فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لذلك يقول الله تعالى في موضع آخر: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
وقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
فالوِزْر الأول لضلالهم في ذاته، والوِزْر الآخر؛ لأنهم أضلّوا غيرهم، هذا هو المراد بمضاعفة العذاب.
وقوله تعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] معنى {مُهَانًا} حينما وصف القرآن العذاب وصفه مرةً بأنه أليم، ومرةً عظيم، ومرة مُهين. فالذي ينظر إلى إيلام الجوارح يقول: هذا عذاب أليم؛ لأنه يُؤلم كل جارحة فيه، فالعذاب أمر حِسيّ، أما الإهانة فأمر معنوي، ومن الناس مَنْ تؤلمه كلمة تنال من كرامته، ومنهم مَنْ يُضرب فلا يؤثر فيه.
والخالق عز وجل خلق الناس وعلم أزلًا أنهم أبناء أغيار، ليس معصومًا منهم إلا الرسل، إذن: فالسيئة مُحْتملة منهم.
ومن تمام رحمته تعالى بربوبيته أنْ فتح باب التوبة لعباده، لمن أسرف منهم على نفسه في شيء؛ لأن صاحب السيئة إنْ يئس من المغفرة استشرى خطره وزاد فساده، لكن إنْ فتحتَ له باب التوبة والمغفرة عاد إلى الجادة، واستقام على الطاعة، وفي هذا رحمة بالمجتمع كله.
يقول تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}.
فربُّكم كريم ورحيم، إنْ تُبتْم تاب عليكم وقَبِلكم، فإنْ قدَّمْتُم العمل الصالح واشتدّ ندمكم على ما فات منكم من معصية يُبدِّل سيئاتكم حسنات.
وللتوبة أمران: مشروعيتها من الله أولًا، وقبولها من صاحبها ثانيًا، فتشريعها فَضْل، وقبولها فَضْل آخر؛ لذلك يقول سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118] والمعنى: تاب عليهم بأنْ شرَّع لهم التوبة حتى لا يستحُوا من الرجوع إلى الله.
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70] تاب وآمن لمن عمل معصية تُخرجه عن الإيمان، فالعاصي لم يقارف المعصية إلا في غفلة عن إيمانه، كما جاء في الحديث الشريف: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
ولو استحضر العاصي جلالَ ربه ما عصاه، ولتضخمتْ عنده المعصية فانصرف عنها، وما دام قد غاب عنه إيمانه فلابد له من تجديده، ثم بعد ذلك يُوظِّف هذا الإيمان في العمل الصالح.
{إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70] فالجزاء {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وليس المراد أن السيئة تُبدَّل فتصير حسنة مباشرة، إنما يرفع العبد السيئة ويحل محلها التوبة، وبعد التوبة يضع الله له الحسنة.
وقد أطمعتْ رحمة الله ومغفرته بعض الناس، حتى قال الشاعر:
مَوْلاَي إنِّي قَدْ عصيتُكَ عَامِدًا ** لأراكَ أجملَ ما تكُون غَفُورًا

وَلَقْد جنيْتُ مِنَ الذُّنُوبِ كبَارَهَا ** ضَنًّا بعفْوِك أنْ يكُونَ صَغِيرًا

حتى وصل الحال ببعضهم أنْ يستكثر من السيئة طمعًا في أن تُبدَّل حسنات، لكن مَنْ يضمن له أن يعيش إلى أنْ يتوب، أو أنه إنْ تاب قَبِل الله منه؟
والعلة النفسية التي تكلَّم عنها العلماء في هذه المسألة أن الذي ابتعد عن المعصية فلم يقع في شراكها لم يدرك لذة الشهوة، فلا تَأْتِي على باله، أمّا مَنْ خاض فيها، وذاق لذتها، وأسرف فيها على نفسه فيعاني كثيرًا حينما يحجز نفسه وينأى به عن معصية الله، فهذه المعاناة هي التي جعلتْ له هذه المنزلة.
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}.
معنى {يَتُوبُ إِلَى الله مَتابًا} [الفرقان: 71] يعني: توبة نصوحًا، لا عودة بعدها إلى المعصية، لا يرجع في توبته كالمستهزيء بربه، يقول: أفعل كذا ثم أتوب، وكلمة {مَتابًا} [الفرقان: 71] تعني: العزم ساعةَ أنْ يتوبَ ألاَّ يعود، والخطر في أن يُقدِم العبد على الذنب لوجود التوبة، فقد بُقبض في حال المعصية، وقبل أنْ يُمِكنه التوبة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}.
أخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن مسعود قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}.
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن ناسًا من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا، وزنوا ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لَحَسَنٌ لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؛ فنزل {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} ونزلت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: 53].
وأخرج البخاري وابن المنذر من طريق القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جبير هل لمن قتل مؤمنًا متعمدًا من توبة؟ فقرأت عليه {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} فقال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها عليَّ فقال: هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء.
وأخرج ابن المبارك عن شفي الأصبحي قال: إن في جهنم جبلًا يدعى: صعودًا. يطلع فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يرقاه، وإن في جهنم قصرًا يقال له: هوى. يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفًا قبل أن يبلغ أصله. قال تعالى: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} [طه: 81] وأن في جهنم واديًا يدعى: أثامًا. فيه حيات وعقارب في فقار احداهن مقدار سبعين قلة من السم، والعقرب منهن مثل البغلة الموكفة، وإن في جهنم واديًا يدعى: غيًا. يسيل قيحًا ودمًا.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلوات لمواقيتهن. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، ولو استزدته لزادني» وسألته أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «الشرك بالله قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك أن يطعم معك فما لبثنا إلا يسيرًا» حتى أنزل الله {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}.
وأخرج ابن مردويه عن عون بن عبد الله قال: سألت الأسود بن يزيد هل كان ابن مسعود يفضل عملًا على عمل؟ قال: نعم. سألت ابن مسعود قال: سألتني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أي الأعمال أحبها إلى الله وأقربها من الله؟ قال: «الصلاة لوقتها قلت: ثم ماذا على اثر ذلك؟ قال: ثم بر الوالدين قلت: ثم ماذا على أثر ذلك؟ قال: الجهاد في سبيل الله، ولو استزدته لزادني» قلت: فأي الأعمال أبغضها إلى الله وأبعدها من الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك أن يأكل معك، وإن تزاني حليلة جارك» ثم قرأ {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل «إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتذر الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغدو كلبك، وينهاك أن تزني بحليلة جارك».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر في قوله: {يلق أثامًا} قال: واد في جهنم.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {يلق أثامًا} قال: واد في جهنم من قيح ودم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: {أثام} أودية في جهنم فيها الزناة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {يلق أثامًا} قال: نكالًا. وكنا نحدث أنه واد في جهنم، وذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني إياك والزنا فإن أوّله مخافة، وآخره ندامة.
وأخرج ابن المبارك في الزهد عن شفي الأصبحي قال: إن في جهنم واديًا يدعى: أثامًا. فيه حيات وعقارب في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من السم، والعقرب منهن مثل البغلة الموكفة.
وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: {يلق أثامًا} ما الأثام؟ قال: الجزاء قال فيه عامر بن الطفيل:
وروّينا الأسنة من صداء ** ولاقت حمير منا أثاما

وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {ومن يفعل ذلك يلق أثامًا}.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {يضاعف} بالرفع {له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه} بنصب الياء ورفع اللام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {ويخلد فيه} يعني في العذاب {مهانًا} يعني يهان فيه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} اشتد ذلك على المسلمين فقالوا: ما منا أحد إلا أشرك، وقتل، وزنى، فأنزل الله {يا عبادي الذين أسرفوا} [الزمر: 53]. يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك، ثم نزلت بعده {إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} فأبدلهم الله بالكفر الإِسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالانكار المعرفة، وبالجهالة العلم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: نزلت آية من تبارك بالمدينة في شأن قاتل حمزة وحشي وأصحابه كانوا يقولون: انا لنعرف الإِسلام وفضله فكيف لنا بالتوبة وقد عبدنا الأوثان، وقتلنا أصحاب محمد، وشربنا الخمور، ونكحنا المشركات؟! فأنزل الله فيهم {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} الآية. ثم أنزلت توبتهم {إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} فأبدلهم الله بقتال المسلمين قتال المشركين، ونكاح المشركات نكاح المؤمنات، وبعبادة الأوثان عبادة الله.
وأخرج عبد بن حميد عن عامر أنه سئل عن هذه الآية {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر}. قال: هؤلاء كانوا في الجاهلية فأشركوا، وقتلوا وزنوا. فقالوا: لن يغفر الله لنا. فأنزل الله {إلا من تاب}. قال: كانت التوبة والإِيمان والعمل الصالح، وكان الشرك والقتل والزنا. كانت ثلاث مكان ثلاث.
وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قرأنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سنين {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} ثم نزلت {إلا من تاب وآمن} فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها، وفرحه بأنا [الفتح: 1].
وأخرج عبد بن حميد عن أبي مالك قال: لما نزلت {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كنا أشركنا في الجاهلية، وقتلنا، فنزلت {إلا من تاب}.
وأخرج أبو داود في تاريخه عن ابن عباس {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} ثم استثنى {إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة ثم انصرفت، فاذا امرأة عند بابي فقالت: جئتك أسألك عن عمل عملته هل ترى لي منه توبة؟ قلت: وما هو؟ قالت: زنيت وولد لي وقتلته قلت: لا، ولا كرامة. فقامت وهي تقول: واحسرتاه..! أيخلق هذا الجسد للنار؟ فلما صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك الليلة قصصت عليه أمر المرأة قال: ما قلت لها؟ قلت لا، ولا كرامة قال: بئس ما قلت. أما كنت تقرأ هذه الآية! {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} إلى قوله: {إلا من تاب} الآية، قال أبو هريرة: فخرجت فما بقيت دار بالمدينة ولا خطة إلا وقفت عليها فقلت: إن كان فيكم المرأة التي جاءت أبا هريرة فلتأت ولتبشر. فلما انصرفت من العشي إذا هي عند بابي فقلت: ابشري إني ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ما قلت لي، وما قلت لك فقال: بئس ما قلت أما كنت تقرأ هذه الآية! وقرأتها عليها فخرت ساجدة وقالت: أحمد الله الذين جعل لي توبة ومخرجًا، أشهد أن هذه الجارية لجارية معها وابن لها حران لوجه الله، وإني قد تبت مما عملت.