمستثنى من جمع بين ما ذكر من الإيمان والتوبة والعمل الصالح فيكون المستثنى منه غير جامع لها، فلعل الجواب أن المضاعفة بالنسبة إلى عذاب ما دون المذكورات.
وتعقب بأن الجواب المذكور لا بعد فيه وإن لم يذكر ما دونها إلا أن الإيراد ليس بشيء لأن الكلام تعريض للكفرة ومن يفعل شيئًا من ذلك منهم فقد ضم معصيته إلى كفره ولو لم يلاحظ ذلك على ما اختاره لزم أن من ارتكب كبيرة يكون مخلدًا ولا يخفى فساده عندنا، وما ذكر من اتحاد مورد الإثبات والنفي ليس بلازم.
ثم إن في الكلام قرينة على أن المستثنى منه من جمع بين أضدادها كما علمت ولذا جمع بين الإيمان والعمل الصالح مع أن العمل مشروط بالإيمان فذكره للإشارة إلى انتفائه عن المستثنى منه ولذا قدم التوبة عليه، ويحتمل أن تقديمها لأنها تخلية، وقال بعضهم: ليس المراد بالمضاعفة المذكورة ضم قدرين متساويين من العذاب كل منهما بقدر ما تقتضيه المعصية بل المراد لازم ذلك وهو الشدة فكأنه قيل: ومن يفعل ذلك يعذب عذابًا شديدًا ويكون ذلك العذاب الشديد جزاء كل من تلك الأفعال ومماثلًا له، والقرينة على المجاز قوله تعالى: {وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] ونحوه، ويراد من الخلود المكث الطويل الصادق بالخلود الأبدي وغيره، ويكون لمن أشرك باعتبار فرده الأول، ولمن ارتكب إحدى الكبيرتين الأخيرتين باعتبار فرده الآخر وهو كما ترى، ومثله ما قيل من أن المضاعفة لحفظ ما تقتضيه المعصية فإن الأمر الشديد إذا دام هان.
هذا والظاهر أن الاستثناء متصل على ما هو الأصل فيه، وقال أبو حيان: الأولى عندي أن يكون منقطعًا أي لكن من تاب الخ لأن المستثنى منه على تقدير الاتصال محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف لقاء العذاب غير المضعف، وفيه إن قوله تعالى الآتي: {فَأُوْلَئِكَ} الخ احتراس لدفع توهم ثبوت أصل العذاب بإفادة أنهم لا يلقونه أصلًا على أكمل وجه، وقيل أيضًا في ترجيح الانقطاع: إن الاتصال مع قطع النظر عن إيهامه ثبوت أصل العذاب بل وعن إيهامه الخلود غير مهان يوهم أن مضاعفة العمل الصالح شرط لنفي الخلود مع أنه ليس كذلك.
ثم أية ضرورة تدعو إلى أن يرتكب ما فيه إيهام ثم يتشبث بأذيال الاحتراس، على أن الظاهر أن يجعل من مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبره وقرنت بذلك لوقوعها خبرًا عن الموصول كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم، وأنا أميل لما مال إليه أبو حيان لمجموع ما ذكر، وذكر الموصوف في قوله سبحانه: {وَعَمِلَ عَمَلًا صالحا} مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء به والتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة.
{فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصول، والجمع باعتبار معناه كما أن الإفراد في الأفعال الثلاثة باعتبار لفظه أي فأولئك الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.
{يُبَدّلُ الله} في الدنيا {سَيّئَاتِهِمْ حسنات} بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم كما يشير إلى ذلك كلام كثير من السلف، وقيل: المراد بالسيئات والحسنات ملكتهما لأنفسهما أي يبدل عز وجل بملكة السيئات ودواعيها في النفس ملكة الحسنات بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية، وقيل: هذا التبديل في الآخرة، والمراد بالسيئات والحسنات العقاب والثواب مجازًا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى يعفو جل وعلا عن عقابهم ويتفضل سبحانه عليهم بدله بالثواب، وإلى هذا ذهب القفال والقاضي، وعن سعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون ومكحول أن ذلك بأن تمحي السيئات نفسها يوم القيامة من صحيفة أعمالهم ويكتب بدلها الحسنات، واحتجوا بالحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وينحي عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وهو يقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول: إن لي ذنوبًا لم أرها هنا قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه»، ونحو هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام «ليأتين ناس يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات قيل: من هم؟ قال صلى الله عليه وسلم الذين يبدل الله تعالى سيئاتهم حسنات» ويسمى هذا التبديل كرم العفو، وكأنه لذلك قال أبو نواس:
تعض ندامة كفيك مما ** تركت مخافة الذنب السرورا

ولعل المراد إنه تغفر سيئاته ويعطى بدل كل سيئة ما يصلح أن يكون ثواب حسنة تفضلًا منه عز وجل وتكرمًا لا أنه يكتب له أفعال حسنات لم يفعلها ويثاب عليها، وفي كلام أبي العالية ما هوظ اهر في إنكار تمني الاستكثار من السيآت، فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قيل له: إن أناسًا يزعمون أنهم يتمنون أن يستكثروا من الذنوب فقال: ولم ذلك؟ فقيل: يتأولون هذه الآية {فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} وكان أبو العالية إذا أخبر بما لا يعلم قال: آمنت بما أنزل الله تعالى من كتابه فقال ذلك ثم تلا هذه الآية {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا} [آل عمران: 30] وكأنه ظن أن ما تلاه مناف لما زعموه من التمني، ويمكن أن يقال: إن ما دلت عليه تلك الآية يكون قبل الوقوف على التبديل والله تعالى أعلم.
{وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله.
{وَمَن تَابَ} أي عن المعاصي التي فعلها بتركها بالكلية والندم عليها {وَعَمِلَ صالحا} يتلافى به ما فرط منه أو ومن خرج عن جنس المعاصي وإن لم يفعله ودخل في الطاعات {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله} أي يرجع إليه سبحانه بذلك {مَتابًا} أي رجوعًا عظيم الشأن مرضيًا عنده تعالى ما حيا للعقاب محصلًا للثواب أو فإنه يتوب إلى الله تعالى ذي اللطف الواسع الذي يحب التائبين ويصطنع إليهم أو فإنه يرجع إلى الله تعالى أو إلى ثوابه سبحانه مرجعًا حسنًا، وأيًا ما كان فالشرط والجزاء متغايران، وهذا لبيان حال من تاب من جميع المعاصي وما تقدم لبيان من تاب من أمهاتها فهو تعميم بعد تخصيص. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}.
أي: لا يشركون بعبادة ربهم أحدًا، فالدعاء بمعنى العبادة: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} أي: حرمها بمعنى حرّم قتلها. ومنه الوأد وغيره: {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: المزيل لحرمتها وعصمتها: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: ما ذكر من هذه القبائح العظام: {يَلْقَ أَثَامًا} أي: يجد في الآخرة جزاء إثمه: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} أي: ذليلًا محتقرًا جامعًا لعذابي الجسم والروح: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: لمن تاب وآمن وعمل صالحًا.
قال الحافظ ابن كثير: وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل. ولا تعارض بين هذه وآية النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] الآية، فإن هذه، وإن كانت مدنية، إلا أنها مطلقة. فتحمل على من لم يتب. لأن هذه مقيدة بالتوبة. ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48 و116] الآية، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل. كما ذكر مقررًا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته، وغير ذلك من الأحاديث. ثم قال: وفي معنى قوله تعالى: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قولان:
أحدهما: أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية: هم المؤمنون. كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن السيئات. فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وكذا قال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين. وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وكذا قال الحسن: أبدلهم بالعمل السيء العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا، وبالفجور إحصانًا، وبالكفر [في المطبوع: بالفكر] إسلامًا.
القول الثاني: إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح، حسنات. وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى، ندم واسترجع واستغفر. فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار. انتهى.
ولابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين في هذا المقام بسط حسن وتناظر متقن، لا بأس بإيراده، لعظم فائدته.
قال رحمه الله بعد شرحه لحديث فرح الله بتوبة عبده ما مثاله: وها هنا مسألة، هذا الموضع أخص المواقع ببيانها. وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحًا، فهل تمحى تلك السيئات وتذهب، لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه، من المفسرين وغيرهم، قديمًا وحديثًا. فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. قال ابن عطية: يجعل أعمالهم، بدل معاصيهم الأولى طاعة. فيكون ذلك سببًا لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن. ورد على من قال هو في يوم القيامة. قال: وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة، يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين، بدل سيئاته حسنات. وذكره الترمذيّ والطبريّ. وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية.
قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو. انتهى. وسيأتي ذكر الحديث والكلام عليه.
وقال الثعلبيّ: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} يبدلهم الله تقبيح أعمالهم في الشرك، محاسن الأعمال في الإسلام. فيبدلهم بالشرك وبقتل المؤمنين، قتل المشركين. وبالزنى، عفة وإحصانًا.
وقال آخرون: يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم، حسنات يوم القيامة وأصل القولين، أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال إنه في الدنيا، قال: هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها. وهي حسنات، وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة تنقلب حسنة، بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها، فأما أن تنقلب حسنة فلا. فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب، فكيف تنقلب محبوبة مرضية؟
قالوا: وأيضًا فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عِمْرَان: 193]، وقوله: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن مُحْرِز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب! أعرف قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته».
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل.
فهذا الحديث المتفق عليه، والذي تضمن العناية بهذا العبد، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة. ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة. فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها.